معرض الكتاب.. الساسي يحذر من انهيار قوانين حماية الإنسان ويطالب بنظام جنائي جديد

أكد أستاذ القانون الجنائي، بجامعة محمد الخامس، محمد الساسي أن كل الترسانة القانونية التي وضعتها الإنسانية، بعد الحرب العالمية الثانية ترسانة قانونية لحماية الإنسان وأنسنة العقوبة والحيلولة دون الأعمال الوحشية التي لا تطابق كرامة الإنسان، أصبحت مهددة بكاملها وتجد نفسها اليوم وكأنها عادت إلى مرحلة ما قبل تلك الحرب.
وأشار الساسي إلى أن السياق الوطني يؤكد الحاجة الملحة لإعادة قراءة الظاهرة الإجرامية في المغرب، مذكرًا بأن الخطاب الملكي لسنة 2009 دعا إلى إحداث مرصد وطني للجريمة، غير أن هذا المشروع تأخر لسنوات قبل أن يتم تأسيسه في شكل مديرية تابعة لوزارة العدل، معبرًا عن اعتقاده بأن الملك كان يقصد إنشاء مؤسسة وطنية مستقلة عن الوزارة.
وعلاقة بالسياق الوطني أيضا، أوضح في حديثه عن اعتبارات إعمال العقوبات البديلة في المغرب أن المملكة تواجه نفس مشاكل السجون التي تعرفها دول أخرى، بل ربما بشكل أكثر تعقيدًا، مشيرًا إلى أن عدد السجناء يناهز 110 آلاف، مما يجعل المغرب من بين أول عشرين دولة من حيث نسبة السجناء قياسًا بعدد السكان.
وعلى السياق العالمي، وأوضح أن الحاجة أصبحت ملحّة اليوم لإعادة تأسيس نظام جنائي جديد، مشيرًا إلى أن البعض بات يطالب بظهور “بيكاريا جديد” يواكب تحديات العصر، أن النظام الحالي يواجه مشكلتين كبيرتين، تتمثلان في التضخم التشريعي المرتبط بظهور الجرائم الاصطناعية كالجرائم البيئية والاقتصادية والمرورية، وأزمة النظام السجني الذي لم يعد قادراً على تحقيق أهدافه الإصلاحية.
جاء ذلك خلال ندوة احتضنها رواق وزارة العدل (A28) بالمعرض الدولي للنشر والكتاب، مساء السبت 26 أبريل 2025، حول موضوع “العقوبات البديلة”، بمشاركة عدد من الأساتذة والقضاة والمهتمين بالشأن القانوني والحقوقي.
عدم الأمان
وأضاف الساسي أن مسألة الجريمة تثير نقاشًا مستمرًا، حيث تعلن الجهات الرسمية بالمغرب أن نسبة الجرائم إما مستقرة أو في تراجع، غير أن استمرار الطمأنة، بحسبه، يكشف عن معطى أخطر يتمثل في ارتفاع الشعور بعدم الأمان لدى المواطنين، موضحًا أن الإحساس بالخوف من الجريمة قد يكون أكثر خطورة من الجريمة ذاتها في بعض المجتمعات.
وأوضح الساسي أن النظام الجنائي الحديث شهد انتقالًا من عقوبة تطبق على الجسد إلى عقوبة تطبق على الحرية، حيث أصبح السجن بديلاً عن العقوبات الوحشية التي كانت تُمارس سابقًا على أجساد الجناة، مضيفًا أن السجن، الذي اعتُبر في مرحلة سابقة تقدماً إنسانياً، أصبح اليوم هو نفسه في حاجة إلى بديل جديد، بعدما أفرز مشكلات عميقة تتطلب إعادة التفكير في فلسفة العقاب برمتها.
واعتبر أن معالجة التضخم التشريعي تقتضي رفع التجريم عن بعض الأفعال ذات الخطورة المحدودة، مبرزًا أن القانون الجنائي يجب أن يظل آخر الدواء وليس وسيلة لمعالجة كل المشكلات الاجتماعية، منتقدا استمرار ثقافة العنف في الخطاب العام، حيث تطالب النقابات والأحزاب بتشديد العقوبات، رغم أن الواقع يظهر أن الجرائم تتزايد مع كل دورة انتخابية بدل أن تتراجع.
بيكاريا جديد
ولفت إلى أن أزمة النظام الجنائي الحديث، الذي انطلق مع بيكاريا وتطور مع المدارس المختلفة، بدأت تتعمق منذ السبعينيات، حيث ارتفعت نسبة اللجوء إلى سلب الحرية واكتظت السجون، مما جعلها فضاءات تؤذي المجتمع والسجناء معًا، موضحا أن هذا الواقع خلق تناقضًا صارخًا مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تدّعيها المجتمعات الحديثة.
وأضاف، “السجون أصبحت تعاني من مشكلات خطيرة، منها ارتفاع نسبة الانتحار داخلها مقارنة بخارجها، وانخفاض متوسط عمر السجناء، إضافة إلى الحرمان الجنسي وآثاره الاجتماعية، وانتشار الوصم والعود الإجرامي، مشيرا إلى أن الجريمة لم تتراجع رغم سياسة السجن، بل ارتفع الرقم الأسود للجرائم التي لا تظهر في الإحصاءات الرسمية”.
