كشفت المندوبية السامية للتخطيط، في تقرير حديث لها حول نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 الصادر في شتنبر 2025، أن الهجرة الداخلية أصبحت ظاهرة بنيوية ذات انعكاسات اقتصادية واجتماعية متزايدة، تعيد رسم خريطة البلاد على نحو يعمق ما وصفه التقرير بـ”المغرب ذو السرعتين”.

ويُعرّف التقرير الهجرة الداخلية بأنها انتقال الأفراد من جماعة ترابية إلى أخرى مع إقامة فعلية لا تقل عن ستة أشهر. وتشير المعطيات الإحصائية إلى أن ما يقارب 40 في المئة من المغاربة المقيمين انتقلوا مرة واحدة على الأقل خلال حياتهم، مقابل 59.7 في المئة ظلوا مستقرين في أماكن ولادتهم.

ورغم أن هذه الحركية السكانية كان يُفترض أن تساهم في إعادة توزيع السكان والفرص بين الجهات، إلا أنها تحولت اليوم إلى عامل من عوامل تفاقم الفوارق المجالية والاجتماعية، خصوصا مع بروز ظاهرتين متلازمتين؛ تأنيث الهجرة وفقدان الجهات لرأسمالها البشري الشاب.

النساء في صدارة الهجرة الداخلية

أبرز التقرير أن “تأنيث الهجرة” يمثل أهم تحول في البنية السكانية للحركة الداخلية، إذ بلغت نسبة النساء 55.1 في المئة من مجموع المهاجرين، مقابل 44.9 في المئة للرجال. ويعكس هذا التفوق النسوي في التنقل بحث النساء عن فرص التعليم والعمل والاستقلال الاجتماعي، في ظل تمركز مؤسسات التعليم العالي وفرص التشغيل في المدن الكبرى.

وأشار التقرير إلى أن الهجرة بين المدن (الحضرية الحضرية) شكلت النسبة الأكبر من التدفقات بنسبة 45.6 في المئة، تليها الهجرة القروية الحضرية بنسبة 34.1 في المئة، مما يعكس استمرار جاذبية المراكز الحضرية الكبرى على حساب المناطق القروية والداخلية.

وتؤكد المندوبية أن النساء، خاصة في الوسط القروي، أكثر عرضة للهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، ما يدفع بهن إلى مغادرة قراهن نحو مدن كبرى مثل الدار البيضاء والرباط وطنجة، سعيا لحياة أكثر استقرارا واستقلالية. وبذلك، لا يفقد العالم القروي اليد العاملة فحسب، بل يخسر أيضا نصف طاقاته المنتجة والأكثر طموحا نحو التطور الاجتماعي والاقتصادي.

جهات تفقد سكانها 

بيّن التقرير أن خمس جهات رئيسية تعرف عجزا ديموغرافيا واضحا، تتصدرها جهة مراكشآسفي التي خسرت نحو 767 ألف نسمة، بنسبة 78.6 في المئة من مجموع المهاجرين المغادرين. تليها جهة درعةتافيلالت التي فقدت أكثر من 510 آلاف نسمة بنسبة 71.7 في المئة، ما يجعلها من أقل الجهات قدرة على الاحتفاظ بسكانها.

ووفقا للمعطيات نفسها، فإن هذه الجهات الداخلية تفقد بشكل متزايد عناصرها الشابة والمنتجة، مما يرفع معدلات الشيخوخة ويهدد استدامة الأنشطة الاقتصادية التقليدية كالفلاحة والرعي، ويقلل من فرص الابتكار والنمو المحلي.

في المقابل، تتصدر جهة الدار البيضاء سطات قائمة الاستقطاب بأعلى رصيد ديموغرافي بلغ أكثر من 833 ألف نسمة بنسبة 92 في المئة، تليها جهة الرباط سلا القنيطرة بـ 482 ألف نسمة بنسبة 90.3 في المئة. أما جهة طنجة تطوان الحسيمة، فسجلت معدلات احتفاظ عالية بالسكان الأصليين بلغت 92.4 في المئة، مما يجعلها من المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي الوطني.

تفاقم الفوارق

تكشف هذه الأرقام أن الهجرة الداخلية ليست فقط حركة اجتماعية، بل ظاهرة اقتصادية عميقة تزيد من تركّز الثروة في سبع جهات كبرى، تتصدرها الدار البيضاء. في المقابل، تعاني باقي الجهات من ضعف التنمية الذاتية، ما يعمّق الفوارق المجالية ويزيد الضغط على المدن الكبرى المستقبلة للسكان، خاصة في مجالات السكن والنقل والبنية التحتية والموارد الطبيعية مثل الماء.

ويحذر التقرير من أن هذا الضغط قد يؤدي إلى توسع عمراني غير متحكم فيه وتدهور بيئي، بما يعمق ظاهرة “الجهوية ذات السرعتين” ويحد من فرص تحقيق توازن تنموي مستدام بين الجهات.

وعلى النقيض مما تعرفه الجهات الداخلية، يشير التقرير إلى بروز الأقاليم الجنوبية للمملكة كأقطاب جديدة للنمو السكاني والاقتصادي، بفضل المشاريع الاستثمارية الكبرى المنجزة في المنطقة. فقد سجلت جهة الداخلة وادي الذهب أعلى معدل استقبال سكاني بنسبة 62.5 في المئة، تليها جهة العيون الساقية الحمراء بنسبة 48.9 في المئة، ما يجعل نسبة مهمة من سكان هاتين الجهتين من الوافدين الجدد.

ويعتبر التقرير هذا التحول دليلا على فعالية السياسات الاستثمارية الموجهة نحو الجنوب، مؤكدا أن الهجرة البينجهوية ساهمت بشكل رئيسي في الزيادة السكانية الفعلية بهذه الجهات، مما يعكس إمكانية خلق دينامية تنموية إيجابية إذا ما تم تعميم المقاربة نفسها على باقي الجهات الطاردة للسكان.

دعوة لإعادة التوازن الترابي

خلص تقرير المندوبية السامية للتخطيط إلى أن التحدي التنموي في المغرب لم يعد يقتصر على استقطاب الاستثمار الأجنبي، بل يتمثل في تحقيق عدالة ترابية تضمن توزيعاً منصفاً للفرص بين الجهات.

ودعا التقرير إلى إعادة توجيه الاستثمارات نحو البنيات التحتية الاجتماعية والتعليمية في المناطق الهشة، وخلق فرص عمل محلية خصوصا لفائدة النساء، بما يسهم في تقليص دوافع الهجرة القسرية، وتعزيز الاستقرار الديموغرافي والتنمية المتوازنة في مختلف ربوع المملكة.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.