اخبار المغرب

مقترح الحكم الذاتي كحل لنزاع الصحراء.. قراءة في السياق والمضمون وإمكانات التطوير

كثيرا ما يلوك السياسي والمتتبع والمواطن العادي مشروع “الحكم الذاتي” كحل لقضية الصحراء، لكن قليل منا من حاول البحث في السياق العام لهذا المشروع، والتمعن في مضامينه واستجلاء كنهه، إذ بدون ذلك لا يمكننا ادعاء امتلاك مشروع أو بالأحرى الترافع عنه في المحافل الدولية؛

لذلك تحاول هذه الورقة تقديم قراءة في السياق العام والملامح العامة “لمبادرة التفاوض بشأن نظام للحكم الذاتي لجهة الصحراء”، وكذا ملامح الإجابة عن المطالب الأممية المتكررة بتوضيحها.

I مقترح الحكم الذاتي: سياق التقديم والعرض

قٌدمت آلية الحكم الذاتي في الأنساق الدستورية المقارنة، باعتبارها حلا وسطا بين مطلبي الاستقلال الذي يحمله المحلي، والإدماج الكلي الذي يشدد عليه المركز، وكذا لتأسيس لأمة مبنية على قيم التعددية واحترام الخصوصيات الثقافية والحضارية، في إطار مشروع للدمقرطة يؤسس لعهد مصالحة ولقواعد جديدة بين المحلي والوطني. فهل تحكمت ذات الخلفية بصدد وضع جرب حالات الحرب والسلم، وبالنسبة لملف لم يحصر التفكير في آليات حله في دائرة الوطني بسبب التدويل الذي طاله ومنذ البداية؟

قبل محاولة الإجابة على هذا التساؤل، لابد من التذكير بالسياق الدولي والوطني لمبادرة الحكم الذاتي، وذلك عبر المعطيات التالية:

أولا التحول في خطاب الأمين العام للأمم المتحدة، حيث يرتكز خطاب الأمانة العامة للأمم المتحدة على معادلة جديدة لا تقر بأولوية الشرعية الدولية إلا في ارتباط بفكرة الواقعية السياسية المحلية التي تنهض على التطورات الميدانية التي يعرفها نزاع الصحراء، والنظر إليه في معطياته الحالية جهويا ودوليا بعيدا عن الإحالات الدائمة على القراءة التاريخية أو القانونية المغيبة لباقي العوامل المتحكمة في الموضوع. هذه الواقعية والتحول في خطاب الأمين العام للأمم المتحدة، تبرز ملامحه العامة من خلال تقارير الأمين العام للأمم المتحدة، وكمثال على ذلك، تقرير الأمين العام للأمم المتحدة 249/2006 S، والذي يشير في النقطة 38 منه، إلى ما يلي “أشار مبعوثي الشخصي إلى أن الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى حل مسألة الصحراء الغربية هي أن يعمل الطرفان على التوصل إلى حل توفيقي مقبول لديهما ويستند إلى المبادئ ذات الصلة في القانون الدولي والحقائق السياسية الراهنة، ويرى مبعوثي الشخصي أن بوسع الطرفين التوصل إلى ذلك الحل التوفيقي إذا دخلا في حوار بناء مع بعضهما بعضا على ذلك الأساس”؛

ثانيا بروز تأويل جديد لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، خارج خانتي الإدماج أو الاستقلال، ويؤمن بإمكانية تأسيس وحدة جهوية تكفل احتراما لخصوصيتها، ومٌسيرة وفق مبدأ “التمثيل الذاتي” في إطار “دولة الجهات”؛

ثالثا إدراك المنتظم الدولي، أنه في إطار الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة القاضي بحل النزاعات بشكل سلمي، أن حل نزاع الصحراء يمر أساسا عبر تراضي الأطراف على صيغة معينة عوض إجبارهم، ويأتي هذا الإدراك منذ فشل “مخطط بيكر الثاني”، وتوجه الأمم المتحدة إلى إلقاء الدور على الأطراف المعنية بالنزاع قصد اقتراح حلول بديلة. لكن، بماذا يفسر هذا التحول؟ بصدد الإجابة عن هذا السؤال، يمكن تقديم الفرضيات الآتية:

