اخبار المغرب

من أجل رفع الإبهام عن لغتنا !

يقول الفيلسوف التحليلي جورج إدوارد مور : ” اللغة ليست مجرد أداة للتواصل ، إنها مصدر الارتباك كذلك ” .

في يناير 1943، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية مستعرة و مشتعلة ، اجتمع قادة الحلفاء في مدينة كازابلانكا ( الدار البيضاء ) بالمغرب لعقد مؤتمر تاريخي يهدف إلى وضع استراتيجيات مشتركة لإنهاء الحرب، و قد حضر هذا المؤتمر الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل ، بغية تنسيق الجهود العسكرية للحلفاء وتحديد الخطوات القادمة في حربهم ضد دول المحور التي  تشكل تهديدًا خطيرًا.

أحد أبرز النقاط التي أُثيرت في المؤتمر كان قرار الرئيس روزفلت بإعلان سياسة “الاستسلام غير المشروط” (Unconditional Surrender) التي ستُفرض على ألمانيا واليابان ، و كان روزفلت من خلال هذا الإعلان يرمي إلى إرسال رسالة قوية وواضحة إلى العدو ، مفادها أن الحلفاء مصممون و عازمون على مواصلة الحرب  حتى تحقيق نصر كامل دون أي تنازلات أو مفاوضات على شروط الاستسلام ، و تكمن حقيقة هذا العزم و الحزم في قطع الطريق أمام أي محاولة من دول المحور للتفاوض على الاستسلام بشروط مخففة، مما قد يطيل أمد الحرب أو يترك ثغرات يمكن للأعداء استغلالها لاحقًا.

لكن ما حدث بعد ذلك كان سوء تفاهم كبيرًا، ناتجًا عن التفسير الخاطئ و الترجمة غير الدقيقة لعبارة “الاستسلام غير المشروط”  في وسائل الإعلام وعبر بعض القنوات الدبلوماسية ، ما أدى إلى انتشار فكرة مفادها أن الحلفاء يطالبون باستسلام كامل وشامل، بما في ذلك الإطاحة الفورية بالأنظمة الحاكمة في دول المحور، دون ترك أي مجال للمساومات أو التفاوض على أي نوع من الضمانات لألمانيا و اليابان.

هذا الفهم الخاطئ أثار قلقًا واسعًا على عدة مستويات ، ففي ألمانيا واليابان، تم تفسير هذا الإعلان على أنه إشارة إلى أن الحلفاء لن يقبلوا سوى بالهزيمة المطلقة والتدمير الكامل، مما دفع القيادة في تلك الدول إلى تبني موقف أكثر تشددًا وتصميمًا على القتال حتى النهاية، خشية من العواقب المدمرة للاستسلام غير المشروط ،هذا الموقف الصارم أدى إلى مزيد من التصعيدات و التوترات في الحرب وزيادة عدد الضحايا والمآسي.

و يتبين من خلال هذه الواقعة التاريخية أن اللغة لم تحقق غاية التواصل أبدا ، و لم ينتج عن استعمالها تفاهم أو اتفاق ، بل أدت إلى حصول الالتباس و الارتباك ، تصور معي أن عبارة واحدة لم تستوفي شرط الوضوح كادت أن تنسف بأشواط  طويلة و مضنية من المشاورات و المفاوضات و النقاشات و المساومات ، و تجر العالم إلى فوهة البركان ، حيث الدمار و الخراب .

و قد صدق مارتن هايدجر حين اعتبر اللغة أخطر النعم ، فهي نعمة بالفعل لأنها السبيل الوحيد للتواصل الإنساني ، و التواصل اللغوي هو سر علاقاتنا مع أغيارنا ، فبدونه استحالت كل علاقة ، و لكنها نقمة في الآن ذاته لأنها تؤذي النفوس حسب أفلاطون ، لأنها تؤدي كذلك إلى سوء التفاهم الناتج عن الغموض الذي يكتنفها ، فهي أقدر على تحطيم و تكسير علاقاتنا بنفس الدرجة التي هي أقدر على نسجها .

إن المشروع الفلسفي التحليلي قائم على تبديد هذا الغموض و تدقيق اللغة و توضيحها، ليس اللغة الطبيعية التي نتواصل بها فحسب، بل أيضا اللغة المنطقية و الفلسفية ، و لا يخفى علينا أن الفلسفة كانت حليفة الميتافيزيقا ، لذلك فهي لا تسلم من الغموض و التعقيد لكونها تبحث في أشياء غير موجودة ، و لا مرجع تسند إليه في الواقع ، إنها  كما يقول أحد فلاسفة هذا المشروع الفيلسوف فون رايت ” تزدهر في غسق الغموض ” .

و قد أحدثت الفلسفة التحليلية في بداية القرن العشرين منعطفا لغويا بتعبير ريتشارد رورتي لكونها أعادت النظر في مسلمات الفلسفة الحديثة مبينة مدى تعقد تركيب منطوقاتها و دلالتها ، مقترحة منهجا جديدا رفع اللغة إلى مصاف الأبعاد الحقيقية للفكر ، و كانت النتيجة الأولى المستخلصة من هذا التوجه هو أن المشكلات الفلسفية الأساسية ستكون من الآن فصاعدا مصوغة انطلاقا من تحليل الأحداث اللغوية .

