بين ما تعلنه الحكومة من التزامات لمحاربة البطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وما يجري على أرض الواقع في بعض المناطق المهمشة، تتكشف فجوة خطيرة قد تنسف ثقة المواطنين في البرامج العمومية، وضمنها “أوراش 2″، البرنامج الحكومي الذي أطلق وسط وعود كبيرة بإدماج الفئات الهشة في سوق الشغل، يتحول في إقليم أزيلال إلى مرآة تعكس وجها آخر: شبهات نصب، استغلال للأمية والفقر، واتهامات بمحسوبية وغياب الشفافية.

تحقيق “” يقودنا إلى دمنات، حيث تروي سيدة أمية تفاصيل صادمة عن كيفية تحويل اسمها إلى “مستفيدة” وهمية من برنامج حكومي دون علمها، فيما تُودع مبالغ مالية في حسابها البنكي يسحبها آخرون، تحت غطاء “المساعدة”. ومع تراكم الشهادات والتحقيقات البنكية، تنقلب المبادرة الاجتماعية النبيلة إلى ملف أمام القضاء، وتفتح الباب أمام تساؤلات محرجة: من يحمي الفئات المستضعفة من عبث بعض الجمعيات؟ ومن يضمن أن لا يتحول المال العام إلى غنيمة في يد المحظوظين؟

يمثل برنامج “أوراش” الحكومي، في نسخته الثانية “أوراش 2″، أحد الركائز الأساسية في الاستراتيجية الحكومية لمواجهة تحديات البطالة وتعزيز الإدماج السوسيو اقتصادي، خاصة للفئات الهشة وغير الحاملة للشواهد، والمتضررين من الأزمات الاقتصادية.

ويهدف هذا البرنامج، الذي أطلقته حكومة عزيز أخنوش بغلاف مالي ضخم، إلى خلق فرص شغل مباشرة وتحسين قابلية التشغيل من خلال التكوين والتغطية الاجتماعية. إنها مبادرة تحمل أهدافا نبيلة، لكن واقع تنزيلها على الأرض، خاصة في بعض المناطق ذات الطابع القروي كإقليم أزيلال، أثار وما زال يثير جدلا واسعا وشبهات خطيرة، تحولت في بعض الأحيان إلى قضايا معروضة أمام القضاء. ففي مدينة دمنات، تبرز قصة سيدة أمية كنموذج صارخ لما يمكن أن يحدث لبرنامج ذي نية حسنة، عندما تطاله أيادي الاستغلال وغياب الشفافية.

من “أوراش” إلى فخ النصب والاحتيال؟

تستعيد السيدة (ف.ر)، وهي امرأة أمية من مدينة دمنات بإقليم أزيلال، فصول قصة مؤلمة وحكاية استغلال لجهلها وثقتها من فاعل جمعوي وعضو في جمعية محلية يفترض فيها العمل لما فيه مصلحة المجتمع، وذلك في صيف 2023.

ووفقا لرواية السيدة (ف.ر)، التي حصلت جريدة “” على تفاصيلها الحصرية، استغل (س.هـ) ثقتها وقرابته العائلية منها ليوقعها في شباك عملية نصب محكمة. طلب منها في البداية التوقيع على وثائق بدعوى أنها تتعلق بتأسيس جمعية جديدة، ثم اصطحبها إلى وكالة بنكية تابعة لـ “التجاري وفا بنك” لفتح حساب بنكي، حيث طُلب منها التوقيع على المزيد من الأوراق التي لم تكن تقرأ محتواها. وتضيف السيدة أنها تسلمت بطاقة سحب آلي (carte bancaire)، لكن (س.هـ) احتفظ بها لنفسه، بل وزعم للبنك أن رقم هاتفه الشخصي هو رقم هاتفها الخاص، في خطوة لاحقة أظهرت التحقيقات البنكية أهميتها في إتمام عملية الاستيلاء على الأموال.

لم تكن (ف.ر) تدرك في تلك اللحظة أنها بصدد فتح حساب بنكي ستودع فيه مستحقات مالية مهمة من برنامج حكومي. كل ما كانت تعلمه، حسب روايتها، هو أنها كانت تتلقى مبلغا زهيدا قدره 300 درهم شهريا على مدى أربعة أشهر، يسلمه إياها (س.هـ) عبر شقيقها. كان التبرير المقدم لهذه المبالغ أنها “مساعدة مالية شخصية” منه لها، في صورة كرست لديه فكرة أنه يقدم لها عونا إنسانيا، بينما كانت الحقيقة، كما تكشفت لاحقا، أبشع بكثير.

الصدمة الكبرى وتبريرات لنفي التهم

تذكر السيدة (ف.ر) أن الصدمة الكبرى التي كشفت المستور كانت عندما تقدمت بطلب للاستفادة من برنامج الدعم الحكومي المباشر المخصص للأسر المعوزة. فوجئت بقرار رفض طلبها، وحين استفسرت عن السبب، قيل لها إنها مستفيدة بالفعل من برنامج حكومي آخر هو “أوراش”، وتتقاضى أجرا شهريا عن ذلك يبلغ 3000 درهم، وبالتالي ارتفع مؤشرها وحرمها من مساعدة حكومية تقدر بـ 500 درهم شهريا.

هنا فقط، أدركت السيدة الأمية حجم الخديعة وعمق عملية النصب التي تعرضت لها. راتب شهري قدره 3000 درهم يودع في حساب بنكي باسمها، بينما هي لم تتسلم سوى 300 درهم شهريا، ولم تعمل يوما واحدا في البرنامج المذكور، ولم تكن تعلم حتى أنها مسجلة فيه. تبخرت أحلامها في الحصول على دعم يسير أمور حياتها الصعبة، لتحل محلها مرارة الخيانة والاستغلال.

في المقابل، يدافع (س.هـ) عن نفسه بقوة وينفي نفيا قاطعا تعريضه السيدة (ف.ر) لأي عملية نصب. وفقا للمعلومات التي استقتها “العمق”، يزعم (س.هـ) أن السيدة هي من طلبت منه المساعدة للتسجيل في برنامج “أوراش”، وأنها كانت تعمل بالفعل في تنظيف مقر الجمعية المكلفة بتنزيل البرنامج. ويدعي أنه كان يسحب المبلغ كاملا من الحساب ويسلمها للسيدة كاملة، نافيا احتفاظه بأي جزء منها.

ولدعم روايته، قدم (س.هـ) لائحة بأسماء أشخاص آخرين قال إنهم عملوا مع (ف.ر) في نفس الفترة وضمن نفس الورش. كما قدم إشهادا وتصريحا موقعا من السيدة (ف.ر) يفيد تسلمها لكافة مستحقاتها المالية. لكن السيدة ترد على ذلك التأكيد بأنها وقعت على الإشهاد دون علم بمحتواه، بعد أن أقنعها (س.هـ) بأنه مجرد وثيقة ضرورية “لتصحيح وضعيتها الإدارية”.

شهود ومعاملات بنكية مشبوهة

بناء على تعليمات النيابة العامة، باشرت الضابطة القضائية بدمنات تحقيقات معمقة في القضية. وشملت الأبحاث مواجهات بين الطرفين، واستدعاء عدد من الشهود للوقوف على حقيقة الادعاءات. كان من بين الشهود شقيق الضحية (م.ر)، وآخرون وردت أسماؤهم في اللائحة التي قدمها (س.هـ) كعاملين مزعومين إلى جانب (ف.ر) في برنامج “أوراش”.

اللافت، والمثير للشك، هو أن شهادات عدد من هؤلاء الذين زعم (س.هـ) عملهم مع (ف.ر) جاءت لتتناقض تماما مع روايته. فقد أكد هؤلاء للضابطة القضائية عدم معرفتهم بالسيدة المعنية إطلاقا، وأنها لم تكن حاضرة بينهم خلال فترة عملهم المزعومة معها. بل ونفوا ظهورها في أي من الصور الجماعية التي تم التقاطها للمشاركين في البرنامج، مما يثير تساؤلات حول حقيقة وجودها كعاملة في الورش من الأساس، ويدعم رواية السيدة الأمية.