1 العوامل الدولية، عبر انتهاء زمن الثنائية القطبية وظهور معيار جديد لتصنيف العالم يقر أساسا بأولوية الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويؤمن أيضا بفكرة الأقطاب عوض نموذج الدولة القومية، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كفاعل رئيسي في المنطقة المغاربية إلى جانب فرنسا وإسبانيا، بأجندة مغايرة مسكونة، أساسا، بهاجس الاستقرار، مخافة تنامي واتساع دائرة الإرهاب والهجرة السرية …

2 جو الانفتاح السياسي الذي يعرفه المغرب، وإرسال العديد من الإشارات في اتجاه القطيعة مع الماضي على مستويي السياسات والأساليب المتبعة، فمجال الصحراء، لم يبق، بدوره، بمنآى عن هذا الانفتاح ونتائجه، ونذكر هنا بعمل هيئة الإنصاف والمصالحة، ومن خلال العناوين الكبيرة التي اشتغلت عليها، والتي تدور، حول أفكار: الذاكرة وحفظها، وجبر جراح الماضي، ورد الاعتبار الفردي والجماعي، وضمان عدم تكرار ما حدث مستقبلا…

3 وضعية الجمود والمأزق التي عرفتها جل الخطاطات المقدمة لحل النزاع، لذلك نجد المنتظم الدولي مستعدا للتفاعل وبشكل إيجابي مع مقترحات جادة وممكنة وذات مصداقية. وهذا ما يبرر التجاوب الدولي مع مقترح الحكم الذاتي.

4 الانتقال إلى تجريب سيناريو الدبلوماسية الهجومية واستكشاف جغرافيا غير تقليدية للعمل الدبلوماسي المغربي؛ لأمريكا اللاتينية وروسيا مثلا، وإشراك بعض الفعاليات الصحراوية ضمن الوفد الرسمي لزعزعة فكرة تمثيل البوليساريو ولوحدها لساكنة الصحراء.

5   تأكيد العديد من الدراسات والتقارير أن هناك ثلاث عوامل ضاغطة للإسراع بالطي النهائي لهذا الملف، ومن بينها يمكن أن نذكر: أمن واستقرار المنطقة، خصوصا أمام التهديدات الإرهابية والهجرة السرية وما بات يعرف بملف الساحل والصحراء. ثمن أو كلفة النزاع؛ وهي التكلفة التي تتجاوز الشق المادي للنزاع، لتنفتح على الكلفة الإنسانية وكلفة الاستقرار وكلفة “اللامغرب الكبير”. مصداقية المنتظم الدولي، خصوصا أمام الفشل في إيجاد حل لنزاع أطر كل مراحل العلاقات الدولية من “الحرب الباردة” إلى اليوم.

 

II مقترح الحكم الذاتي: محددات المبادرة وفلسفتها

تتكون المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء، من ’’35 مادة’’، بمعجم ينهل من حقل الديمقراطية والتحديث ويبتعد عن حقل التقليد. وتتجلى أهم مضامين هذه المبادرة في:

أولا إن المبادرة المغربية جاءت تلبية لدعوة الأمم المتحدة: وهذا ما توضحه بنود المبادرة، حيث تنص المادة 1 ، منها، على أنه “ما فتئ مجلس الأمن منذ 2004 يدعو الأطراف ودول المنطقة إلى مواصلة تعاونهما مع الأمم المتحدة، لوضع حد للمأزق الراهن، ولإحراز تقدم نحو إيجاد حل سياسي”، لتضيف المادة الثانية منها، على أنه “وتلبية لهذا النداء الصادر عن المجموعة الدولية، انخرطت المملكة المغربية في دينامية إيجابية وبناءة، ملتزمة بتقديم مبادرة للتفاوض بشأن نظام للحكم الذاتي لجهة الصحراء، في إطار سيادة المملكة ووحدتها الوطنية والترابية”؛

ثانيا أن الهدف من المبادرة؛ هو الوصول إلى حل سياسي مقبول من قبل جميع الأطراف، حيث نصت المادة السابعة من المبادرة، على أنه “ترمي المبادرة المغربية، المفعمة بروح الانفتاح، إلى توفير الظروف المواتية للشروع في مسار للتفاوض والحوار، كفيل بأن يفضي إلى حل سياسي مقبول من جميع الأطراف”؛

