أثار المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا، الذي سينظَّم بمدينة الرباط المغربية من 6 إلى 11 يوليوز 2025، جدلا بسبب تعبير الهيئة المغربية للسوسيولوجيا عن عدم ترحيبها بأي منتم للكيان الإسرائيلي ضمن فعاليات المنتدى.

بررت الهيئة عدم الترحيب هذا بـ”الممارسات الهمجية المرتكبة ضد المدنيين الفلسطينيين، التي تتوخى منها السلطات الإسرائيلية إبادة مادية ومعنوية للوجود الفلسطيني”. إنه موقف شجاع يستحق كل التنويه والدعم [انظري بيان أطاك المغرب https://tinyurl.com/y2xvy2cu[، في سياق محلي تغلغل فيه التطبيع ليشمل كل القطاعات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية، ثم الأكاديمية، منذ توقيع اتفاقية التطبيع بين النظام المغربي وإسرائيل برعاية أمريكية بتاريخ 10 ديسمبر 2020.

تطبيع أكاديمي واسع

منذ ذلك التاريخ سارع العديد من الجامعات المغربية إلى توقيع اتفاقيات شراكة مع جامعات إسرائيلية تحت ذريعة التعاون الأكاديمي. نذكر ضمنها، على سبيل المثال لا الحصر، جامعة محمد السادس متعددة التخصصات (UM6P) ببنجرير، التي كانت سبَّاقة إلى ذلك، حتى قبل توقيع اتفاقية التطبيع. ففي 31 مارس 2020، زار وفد كبير من جامعة محمد السادس المتعددة التخصصات (UM6P)، برئاسة رئيسها هشام الهبطي، الجامعة العبرية في القدس (HU). وبعد اتفاقية التطبيع، قعت UM6P، بتاريخ 19 غشت 2021، “مذكرة تفاهم” مع الجامعة العبرية في القدس. [1]

ورفض للتطبيع في طريقه للنشوء

لكن في الاتجاه الآخر، لكن يكن هذا التطبيع الأكاديمي مقبولا. أصدر المكتب الوطني للنقابة المغربية للتعليم العالي، بلاغا، استنكر فيه “إقدام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار على إقحام مؤسسات التعليم العالي في محافل التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت مسميات الشراكة الأكاديمية والبحثية”.

وبعد استقبال عبد اللطيف الميراوي، لوزيرة العلوم والتكنولوجيا والفضاء الإسرائيلية، وتوقيعه معها على مذكرة تفاهم في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا، راسلت الجامعة الوطنية للتعليم التوجه الديمقراطي وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، بتاريخ 13 يونيو 2022، للتعبير عن رفضها لأي شكل من أشكال “التطبيع مع الكيان الصهيوني الاستعماري العنصري” ورافضها لـ”توقيع أية اتفاقية تعاون معه”، وذلك إثر.

في تطوان أصدر المكتب الجهوي لنقابة المغربية للتعليم العالي والبحث العلمي بجامعة عبد المالک السعدي، بيانا بتاريخ 16 شتنبر 2022، أعلن فيه إن هذه المبادرة خلفت استياء عميقا لدى جميع أساتذة الجامعة الذين اطلعوا على هذا الخبر”. وطالب ة 600 أستاذ ة وإداري ة في جامعة عبد المالك السعدي في تطوان، شمال المغرب، بإلغاء اتفاقية شراكة مع جامعة حيفا الإسرائيلية، وضمنوا عرضتهم هن: “مبادرتنا هي خطوة تضامنية مع الشعب الفلسطيني ضد جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يتعرض لها منذ أكثر من ثمانية أشهر”. كان العريضة في سياق تحركات احتجاجية واسعة في جامعات بلدان عديدة (وعلى رأسها الجامعات الأمريكية)، تضامنا مع قضية الشعب الفلسطيني. وفي بعض البلدان، أجبرت الاحتجاجات الطلابية الإدارات إلى قطع أو تعليق علاقاتها مع جامعات إسرائيلية.