كما كشفت التحريات البنكية التي أجريت على الحساب الخاص بالسيدة (ف.ر) عن استخدام بطاقة السحب الآلي الخاصة بها في معاملات تجارية بمتجر “بيم”، وهو ما نفت (ف.ر) علمها به أو قيامها بأي من هذا النوع من المعاملات. وفي محاولة للتبرير، اعترف (س.هـ) بإجرائه لتلك العمليات البنكية، مدعيا أنه كان بعلم السيدة، وهو ما تنفيه السيدة الأمية بشدة، خاصة وأنها لم تكن حتى تحتفظ بالبطاقة.

القضية أمام القضاء.. متابعة وكفالة

بعد استكمال الأبحاث والتحقيقات التي جمعت بين أقوال الأطراف وشهادات الشهود والمعطيات البنكية، قررت النيابة العامة متابعة (س.هـ) بتهمتي النصب وخيانة الأمانة. وتم إخلاء سبيله في حالة سراح، بكفالة مالية قدرها 15 ألف درهم.

وتم تحديد موعد الجلسة الأولى للنظر في القضية أمام المحكمة الابتدائية بأزيلال يوم الثلاثاء الماضي. إلا أن الهيئة القضائية قررت تأجيل النظر في الملف إلى 14 يوليوز المقبل، لاستدعاء باقي المصرحين .

 شبهات تتجاوز قضية سيدة أمية وغموض يثير الاستياء

تُعتبر قصة السيدة (ف.ر) في دمنات، مجرد قمة جبل الجليد أو الوجه الأكثر وضوحا لمجموعة من الشبهات التي تحوم حول طريقة تنزيل برنامج “أوراش 2″ في إقليم أزيلال بشكل عام. فالبرنامج، الذي خصص له غلاف مالي مهم وأهداف اجتماعية نبيلة تتمثل في إدماج الفئات المعوزة في سوق الشغل وتوفير دخل يحفظ كرامتها، وجد نفسه في مواجهة اتهامات مباشرة بغياب الشفافية، وتغليب منطق المحسوبية والزبونية في اختيار المستفيدين.

مباشرة بعد الإعلان عن انطلاق البرنامج، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي بالإقليم موجة عارمة من الاستياء والانتقاد بسبب ما وصفه نشطاء بـ”عدم وضوح المعايير” التي تم اعتمادها لانتقاء المستفيدين. ورصد متابعون للشأن المحلي تفاوتا كبيرا في طرق الاختيار بين جماعة وأخرى وحتى بين جمعية وأخرى داخل نفس الإقليم. ففي الوقت الذي لجأت فيه بعض الجمعيات إلى آلية “القرعة” التي اعتبرها البعض “الآلية الأكثر ديمقراطية وإنصافا” ونشرت لوائح المستفيدين بكل شفافية (مثل بعض الجمعيات في أزيلال، تلوكيت، تباروشت، وجمعية التواصل بامليل)، فضلت جمعيات أخرى اعتماد طرق غير معلنة أو معروفة للانتقاء، مما غذى الشكوك وأثار الريبة.

اعتبر العديد من المنتقدين أن هذا الغموض والسرية في عملية اختيار المستفيدين يتنافيان بشكل صارخ مع المبادئ الدستورية والقانونية التي تضمن الحق في الحصول على المعلومة، وعلى رأسها الفصل 27 من الدستور وقانون الحق في الحصول على المعلومات 31.13 الذي يلزم الإدارات والهيئات المكلفة بالمرفق العام بالنشر الاستباقي لهذا النوع من المعلومات لضمان الشفافية.