و تأسست التحليلية على أسس رياضية منطقية ، و لا عجب أن نجد معظم فلاسفة التحليل علماء رياضيات ، و نذكر أبرزهم هنا ، غوتلوب فريغه الذي عمل على بناء مشروع تكون فيه الكلمات متوافقة مع الموجودات الواقعية ، و تكون فيه البنية النحوية للجمل عاكسة للإطار المنطقي للعالم ، و دأب على التحليل الدقيق للالتباسات التي تلتصق باللغة الطبيعية و تغطي الحقائق الواقعية و تحجب العالم الحقيقي و المرجعي .

قدم غوتلوب فريغه العديد من الاسهامات المتميزة في تاريخ الفلسفة في القرن 20 ، و يوصف عند بعض مؤرخي الفلسفة المعاصرة ب ” ديكارت الفلسفة المعاصرة و الفيلسوف الذي يبدأ منه كل شيء من جديد ” [1]، حيث سعى هذا الفيلسوف إلى تأسيس منطق جديد يتجاوز أعطاب المنطق الأرسطي القديم ، و على أنقاضه أراد فريغه أن يرسخ لغة جديدة اصطناعية و صارمة تتسم بالطابع الرمزي و الرياضي بغرض توليد فكر متطابق مع الواقع ، و سمى هذه اللغة بالإديوغرافيا  idéographie ، و يقول فريغه موضحا شكل هذه اللغة الجديدة : ” لا أهدف إلى تقديم منطق مجرد بصياغات شكلية ، و إنما أن أعبر عن مضمون بواسطة رموز مكتوبة بشكل دقيق وواضح ، و هو ما لا يمكن تحقيقه باستعمال الكلمات ” [2].

و ترتبط الأيديوغرافيا عنده بنظريته في الدلالة و المرجع Sens et Référence ، و هي النظرية التي تقول باقتضاب أن كل دلالة لا نجد لها مرجعا في الواقع لا ينبغي أن نعتمدها في لغتنا ، فالإشارات اللغوية عند فريغه تحمل مرجعية ، أي شيئا تدل عليه ، و تنطوي كذلك على معنى أو دلالة ، أي الطريقة التي يقدم بها إلينا هذا الشيء .

مثال يقدمه فريغه : نقول أن نجم المساء تضيئه الشمس أو نقول أن نجم الصباح تضيئه الشمس .

لاحظ في هذا المثال أن كلا القضيتين لهما نفس المرجع و هو كوكب الزهرة ، فنجم الصباح و نجم المساء لهما مرجع واحد هو هذا الكوكب لكن التعابير أو الإشارات تختلف بل قد تتناقض و تتضاد ، إن المرجع هو الشيء ذاته لا يتغير و لكن المعنى يطاله التغيير.

مثال  آخر : قال مسؤول حكومي أمريكي  إن سفير فرنسا موجود في The White House ، و قال مسؤول حكومي اسباني أن سفير فرنسا موجود في Casablanca

لاحظ مرة أخرى أن القضية الأولى قد تعني البيت الأبيض في واشنطن بالولايات المتحدة ، و قد تعني في نفس الوقت الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمغرب ، إن المرجع هنا مفتقد لأنه لم يتم الإشارة إليه بشكل مباشر ، و بالتالي قد يفهم مغربي من القضية الأولى أن سفير فرنسا موجود في البيت الأبيض بينما قد يفهم من القضية الثانية أن سفير فرنسا موجود في الدار البيضاء لمجرد أنه اعتاد على استعمال كازابلانكا للدلالة على العاصمة الاقتصادية ، و في كلتا الحالتين يظل الغموض قائما في القضيتين بسبب عدم وجود مرجع محدد لهما ، و هنا يكمن أتون إشكال اللغة الطبيعية .

إن اللغة التي يدعو إليها فريغه إذن هي لغة دقيقة و مضبوطة تحتوي على ثنائية الدلالة و المرجع ، فلا بأس أن نستعمل كلمات في اللغة لكن مما فيه بأس شديد هو استعمال كلمات لا مرجع لها في الواقع ، و ما أكثرها في اللغة العربية التي ارتبطت أشد الارتباط بالأدب و الشعر المفعم بالمجاز و التمثيل و التخييل و الاستعارات و التشبيهات البعيدة تماما عن الواقع و الحقيقة ، لذلك لم ترقى هذه اللغة بعد إلى مستوى الموضوعية العلمية و لن ترقى أبدا ما دام أن القائمين على صونها لم يقوموا بملاءمة كلماتها مع ما هو حقيقي و واقعي و عقلي و منطقي .

و السؤال الذي يخامرنا هنا و كان من الأجدر على فريغه أن يجيب عنه هو :  هل كل  شيء له مرجع ؟ و ما مآل مشاعرنا و أحاسيسنا و كل ما يخالجنا في دواخلنا ؟ أليس هو كذلك أحق باللغة رغم أنه لا يعد مرجعا ؟ أليست الإيديوغرافيا لغة جافة و صلبة ؟

و نخال أن جفافها و إفراطها في المنطقية و الواقعية هو الذي أدى إلى اضمحلالها و اندثارها ، و من ثمة تبخر المشروع التحليلي اللغوي .

 

الهوامش:

[1] Jean Lacoste , La philosophie au XXe siècle . Introduction à la pensée philosophique contemporaine , Paris , Hatier , 1988 , p 21

[2]  Gottlob Frege , Idéographie , trad . Corine Besson , Paris , Librairie vrin , 1999, P. 5 .

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *