لم يعد الحديث عن مغاربة العالم يُختزل في مجرد تحويلات مالية تدعم الاقتصاد الوطني؛ بل أصبحنا اليوم أمام فاعل حقيقي ومباشر في مسارات التنمية، خاصة في العالم القروي، حيث الجذور الأولى والانتماء العميق.

ففي الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد الوطني تحديات خارجية متشابكة، ويشهد عجزا في الميزان التجاري بلغ ناقص 305 مليارات درهم، كما أشار التقرير المشترك لبنك المغرب وهيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي والهيئة المغربية لسوق الرساميل، برزت تحويلات مغاربة العالم كأحد أبرز صمامات الأمان، حيث بلغت ما مجموعه 119 مليار درهم في سنة 2024، بنسبة نمو قدرها 3.3 في المائة.

غير أن قراءة هذه الأرقام تحتاج إلى نظرة تتجاوز المؤشرات المجردة، نحو تفكيك البعد المجتمعي والإنساني لهذه التحويلات. فجل الدراسات الميدانية والتجارب المحلية تؤكد أن جزءا كبيرا منها لا يُصرف فقط في الاستهلاك أو الدعم الأسري؛ بل يُوجَّه مباشرة نحو مشاريع تنموية في القرى والبوادي، حيث لا تزال الحاجيات كبيرة والفوارق صارخة والآمال معلقة.

لقد أصبحت مساهمة مغاربة العالم في تنمية مناطقهم الأصلية تأخذ طابعا منهجيا وناضجا، من خلال تمويل مشاريع ذات وقع مباشر على الحياة اليومية للمواطنين في البوادي: حفر الآبار لتأمين الماء الصالح للشرب، تعبيد الطرق والمسالك الوعرة، اقتناء سيارات الإسعاف، تنظيم القوافل الطبية، بناء المساجد وترميم المدارس، إنشاء ملاعب القرب، وتوفير منح دراسية ومستلزمات مدرسية لأبناء الأسر الهشة.

هذه المبادرات لا تتم تحت أضواء الإعلام؛ بل بصمت وعفوية، مدفوعة بحس الانتماء، وبالمسؤولية التاريخية تجاه الأهل والأرض. وهي مبادرات لا تحقق ربحا ماديا لأصحابها، لكنها تحقق أثرا إنسانيا واجتماعيا عميقا.

اليوم، لم يعد ممكنا بناء نموذج تنموي جديد دون إشراك مغاربة العالم، ليس فقط كمصدر تمويل، بل كفئة وطنية تملك الكفاءة والالتزام والرؤية. ولهذا، فإن تسهيل مساهمتهم في تنمية المناطق القروية يجب أن يكون جزءا من السياسات العمومي؛ من خلال تبسيط المساطر الإدارية، وتشجيع الشراكات بين الجماعات المحلية والجمعيات التي تمثل المهاجرين، وتقديم تحفيزات واضحة للاستثمار الاجتماعي في القرى، وربط هذه المساهمات ببرامج التنمية الترابية الجهوية.

إن أرقام التقرير الاقتصادي توضح أن القروض البنكية الممنوحة للمغاربة المقيمين بالخارج تشكل فقط 18.2 في المائة من حجم تحويلاتهم؛ ما يعكس أنهم أكثر حرصا على دعم الوطن من استغلال موارده. كما أن ودائعهم البنكية بلغت ما يقارب 207 مليارات درهم، رغم تراجع وتيرة نموها مقارنة بالسنوات الماضية، وهو ما يعيد طرح سؤال الثقة والجدوى من الاستثمار.

في المقابل، فمغاربة العالم لا يزالون أوفياء لالتزاماتهم الأخلاقية والاجتماعية تجاه بلدهم؛ ولكنهم في حاجة إلى ثقة متبادلة، وإطار مؤسساتي محفز، يتيح لهم الانخراط بفعالية في التنمية المستدامة للقرى المغربية، خاصة في ظل الظروف المناخية الصعبة وارتفاع كلفة الحياة وتهديدات الهجرة القروية.

إن مغاربة العالم لا يطلبون امتيازات خاصة؛ بل يطمحون إلى فضاء يتّسع لمبادراتهم، ويمنحهم الاعتراف الذي يستحقونه. فهم لا يسهمون فقط في تمويل الدولة، بل في بناء المجتمع من الأسفل، في إصلاح مدرسة، وتجهيز مستوصف، ومساعدة أرملة، وتشغيل شاب، وفتح نافذة أمل في دوار ناءٍ.

وفي زمن التحولات العالمية المتسارعة، يظل الرأسمال الرمزي والإنساني الذي تمثله الجالية المغربية هو الثروة الحقيقية التي ينبغي أن تُحتضن وتُحفّز، لا أن تُستنزف أو تُغفل.

المصدر: هسبريس

شاركها.