ولم تقتصر الانتقادات على غياب الشفافية، بل تجاوزتها إلى اتهامات مباشرة بالتوظيف السياسي للبرنامج وتغليب منطق “باك صاحبي”. ففي تدوينة مطولة سابقة على حسابه بالفيسبوك، أشار عبدالعالي العوفير، عضو بجماعة دمنات، إلى أن القائمين على “أوراش” بالمدينة “يحتكمون إلى منطق باك صاحبي”، مؤكدا أن الاستفادة “طالت ذوي القربى من السياسيين والمنتخبين والمسييرين للشأن المحلي”. وعزا ذلك إلى “تدخلات علنية وسرية” من قبل ما وصفها بـ”كائنات انتخابية وسياسية”، مما أدى إلى “غياب تام لتكافؤ الفرص والمعايير المعلنة”.

اعتبر العوفير أن هذه الممارسات “أغرقت البرنامج في مستنقع العبث” الذي يعيق التنمية، ودعا الجهات المسؤولة إلى “تحمل مسؤوليتها التاريخية للقطع مع هذه الممارسات البائدة في الانتقاء على أساس الولاءات والقرابة”، مطالبا بضرورة نشر لوائح المستفيدين بشكل دوري وشفاف وإعطاء الأولوية للشباب العاطل والفئات الهشة. كما دعا إلى فتح تحقيق عاجل وتشكيل لجنة مستقلة للوقوف على “الخروقات” و”الأشباح” الذين يستفيدون دون أن يلتحقوا بالعمل.

من جهته، أكد عبداللطيف بوغالم، عضو المجلس الجماعي بدمنات أيضا، أن أعضاء من المجلس سبق لهم الاجتماع مع باشا المدينة لتقييم “أوراش 1” والتنبيه إلى الاختلالات التي عرفها البرنامج الأول، مؤكدين على ضرورة تداركها في “أوراش 2″ عبر نشر أسماء المستفيدين لـ”قطع الطريق أمام بعض الممارسات التي تسيء لأهداف البرنامج” وضمان استفادة جميع أحياء المدينة بشكل متساوٍ.

مطالب معلقة وردود مبهمة

تعكس قضية السيدة (ف.ر) وشبهات الانتقاء في دمنات أزمة أوسع تتعلق بالشفافية والحق في الحصول على المعلومة فيما يخص البرامج العمومية. فغياب نشر لوائح المستفيدين بشكل رسمي وواضح أثار العديد من علامات الاستفهام. وفي محاولة عملية لتطبيق مبدأ الحق في المعلومة، تواصل أحد الحقوقيين مع المجلس الإقليمي بأزيلال قبل أكثر من سنة ونصف عبر منصة “شفافية” لطلب لائحة المستفيدين من البرنامج، إلا أنه لم يتلق أي رد خلال الأجل القانوني.

عندما لجأ طالب المعلومة إلى لجنة الحق في الحصول على المعلومة، اضطر المجلس الإقليمي للرد، لكن رده كان مبهما، حيث أفاد بأن لديه فقط أسماء الجمعيات والتعاونيات المتعاقدة لتنزيل البرنامج، وأن اللائحة الاسمية للمستفيدين توجد فقط لدى الجمعيات المتعاقدة. وهو ما اعتبره طالب المعلومة “رفضا صريحا وغير مبرر للإعلان عن الأسماء”، مما يزيد من الشكوك حول ما يجري خلف الكواليس في عملية الاختيار.

دعوة لكشف الحقيقة

تكشف قضية السيدة (ف.ر) وما رافقها من اتهامات بغياب الشفافية والمحسوبية في برنامج “أوراش 2” بإقليم أزيلال عن اختلالات تهدد مصداقية مشروع حكومي يُفترض أن يخدم العدالة الاجتماعية. وتبرز الحاجة الملحة لتحقيق مستقل ونشر شفاف للوائح المستفيدين، ضمانا للمحاسبة واستعادة الثقة.

لكن، هل تتحرك الجهات المسؤولة قبل أن يفقد المواطنون ثقتهم الكاملة في البرنامج المعول عليه لتقليص معدل البطالة خاصة في صفوف الشباب المغربي؟

 

المصدر: العمق المغربي

شاركها.