في الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفّرة، تعود الذاكرة الوطنية إلى لحظات مجدٍ صنعها رجال آمنوا بأن حبّ الوطن لا يُقاس بالكلمات، بل بالأقدام التي تمشي نحوه مهما بعدت المسافات. وتزامنًا مع هذه الذكرى المجيدة، نستحضر بفخرٍ واعتزاز المسار الوطني والإنساني لوالدي سيد القوم ماء العينين، الذي جسّد في شخصه معاني الصبر والإيمان العميق بالوطن.
كانت مسيرته ليلا على الأقدام لمسافة خمسين كيلومترًا عائدًا إلى أرض الوطن، رسالةً صامتة لكنها أبلغ من كل الكلمات، إعلانًا بأن الوطن يسكن في القلب، وأن الطريق إليه لا تُقاس بالأميال، بل باليقين. لقد جسّد سيد القوم ماء العينين في رحلته المنفردة معنى الوطنية في أبهى صورها، بعد أن تعرّض للاختطاف القسري يوم 24 أكتوبر 1975 على يد عملاء من جبهة البوليساريو، وظل رغم ذلك متمسكًا بحب الوطن وثوابته الراسخة.
إلى أن شاء الله أن تكون يوم 15 غشت 1988 محطة العودة المشرقة، سفرًا وطنيًا مضيئًا سبق الخطاب التاريخي لجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة للمسيرة الخضراء، حين صدح بصوته المهيب عبارته الخالدة: «إن الوطن غفور رحيم». وكأن سيد القوم ماء العينين سبق ذلك النداء بروحه وإيمانه، فجعل من العودة فعلًا قبل أن تكون نداءً، ومن الإيمان بالوطن يقينًا يسبق الخطاب والتاريخ.
لقد كانت تلك العودة تجسيدًا حيًا لروح الوطن التي لا تنطفئ مهما اشتد الغياب، وللارتباط العميق بالأرض والهوية، ولليقين بأن الوطن هو الحنين الذي لا يموت، مهما طال الطريق واشتدت الغربة.
النشأة
وُلد سيد القوم ماء العينين سنة 1943 بمدينة السمارة، وهو سليل قبيلة الشيخ ماء العينين، قبيلة الدين والعلم والسياسة التي بصمت التاريخ الوطني بالمقاومة والإيمان الراسخ بالوحدة الترابية للمملكة الشريفة.
نشأ في كنف أسرة متشبعة بروح الوطنية والكرامة، والده محمد فاضل ماء العينين ووالدته سعداني ابنة القاضي ماء العينين العتيق.
تلقى تعليمه الابتدائي متنقلًا بين الدار البيضاء (1959)، كلميم (1961)، طرفاية (1962)، وطانطان (1964)، قبل أن يُكمل عامين من الدراسة الثانوية في مراكش سنة 1965.
وفي عام 1968، استقر بمدينة العيون، حيث افتتح متجرًا صغيرًا شكّل بداية مسارٍ مهني بسيط، لكنه كان يحمل في طياته أحلام رجلٍ يرى في كل شبرٍ من تراب وطنه قصة انتماء لا تنتهي.
وفي 17 يناير 1969، عيّنه الاستعمار الإسباني معلمًا بمدرسة تادخيست المتنقلة إلى غاية 25 أكتوبر 1972، ثم أستاذًا للتربية الإسلامية بمؤسسة لايات يوم 26 أكتوبر 1972. وفي 13 أكتوبر 1975، تم تعيينه بمدينة اتفاريتي، حيث تم اختطافه قسرا يوم 24 أكتوبر 1975 على يد عناصر جبهة البوليساريو، في حدثٍ سيشكل بداية مرحلة جديدة في مسيرته الوطنية والإنسانية.
الاختطاف القسري
خلال الاختطاف أقام بكل من ليبيا و الجزائر و المخيمات امتثالا لرغبة البوليساريو، فبعد أن اذاقوه مرارة العذاب و التنكيل و بقي يخفي حنينه و شوقه و اخلاصه لوطنه و لعاهله طيلة تلك السنوات لم يجد خلالها منفذًا من نورٍ لابثٍ للوطن الحبيب؛ فبالرغم مما يكنّه من تقديرٍ وإكبارٍ لعاهله، وما ينطوي عليه قلبه من حبٍّ وإجلالٍ وتعلّقٍ، فإن ذلك لم يكن كافيًا، حتى كان قدرُ الله الذي اقتاده إلى منطقة بشار الجزائرية سنة 1982 حيث تزوج هناك من أسرة مغربية عريقة، لتتاح له اول فرصة ليبعث برسالة إلى عمه بالقصابي عمالة كلميم، و كان عمه بمثابة والده الذي توفاه الله، ليبلغها للسلطات الإدارية و الأمنية بالاقليم، و تشاء الاقدار ان يلتقط احد المنتمين للبوليساريو النبأ ليجردوه من كافة مسؤولياتهم آنذاك و الزج به في السجن ثم مدرسة التعذيب 12 أكتوبر.

وتوالت عليه مضايقاتهم رغم ما قدمه من إنكار أصر عليه لان ليس لديهم حجة او دليل ضده، ولكن تم حجزه لمدة سنتين عن أسرته، مُنح بعدها رخصة خمسة عشر يوما فقط ليزورهم، مما اتاح له فرصة جديدة للإبلاغ عن عواطفه على جناح الأثير إلى الوطن الحبيب، فسكبها دموعًا فيّاضة على بياض الرسائل التي أودعها نبضه وبعث بها إلى عمه بقرية القصابي يبلغها إلى كل السلطات بكلميم والعيون في انتظار طريق للخلاص، واستفسر على ان يلتقي بجوابهم في السنة المقبلة ان حظي برخصة مماثلة.