ثالثا البعد الديمقراطي والإنساني في نص المبادرة؛ وهذا ما جسدته في المادة الثالثة منها “تندرج هذه المبادرة في إطار بناء مجتمع ديمقراطي حداثي، يرتكز على مقومات دولة القانون والحريات الفردية والجماعية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي مبادرة واعدة بانبثاق مستقبل أفضل لسكان الجهة، فضلا عن أنه من شأنها أن تضع حدا للمعاناة من الفراق والنفي، وأن تساعد على تحقيق المصالحة”، وفي الإطار نفسه، تضيف المادة الرابعة، على أنه “تكفل المملكة المغربية من خلال هذه المبادرة لكافة الصحراويين، سواء في الداخل أو في الخارج، مكانتهم اللائقة ودورهم في مختلف هيئات الجهة ومؤسساتها، بعيدا عن أي تميز أو إقصاء”؛

رابعا البعد الإدماجي وإرساء قواعد للمصالحة؛ حيث نصت المادة 30 من المبادرة، على أنه “تتخذ المملكة المغربية كافة الإجراءات اللازمة من أجل إدماج الأشخاص الذين تتم عودتهم إلى الوطن إدماجا تاما في حظيرته، وذلك في ظل ظروف تكفل الحفاظ على كرامتهم وسلامتهم وحماية ممتلكاتهم”، في المنحى ذاته، تضيف المادة 31 “ولهذه الغاية، تصدر المملكة بالخصوص عفوا شاملا يستبعد أي متابعة أو توقيف أو اعتقال أو حبس أو أي شكل من أشكال الترهيب ينبني على وقائع مشمولة بهذا العفو”؛

خامسا استئثار الصحراويين بوظيفة التدبير، وهو ما تشير إليه المادة الخامسة، بنصها، على أنه “ومن هذا المنطلق سيتولى سكان الصحراء، وبشكل ديمقراطي، تدبير شؤونهم بأنفسهم من خلال هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية، تتمتع باختصاصات حصرية. كما ستوفر لهم الموارد المالية الضرورية لتنمية الجهة في كافة المجالات، والإسهام الفعال في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمملكة”؛

سادسا حضور الاستشارة الاستفتائية ومبدأ تقرير المصير في نص المبادرة؛ وهو ما تمت ترجمته في المادة الثامنة منها، والتي تشير إلى أن الاتفاق الذي سينبثق عن المفاوضات بين المغرب وجبهة البوليساريو، سيخضع بدوره إلى استفتاء سكان جهة الصحراء “يخضع نظام الحكم الذاتي، المنبثق من المفاوضات، لاستشارة استفتائية للسكان المعنيين طبقا لمبدأ تقرير المصير ولأحكام ميثاق الأمم المتحدة”؛

هذه الفكرة تتضح بشكل أكثر وضوحا، في المادة 27 من المبادرة، بنصها، على أنه “يكون نظام الحكم الذاتي للجهة موضوع تفاوض، ويطرح على السكان المعنيين بموجب استفتاء حر، ضمن استشارة ديمقراطية، ويعد هذا الاستفتاء، طبقا للشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة، وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، بمثابة ممارسة حرة من لدن هؤلاء السكان لحقهم في تقرير المصير”؛

 

III مقترح الحكم الذاتي: هندسة السلطات وقائمة الاختصاصات

تتضمن مبادرة الحكم الذاتي، الإشارة إلى ثلاث سلطات: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية. وجاءت موضحة في المواد من 19 إلى 23 من المبادرة، وفق التفصيل الآتي:

أولا السلطة التشريعية: جاءت تركيبة وصلاحيات السلطة التشريعية، موضحة في المادة 19 كما يلي “يتكون برلمان الحكم الذاتي للصحراء من أعضاء منتخبين من طرف مختلف القبائل الصحراوية وكذا من أعضاء منتخبين بالاقتراع العام المباشر من طرف مجموع سكان الجهة. كما يتعين أن تتضمن تشكيلة برلمان جهة الحكم الذاتي للصحراء نسبة ملائمة من النساء”؛