تبريرات واهية للتطبيع الأكاديمي

في الجانب الآخر من المتراس، تقدَّم أكاديميون للدفاع عن التطبيع الأكاديمي. نأخذ على سبيل المثال، وفي سياق عدم ترحيب الهيئة المغربية للسوسيولوجيا بالأكاديميين الصهاينة في المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا. اعتبر جمال فزة، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الدعوة إلى مقاطعة المنتدى بحجة حضور مشاركين يمثلون إسرائيل أو اليهود “يعكس جهلا عميقا بالمهام المنوطة بعلم الاجتماع، ومحاولة إقحام العلم والعلماء في سجالات إيديولوجية وسياسية بعيدة كل البعد عن طبيعة هذا العلم والغايات التي يصبو إليها”. وليُعضد حجته أكثر، قال: “حتى يكون الشخص الذي يدعو إلى مقاطعة المنتدى العالمي بحجته تلك منسجما مع نفسه غاية الانسجام، فما عليه إلا أن يقاطع علم الاجتماع نفسه، لأنه بكل بساطة علم من إنتاج اليهود وبعض المسيحيين، فمن دوركايم وزيمل مرورا بليفي ستروس وعزرا بارك، لن تجد اسم أحمدا أو اسماعيل يبصم بصمته في تاريخ هذا العلم العظيم”. [2]

لكن ما المقصود هنا بـ”السجالات الأيديولوجية والسياسية البعيدة كل البعد عن طبيعة هذا العلم والغايات التي يصبو لها؟”. لا بد أن السوسيولوجي جمال فزة، يجترح علما جديدا، غيرَ علم الاجتماع المعروف تاريخا. لم يكن علم الاجتماع قطُّ غريبا عن السجالات الأيديولوجية والسياسية، بل كان في صلبها، سواء بالدفاع عن الوضع القائم أو الدعوة إلى تغييره، إما عبر إصلاحه أو الثورة عليه. حتى عالم الاجتماعي الوضعي أوغست كونت، لم يكن بعيدا عن هذا، إذ أصدر بيانا سنة 1822، وكان عنوان البيان معبرا جدا: “خطة الأعمال العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع”. ولا يمكن “إعادة تنظيم المجتمع دون “سجالات أيديولوجية وسياسية”. [3]

ما تسعى إليه اتفاقية التطبيع، التي وقعها عليها المغرب في إطار الاتفاقية الأبراهامية، هي “إعادة تنظيم المجتمع”، ليتلائم مع التوجه الجديد، القائم على التطبيع الكلي والشامل مع دولة استيطانية [الكيان الصهيوني]، برعاية دولة استعمارية كبرى [الولايات المتحدة الأمريكية]. وتشمل “إعادة التنظيم هذه” المجتمعَ الأكاديمي أيضا، لذلك ألقى السوسيولوجي بثقل “سجالاته الأيديولوجية والسياسية”، مدافعا عن حضور سيوسيولوجيين صهاينة في المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا بالرباط. وكانت أحداث رفض عمداء جامعات تسليم جوائز لطلاب بسبب ارتداء الكوفية الفلسطينية، ضمن “إعادة تنظيم المجتمع” هذه لتتلاءم مع المعايير الجديدة للتطبيع.

إن حظ السوسيولوجي فزة تعيس في ميدان السوسيولوجيا. فحتى دوركهايم الذي التجأ إلى ظله، يناقضه. كان دوركهايم مساجلا عظيما، ورمى نفسه في حمى الصراعات الأيديولوجية والسياسية في عصره. كيف لا، فتاريخ علم الاجتماع (شأنه شأن جميع العلوم) هو تاريخ سجالاته. أصدر دوركهايم كتاب “الفردانية والمثقفون”، مساجلا فرديناند برونيتيير، وهو ناقد أدبي، وبالمناسبة مناهض لقضية الضابط اليهودي دريفوس في الجيش الفرنسي الذي اتُهم بالخيانة سنة 1894. في كتاب “الفردانية المثقفون” دافع دوركهايم عن “أفكار جمهورية 1789 الفرنسية”.

كتب دوركهايم: “كل من يعتدي على حياة إنسان، على حرية إنسان، على شرف إنسان، يبعث فينا شعوراً بالرعب يماثل في كل شيء ذلك الذي يشعر به المؤمن عندما يرى معبوده يُدنَّس” [4]. هذا هو دوركهايم الحقيقي، الذي استلهمته الهيئة المغربية للسوسيولوجيا، عند عدم ترحيبها بالسوسيولوجيين الصهاينة، وليس دوركهايم المزوَّر الذي التجأ السوسيولوجي فزة إلى ظله: للهيئة جسم دوركهايم الحي، واكتفى فزة باستحضار ظْلِّه.

لم تكن فلسفة الدين لدى دوركهايم لتؤهله ليكون داعما للصهيونية. فهو إذ يقول “لا يمكن لدين الأمس أن يكون دين الغد”، مؤكدا أن “الدين الوحيد الممكن لا يمكن أن يكون إلا دين الإنسانية، الذي تمثل الأخلاق الفردية التعبير العقلاني عنه“. لذلك عندما أصدر Année sociologique عام 1898، لم يرحب دوركهايم بأي ذكر للصهيونية في المجلة لأنه كان يخشى بسبب يهوديته أن يُنظر إليه تلقائيًا على أنه مؤيد لها [5]. لم يكن دوركهايم يتهيب من اتهامه بإقحام “السيجالات السياسية والأيديولوجية في مجلة أكاديمية”، لكن السوسيولوجي فزة الذي استغاث بدوركهايم يعيب على الهيئة المغربية للسوسيولوجيا، رفضها تواجد صهاينة في منتدى سوسيولوجي.

هناك أكاديميون من خارج المغرب يقدمون حججا ضد المقاطعة الأكاديمية، وضمنهم كاري نيلسون [6]، الذي كتب ضد مقاطعة الجامعات الإسرائيلية: “نعرف ما يكفي لنقول بشكل لا لبس فيه أن الحرية الأكاديمية في إسرائيل أكثر من الدول الأخرى في الشرق الأوسط. إنه من النفاق والخيانة الأساسية لمهمتنا كأكاديميين أن ندعو إلى مقاطعة الجامعات ليس بسبب طابعها الأساسي ولكن بسبب سياسات الدولة التي تقع فيها” [7]. لكنها حجة، إلى جانب كونها تافهة، استشراقية حتى النخاع. تبرير ما تقوم به إسرائيل لمجرد أنه توجد في محيط من الاستبداد العربي، متناسية أن هذا الاستبداد نفسه مسنود بالكيان الصهيوني، وخلفه الغرب الاستعماري. إن المقاطعة موجَّهةٌ ضد الجامعات والأكاديميين المنخرطين في دعم وتبرير جرائم الدولة الصهيونية، ولا أظن عاقلا سيرفض مثلا حضور مناضلين مثل ميشيل فراشافسكي أو إيلان بابيه، المناهضين للصهيونية والمناضلين ضد دولتها.

سابقة تاريخية: مقاطعة الجامعات النازية

أثناء صعود النازيين كانت هناك حملة مقاطعة لألمانيا، شملت المقاطعة الأكاديمية. صرحت إلهان عمر [9]: “قام الأمريكيون ذوو الضمير الحي… لمقاطعة ألمانيا النازية من مارس 1933 إلى أكتوبر 1941، ردًا على تجريد الشعب اليهودي من إنسانيته في الفترة التي سبقت الهولوكوست”. [8]

وكما هو الحال حاليا، حيث تدعم الولايات المتحدة الأمريكية، كان موقف إدارة روزفلت الذهاب إلى حد مساعدة هتلر على التهرب من المقاطعة. وكما هو الحال حاليا أيضا، كانت تلك المقاطعة، في صلب “السجالات السياسية والأيديولوجية”. إذ دعم بعض الأكاديميين الليبراليين المقاطعة، ولكن هناك منهم، من على شاكلة السوسيولوجي جمال فزة، من حافظ على العلاقات مع ألمانيا النازية، وقام زيارة ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين والحفاظ على برامج التبادل الطلابي مع الجامعات الألمانية التي كان يسيطر عليها نظام هتلر بالكامل. ومنهم (الأستاذ الجامعي في برين ماور، هنري كادبوري) من برر عدوانية هتلر، قائلا: “من خلال كرهه ومحاولة محاربته، فإنك ستساعده فقط على زيادة سوء هجومه على اليهود” [10].