وهكذا بقي في مخيمات العذاب والحرمان إلى ان اخذ منهم رخصة أخرى سنة 1988، آلى بعدها على نفسه ألا يعود إليهم، ولو كان الثمن حياته. وقد استطاع الاتصال هاتفيا بعائلته عن طريق صهره ليؤكد لهم رغبته في الحصول على طريق للخلاص مهما كان الثمن، مما حذا بالأسرة الاتصال بالسلطات المحلية بكلميم والعيون ووزارة الداخلية وقد عرضوا عليهم ما قاله لهم بأنه سيحاول التسلل ليلا خلسة على الاقدام عن طريق فيكيك.
العودة إلى أرض الوطن (15 غشت 1988)
عُرّف سيد القوم ماء العينين على صاحب حافلة يقيم على الحدود الجزائريةالمغربية، وقد تفاوض معه للحصول على رحلة مستعجلة مقابل مبلغ مالي يقدر ب 3000 درهم. بدأت الرحلة من محطة الحافلات في بشار الجزائرية إلى منطقة موغل الجزائرية حيث كان يقيم صاحب الحافلة. قضى هناك ليلتين في انتظار الفرصة المناسبة للانطلاق.
وفي مساء يوم 14 غشت 1988، انطلقت الرحلة على الساعة الثامنة مساءً، رحلة محفوفة بالمخاطر، سواء بسبب الألغام التي تركها الاستعمار أو الحواجز العسكرية الجزائرية. وعند فجر يوم 15 غشت 1988، كان قد قطع 42 كيلومترًا على الأقدام في الظلام الدامس ليصل إلى منطقة تبعد عن المنكوب المغربية بـ 8 كيلومترات، وهناك أكمل الطريق وحده.
في تلك اللحظة، قابل رجلاً أنيق الهندام مبتسم المحيا. أخبره سيد القوم أنه سائح مغربي تعرض للسرقة في الجزائر وأنه يريد العودة إلى وطنه، فأخبره الرجل أنه شيخ قبيلة أولاد حمامة التابعة لبوعرفة، فأخذ بيده إلى منزله. وعند رؤية سيد القوم لصورة الملك الراحل الحسن الثاني تعلو حائط صالون الشيخ، تنفّس الصعداء، يقينًا بأنه قد وصل أخيرًا إلى وطنه.

رافقه الشيخ إلى فيكيك حيث استقبله بكل حفاوة الكاتب العام للعمالة آنذاك، السيد عبد الكريم أبو يعلا، الذي سمح له بالاتصال بأخيه بمدينة العيون. وما أن رفع السماعة حتى قال بسعادة غامرة: “يحيا الملك، أنا سيد القوم”، جملة واحدة كانت كفيلة بإطلاق وابل الزغاريد وصل صداها فيكيك احتفالًا بعودته من جحيم البوليساريو.
وفي صبيحة اليوم التالي، وصل إخوته وابن عمهم للاطمئنان عليه.
أخبرهم السيد عبد الكريم أبو يعلا أنه لا يمكن السماح له بالعودة معهم، إذ يجب تسليمه إلى وزارة الداخلية بالرباط، حيث استقبله هناك السيد حفيظ بنهاشم عامل بالإدارة المركزية، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته بعد رحلة استثنائية جسدت شجاعته وإيمانه العميق بالوطن.
متابعة مسار التعليم
عند عودة سيد القوم إلى مدينة العيون، ساعده عامل صاحب الجلالة صالح زمراك في العمل على تجهيز ملفه بالتعليم وإرساله إلى وزارة التربية والتعليم. والتحق قيدوم العائدين بحزب الاستقلال، حيث استقبله مرارًا بالرباط المرحوم محمد بوستة، وأخبره أن حزب الاستقلال ونقابته على أتم الاستعداد لمد يد المساعدة إن احتاج أي شيء، وأن بابه مفتوح له في كل وقت وحين. وقد كان المرحوم محمد بوستة على تواصل دائم بسيد القوم ماء العينين، وكان له فضل كبير في متابعة ملفه لدى وزارة التربية والتعليم.
وفي عام 1990، راسل سيد القوم ماء العينين كل من عامل إقليم العيون صالح زمراك، والسيد حفيظ بنهاشم عامل بالإدارة المركزية، وزير الداخلية إدريس البصري، والمرحوم علابوش عبد العزيز مدير المخابرات الداخلية، ومستشار صاحب الجلالة بالديوان الملكي المرحوم عباس الجيراري، لأنه لم يتقاضَ أي مستحقات منذ عودته والتحاقه بسلك التعليم، لتتحقق بذلك مطالبه ويُمني نفسه بعودة حميدة للوطن.
حاليا، يستقر سيد القوم ماء العينين بمدينة سيدي قاسم منذ سنة 2006، محافظًا على قيمه الوطنية والإنسانية، شاهداً حيًا على قوة الإرادة، وعلى أن الوطن غفور رحيم، كما قال الملك الراحل الحسن الثاني.
مسيرته تبقى مصدر إلهام لكل من يسعى للوفاء بالوطن والحفاظ على كرامته، وتجربة شخصية تندمج في الذاكرة الجماعية للمغرب، لتظل قصة العزم والإيمان حاضرة في كل ربوع المملكة.
المصدر: العمق المغربي