ثانيا السلطة التنفيذية: وردت تركيبة وصلاحيات السلطة التنفيذية، موضحة في المادة 20، من المبادرة، وفق ما يلي “يمارس السلطة التنفيذية، في جهة الحكم الذاتي للصحراء، رئيس حكومة ينتخبه البرلمان الجهوي وينصبه الملك، رئيس الحكومة هو ممثل الدولة في الجهة”. وحددت المادة 21، من المبادرة، اختصاصات رئيس سلطة الحكم الذاتي، كالآتي “يتولى رئيس حكومة جهة الحكم الذاتي للصحراء، تشكيل حكومة الجهة، ويعين الموظفين الإداريين الضروريين لمزاولة الاختصاصات الموكولة إليه بموجب نظام الحكم الذاتي، ويكون رئيس الجهة مسؤولا أمام البرلمان”؛

ثالثا السلطة القضائية: جاءت تشكيلة وصلاحيات السلطة القضائية في المادة 23، من المبادرة، كما يلي “تتولى المحكمة العليا الجهوية، باعتبارها أعلى هيئة قضائية بجهة الحكم الذاتي للصحراء، النظر انتهائيا في تأويل قوانين الجهة، دون إخلال باختصاصات المجلس الأعلى والمجلس الدستوري للمملكة”. وتضيف المادة 22 ، من نص المبادرة، على أ نه “يجوز للبرلمان الجهوي، أن يحدث محاكم تتولى البت في المنازعات الناشئة عن تطبيق الضوابط التي تضعها الهيئات المختصة لجهة الحكم الذاتي للصحراء. وتصدر هذه المحاكم أحكامها بكامل الاستقلالية وباسم صاحب الملك”؛

وبخصوص صلاحيات سلطات الحكم الذاتي، فقد تم تحديدها في المادة 12، من المبادرة، والتي تنص، على أنه “يمارس سكان جهة الحكم الذاتي للصحراء، داخل الحدود الترابية للجهة، ومن خلال هيئات تنفيذية وتشريعية وقضائية، ووفق المبادئ والقواعد الديمقراطية، عدة اختصاصات، ولاسيما في الميادين التالية: الإدارة المحلية والشرطة المحلية ومحاكم الجهة. وعلى المستوى الاقتصادي: التنمية الاقتصادية والتخطيط الجهوي وتشجيع الاستثمارات، والتجارة والصناعة والسياحة والفلاحة. ميزانية الجهة ونظامها الجبائي، البنى التحتية: الماء والمنشئات المائية والكهرباء والأشغال العمومية والنقل. وعلى المستوى الاجتماعي: السكن والتربية والصحة، التشغيل والرياضة والضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية، التنمية الثقافية. بما في ذلك النهوض بالتراث الثقافي الصحراوي الحساني”؛

وفي مقابل ذلك، احتفظ المغرب حصريا برموز السيادة، إذ جاء في المادة 14، من نص المبادرة، على أنه “تحتفظ الدولة باختصاصات حصرية، خاصة منها ما يلي: مقومات السيادة، لاسيما العلم والنشيد الوطني والعملة، المقومات المرتبطة بالاختصاصات الدستورية والدينية للملك، بصفته أمير المؤمنين، والضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية وللحريات الفردية والجماعية، والأمن الوطني والدفاع الخارجي والوحدة الترابية، العلاقات الخارجية، النظام القضائي للمملكة”.

 

IV مقترح الحكم الذاتي: عناصر القراءة المقترحة

يتعايش داخل نص “المبادرة المغربية بشأن التفاوض لتخويل الصحراء حكما ذاتيا “، السجلين الوطني والدولي؛ ففي استحضارها لإكراه تجاوز  وضع اللاحل وفشل المقترحات الأممية السابقة، نصت المبادرة على ما يلي “ما فتئ مجلس الأمن، ومنذ سنة 2004 يدعو الأطراف ودول المنطقة إلى مواصلة تعاونها الدائم مع الأمم المتحدة، لوضع حل للمأزق الراهن ولإحراز تقدم نحو إيجاد حل سياسي”؛

وتلبية لهذا النداء، الصادر عن المجموعة الدولية، انخرطت المملكة المغربية في دينامية إيجابية وبناءة ملتزمة بتقديم مبادرة للتفاوض بشأن نظام للحكم الذاتي لجهة الصحراء في إطار سيادة المملكة ووحدتها الوطنية والترابية. وإلى جانب البعد الدولي، تحضر أيضا، في نص المبادرة: قيم الديمقراطية، ودولة القانون، والعودة نحو المحلي “تندرج هذه المبادرة في إطار بناء مجتمع ديمقراطي حداثي، يرتكز على مقومات دولة القانون والحريات الفردية والجماعية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية…ومن هذا المنطلق سيتولى سكان الصحراء وبشكل ديمقراطي تدبير شؤونهم بأنفسهم من خلال هيئات تشريعية وتنفيذية تتمتع باختصاصات حصرية”؛

إن مقترح “الحكم الذاتي”، إلى جانب منحه للدولة المغربية وصف “المتعاون” مع المنتظم الدولي بتقديم مقترحات عملية لتجاوز مأزق المقترحات الأممية، عكسها قرار مجلس الأمن عدد 1754، الذي وصف المقترح المغربي “بالجدي وذي المصداقية”، فإن مضامين المقترح، تحيل على منظور جديد للتدبير الترابي والمجالي وللأدوار الجديدة للنخب المحلية، التي لم تعد تمر عبر مسطرة التعيين أو التراتبيات الاجتماعية، ولكن من خلال احترام الشكلانية القانونية وشرعية الانتخاب؛

فالمجال الترابي يحضر، في نص المبادرة، كمجال للحرية وكفضاء لتجريب السياسات الحقوقية وليس الأمنية، متوفر على خصوصيات قياسا بباقي المجال الوطني، كما أن العلاقة بين المركز والمحلي لا تعيد انتشار رموز الأول (العاملالوالي) على مستوى الثاني، بل إن هذا الأخير يُنتخب بآليات ديمقراطية خاصة به، مما يعني استبدال الشرعيات التقليدية المبنية على مقومات البيعة والحقوق التاريخية، بشرعية ديمقراطية تعاقدية. هذه المستويات يمكن الاستدلال عليها من داخل نص المبادرة، وفق ما يلي:

أولا في تجاوز النموذج “اليعقوبي” الذي أسست عليه دولة الاستقلال، نحو نموذج “دولة الجهات”، بهندسة قانونية تقوم على التحديد الدقيق لاختصاصات المركز والمحلي على حد سواء (المواد 12 و 14)؛

ثانيا دمقرطة آليات اشتغال المجال، من خلال انتخاب برلمان تنبثق منه السلطة التنفيذية؛

ثالثا استبدال الآليات التقليدية التي أثثت في الماضي حجية الخطاب الرسمي في مطالبته بمجال الصحراء، بأخرى تنهل من الشرعية الدولية، ومن النماذج التي نجحت فيها مسلسلات الانتقال الديمقراطي “المشروع المغربي للحكم الذاتي مستلهم من مقترحات الأمم المتحدة، ذات الصلة، ومن الأحكام الدستورية المعمول بها في الدول القريبة من المغرب جغرافيا وثقافيا، وهو مشروع يقوم على ضوابط ومعايير متعارف عليها عالميا”؛

هذه المقتضيات التي تهم المجال، ستؤثر أيضا على الأدوار التقليدية “للنخبة الوحدوية”، المطالبة بتجاوز أدوار الوساطة والتمثيل والرهان على فضائل المركز، إلى وظائف التسيير والتدبير المجالي، لكن ليس عبر “شرعية التعيين”، ولكن من خلال قناة “شرعية الانتخاب”.  كما أن المقترح موجه أيضا “لنخبة الحقل المضاد” التي تمثلها جبهة البوليساريو عبر “التفاوض”، وبآليات للمصالحة تنصرف إلى “إصدار عفو شامل يستبعد أية متابعة أو توقيف أو اعتقال أو حبس أو أي شكل من أشكال الترهيب ينبني على وقائع مشمولة بهذا العفو…نزع السلاح والتسريح وإعادة إدماج العناصر المسلحة التي توجد خارج تراب الجهة”؛