من أجل تضافر كل أشكال مناهضة التطبيع

أشكال مناهضة التطبيع ومقاطعة الكيان الصهيوني، متعددة بتعد واجهات الاشتغال. فمن مقاطعة البضائع والدعوة إلى استرجاع الاستثمارات، إلى التظاهر ضد رسو السفن الإسرائيلية بالموانئ المغربي، انتهاء إلى المقاطعة الأكاديمية، تمتد مناهضة التطبيع لتشمل واجهات كثيرة.

المتذاكون فقط هم من سيقولون بأن أشكال المقاطعة ومعارضة التطبيع ليس لها أثر يُذكر، والمناصرون للتطبيع والمتصهينون المحليون هم فقط من سيدعي أن المقاطعة الأكاديمية خيانة “للمعايير العلمية والأكاديمية.

لكن ستظل أشكال مناهضة التطبيع والمقاطعة ذات تأثير متواضع ما لم تتجاوز تشتتها على الواجهات المتعددة، وتبحث عن سبل التعاون وتضافر الجهود.

علي أموزاي

===============

إحالات

[1] للمزيد من التفاصيل حول الموضوع اقرأ ي: محمد تغروت (08062024)، “رغم الإبادة.. هكذا تواصل جامعات مغربية مسار التطبيع مع إسرائيل”، https://hawamich.info/8615/.

[2] هسبريس (27062025)، “الهيئة المغربية للسوسيولوجيا ترفض إسرائيليين.. وفزة يحذر من تسييس العلم”، https://www..com/الهيئةالمغربيةللسوسيولوجياترفضإس1583041.html.

[3] von redaktionmws (01122016), «Durkheim’s and Simmel’s reactions to antisemitism and their reflection in their views on modern society”, https://mws.hypotheses.org/37179#:~:text=Durkheim%20did%20not%20welcome%20any,as%20a%20supporter%20of%20it.

[4] نفسه.

[5] نفسه.

[6]: (مواليد عام 1946)، أستاذ أمريكي فخري للغة الإنجليزية وأستاذ اليوبيل للفنون والعلوم الليبرالية في جامعة إلينوي في أوربانا شامبين. شغل منصب رئيس الرابطة الأمريكية لأساتذة الجامعات بين عامي 2006 و2012 [وكيبيديا]

[7] Cary Nelson (2013), “Academic Boycotts Reconsidered: A Response to the AAUP Journal of Academic Freedom, Volume 4”, https://www.aaup.org/JAF4/academicboycottsreconsideredresponseaaupjournalacademicfreedomvolume4.

[8] RAFAEL MEDOFF (25062025), “Who boycotted the Nazis and who didn’t?”, https://www.jpost.com/opinion/whoboycottedthenazisandwhodidnt596831.

[9] من مواليد الرابع من أكتوبر 1981، هي سياسية أمريكيّة من مينيسوتا ذات أصل صومالي. بدأت اله‍ان تُحقق شهرة على المستوى المحلّي في الداخل الأمريكي منذُ عام 2016 أثناء انتِخابها عضوة في مجلس نواب مينيسوتا عن الحزب الديمقراطي ممّا يَجعلها أول صوماليةأمريكية تُنتخب في هذا المنصب في الولايات المتحدة. زادت شهرة السيّدة على المستوى العالمي حينَما ترشحت للمنافسة على عضويّة مجلس النواب الأمريكي عن مينيسوتا في الإنتخابات النصفيّة يوم 14 أغسطس من عام 2018، ثمّ انتُخبت رسميًا في 6 نوفمبر من نفسِ العام؛ لتكون بذلك أول صوماليةأمريكية تُنتخب في كونغرس الولايات المتحدة جنبا إلى جنب مع رشيدة طليب. ليسَ هذا فقط؛ بل تُعد إلهان واحدة من أوائل النساء المُسلِمات المنتخبات في الكونغرس، وهي أيضًا أول لاجئة تُنتخب في مجلس النواب فضلًا عن كونها أول سيدة من غير البيض (ذوي اللون الأبيض) تُمثل ولاية مينيسوتا في مجلس النواب. [وكيبيديا]

[10] [8] RAFAEL MEDOFF (25062025), “Who boycotted the Nazis and who didn’t?”, https://www.jpost.com/opinion/whoboycottedthenazisandwhodidnt596831.

 

 

 

 

 

 

المصدر: العمق المغربي

شاركها.