وأوضح أن منتصف القرن الثامن عشر شهد انبثاق عصر الأنوار، الذي أفرز أفكارًا تنويرية كبرى على يد مفكرين بارزين مثل منتسكيو وروسو وديكارت، وهي الأفكار التي التقطها سيزار بيكاريا ليحولها إلى معالم ما يشبه دستورًا للنظام الجنائي الحديث، مشيرا إلى أن هذا النظام تأسس على ثلاث ركائز أساسية: مبدأ الشرعية الذي يحصر سلطة وضع الجريمة والعقوبة في يد المشرع، ومبدأ النفعية الذي يربط العقوبة بتحقيق الردع العام والردع الخاص، إضافة إلى مبدأ حرية الإنسان الذي يقر بمسؤوليته عن أفعاله باعتباره كائنا عاقلاً.
ووفق الساسي فإن “مبدأ الشرعية منع القضاة من ابتكار الجرائم والعقوبات، وألزمهم بتطبيق النصوص المحددة من قبل المؤسسات التشريعية المنتخبة، وهو ما ترسخ في القاعدة القانونية الشهيرة “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، مشددا على أن مبدأ النفعية يُلزم بأن تكون للعقوبة وظيفة اجتماعية محددة، وهي دفع الأفراد لعدم ارتكاب الجرائم في المستقبل، سواء من خلال ردع غير المرتكبين أو من خلال منع العائدين من تكرار فعلتهم، مما يجعل العقوبة أداة لضبط السلوك المجتمعي وليس للانتقام أو التشفي”.
نص تنظيمي
من جانبها، كشفت ملاك الروكي، القاضية الملحقة بوزارة العدل ـ مديرية الشؤون الجنائية والعفو ورصد الجريمة، أنه تم إعداد مسودة نص تنظيمي لقانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة تضم 81 مادة، رغم أن النص الأصلي كان ينص على إعداد نصين تنظيميين، حيث ارتأت اللجنة المكلفة دمج الأحكام في نص واحد، مشيرة إلى أن المسودة جاهزة وتنتظر المصادقة من الأمانة العامة للحكومة.
وأكدت أن الغرامة اليومية، المتعارف عليها بشراء أيام السجن، التي أثارت جدلًا واسعًا بمواقع التواصل الاجتماعي، ليست تفضيلًا للأغنياء كما يروج، بل تخضع لشروط منها موافقة الضحية، وتُحدد قيمتها بين 70 و2000 درهم حسب الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمحكوم عليه، مشيرة إلى أن المشرع سمح أيضًا بتمتيع المحكوم عليهم سابقًا بالعقوبات البديلة تطبيقًا لمبدأ القانون الأصلح للمتهم.
وأوضحت ضمن مداخلة بعنوان “العقوبات البديلة خطوة نحو أنسنة نظام العقوبات”، قدّمتها نيابة عن مدير الشؤون الجنائية والعفو ورصد الجريمة هشام ملاطي، أن تنزيل القانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة يستهدف فئة واسعة تصل إلى 36 ألف شخص وفق أرقام المندوبية العامة لإدارة السجون، معتبرة أن استفادة هؤلاء من بدائل السجن يمثل مكسبًا كبيرًا للمجتمع على مختلف المستويات.
وأضافت أن المراقبة الإلكترونية، كعقوبة بديلة، تهدف إلى تتبع المحكوم عليه عبر سوار إلكتروني مقاوم للحركة، يُرسل إشارات عند محاولة التلاعب به، مشيرة إلى أن عملية التتبع ستتم عبر مركز وطني سيتولى مراقبة الأشخاص الخاضعين لهذا الإجراء في مختلف أنحاء المملكة، مع العودة إلى العقوبة الأصلية في حالة الخرق.
وأكدت الروكي أن النطق بالعقوبة البديلة يخضع لضوابط صارمة حددها المشرع، إذ يتوجب على المحكمة تحديد العقوبة الحبسية الأصلية أولًا قبل استبدالها بالعقوبة البديلة، مع إبلاغ المحكوم عليه بالتزاماته، والتنبيه إلى أن الإخلال بهذه الالتزامات يؤدي إلى تنفيذ العقوبة الحبسية الأصلية.
وأبرزت أن العقوبات البديلة لا تطبق إلا على مرتكبي الجنح الذين لم يسبق لهم العود، كما تستثني الجرائم الخطيرة مثل الجرائم الماسة بأمن الدولة وجرائم الإرهاب والاتجار الدولي في المخدرات، وفقًا لما نص عليه الفصل 101 من القانون الجنائي.
وسجلت روكي أن الرهانات المطروحة لا تقتصر على البعد الإنساني فقط، بل تمتد إلى تخفيف الأعباء الاقتصادية على ميزانية الدولة وتقليص الآثار النفسية والاجتماعية المصاحبة للسجن، مثل الوصم الذي يلاحق السجناء بعد الإفراج عنهم، مؤكدة أن الفلسفة الجديدة تهدف إلى تحقيق عدالة أكثر نجاعة وأقل كلفة.
في هذا الإطار، أوضحت المسؤولة أن الوزارة اختارت مقاربة تشاركية خلال بلورة القانون الخاص بالعقوبات البديلة، مستلهمة أفضل الممارسات الدولية مع مراعاة خصوصيات المجتمع المغربي. وتم التركيز على بدائل مثل العمل لأجل المنفعة العامة، والمراقبة الإلكترونية، والغرامات اليومية، مع استبعاد تدابير لم تثبت فعاليتها مثل السجن نهاية الأسبوع أو تقديم الاعتذار الإجباري.
وأبرزت أن هذا التوجه يسعى إلى تجاوز سلبيات الإيداع في السجون، وحماية كرامة المدانين، مع فتح آفاق أوسع لإعادة إدماجهم في المجتمع، لا سيما بالنسبة للفئات الهشة كالأحداث والنساء.
المصدر: العمق المغربي