هذه المحددات، تقودنا إلى الاستنتاجات التالية:

أولا أن المجال الصحراوي، يظهر في مقترح الحكم الذاتي كرهان للحقوق والحريات وليس فضاء للسلطة، وراسما للقطيعة مع المقاربة الأمنية والإدماجية غير المقرة بخصوصية المجال تاريخا وثقافة؛

ثانيا مقترح الحكم الذاتي، يقدم أرضية لتعايش النخب الوحدوية والانفصالية، في إطار علاقة جديدة مع المركز وبضمانات شكلانية تنهل من المرجعية الكونية للديمقراطية وحقوق الإنسان؛

ثالثا أن النخب الصحراوية مطالبة بإعادة ترتيب مكانتها وإعادة النظر في وظيفتها وفي علاقتها التقليدية مع المركز بالنظر إلى التغير الذي طال قواعد اللعب؛

 

V مقترح الحكم الذاتي: في مرمى “ضغوطات التوضيح”

بقيت المبادرة المغربية للحكم الذاتي، محط تقدير متزايد، وتفاعل دولي متنامي، عززته مواقف الاعتراف بالسيادة المغربية على المجال، والدعم الكبير الذي حظي به المقترح لدى عواصم صنع القرار الدولي، وتلك المعنية، تاريخيا، بالنزاع، وهو ما ظهر بشكل جلي في مواقف الولايات المتحدة الأمريكية، وإسبانيا، ومؤخرا الموقف الفرنسي…في محاولة لتفسير هذا المعطى، يمكن أن نرجعه إلى الأسباب الآتية:

أولا أن المبادرة تقدم حلا وسطا قياسا بمقترحات الحلول التي سبق أن تقدمت بها الأمم المتحدة، والتي تم تجاوزها، لأنها تمكن سكان الصحراء من حق تسيير شؤونهم بأنفسهم، وتحفظ للمملكة إشرافها على مقومات السيادة؛

ثانيا التطور الديمقراطي على المستوى الوطني، وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان، وما ترتب عن ذلك من تساوي للفرص، بحكم ما توفره الحياة الديمقراطية من مزايا من شأنه تشجيع حاضنة الطرف الآخر على قبول الإندماج بقواعد جديدة؛

ثالثا تآكل جبهة “البوليساريو ” بفعل الاستنزاف الداخلي الذي تعاني منه، وتراجع الدعم الخارجي، وانسداد الآفاق وحالة الإحباط الذي يعيشها الجيل الثاني الذي ولد وترعرع بمخيمات لحمادة، والنظر إليها اليوم كتنظيم مكبل ومصادر الإرادة؛

وفي المقابل، فقد تضمنت تقارير الأمين العام الأخيرة (على الأقل خلال السنتين الأخيرتين)، دعوة إلى المملكة لتقديم مزيد من التوضيحات بخصوص المقترح، والصيغ التي يقدمها، وهو الطلب الذي تجيب عنه الخارجية المغربية بأن “معالمه ستترك للمفاوضات ولن تقتصر على المعايير المقدمة في مبادرة عام 2007″، وأن “…أن الشروع في التوسع في المقترح لن يأتي إلا في مرحلة لاحقة”؛

وإذا كان الموقف الرسمي لا يزال متحفظا من الإقدام على هذه الخطوة، فإن معطيات موضوعية تدعو إلى أخذها بعين الاعتبار، ومن أهمها أحكام الدستور الجديد لسنة 2011، وكذا أحكام القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية، وهو الإطار القانوني الذي وسع من السقف القانوني (دستور 1996)، الذي أطر وضع المبادرة في سنة 2007، بالإضافة إلى امتلاك المدبرين الجدد للمجال، انطلاقا من الجماعات الترابية المنتخبة، لشرعية ديمقراطية أكبر ومجال أوسع للفعل، على المستويين المحلي والجهوي، مما كان متاحا في الماضي، وهو الجواب الذي يمكن أن يبلور  لصياغة جزء من الردود على ما حمله القرار القضائيى الأخير لمحكمة العدل الأوربية./.

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *