في دجنبر 2022، عمّ “العزاء” الجنوب الشرقي المغربي إثر وفاة أربعة عمّال يشتغلون في ورش منجمي تقليدي مرخّص لاستغلال واستخراج معدن الباريتين، فيما أُصيب عامل خامس بجروح بالغة الخطورة، بعد سقوطهم في حفرة يبلغ عمقها 40 مترا. وقع الحادث بجماعة الطاوس، دائرة الريصاني، إقليم الرشيدية، أثناء محاولتهم الصعود في “سطل الرافعة” قبل انقلابه بغتة؛ فعادت مناجم الاستغلال المعدني التقليدي إلى واجهة النقاش مجددا، بدورها المزدوج في المنطقة: “كنزٌ عليه بقايا دماء”.
حرّضت الحادثة ذاكرة والدة (أ.ل) الذي قضى قبلها بسنتين في منجم للبراتين نتيجة سقطة غادرة عجّلت برحيل مبكر لشاب في العشرينيات. قابلها صحافي هسبريس مرّة، فأكدت أن “الملف تمت تسويته والعائلة حظيت بالتعويض”، لكنها زادت بتأثر كبير: “لا تعيد هذه الخمسة ملايين ‘حمّي’.. أمنحهم ضعفها ليعيدوه إليّ. إنه ابني الوحيد. ستنتهي الأموال غير أنه لن يعود. كان المعيل الوحيد للعائلة.. وكانت أحلامه كبيرة”.
أمّا (ل.ت) العامل بأحد مناجم راس كمونة، فلم يفكّر كثيرا حين قابله معدّ التحقيق في مدينة الريصاني، قبل أن ينتقد “فضاء العمل”، المتاخم لـ”سدرة منتهى” البلد، وقال: “توفّر هذه الأوراش فرص شغل أساسية، لكنها بمثابة ملعقة ريع من ذهب في فمّ صاحب الرخصة. نخاطر بحياتنا لأجل شيء ليس لنا ولا ننال منه حتى حقوقنا العادية”.
يشدّد هذا العامل، الذي تبدو تصدّعات حمل الأحجار الثقيلة بارزة في راحة يديه، على أن “ظروف العمل ليست يسيرة، مخاطرة يومية بالحياة، واشتغال في أوضاع قاسية إنسانيا، وجغرافيا، ومناخيا: برد قارس في الشتاء، وحرارة لا تطاق في الصيف، ونقص محتمل، أحيانا، في الأوكسجين داخل عمق البئر”، وغياب تام للشبكة يعزل العمال عن بقيّة الدنيا.
زار صحافي هسبريس هذه المناجم في يوليوز 2024، وفي الشهر نفسه من السنة الجارية، واتضح أن الوصول إلى أوراش الاستخراج التقليدي للبراتين بتافيلالت “مهمة مكلّفة”: نقط قصيّة، طرق شبه جبلية غير معبّدة، أحجار كثيفة مبعثرة، وشمس حارقة قد “تُصعّب عملية المراقبة”.
وبهذا، نفتح أحد أعقد الملفات في منطقة الجنوب الشرقي: التنقيب المنجمي التقليدي عن الباريتين؛ ويكشف النبشُ، الأول من نوعه، حجم الأموال المستخرجة من باطن أرض “إحدى أفقر الجهات بالمملكة”، وكيف يخرج الباريتين “نظيفا” بعدما اغتسل بـ”عرق عمّال” بلا أدنى حقوق: بلا تغطية صحية، ولا حماية اجتماعية، وبشروط سلامة جسدية غير كافية بتاتا.
فحتى بعد تشدد السلطات عقب مأساة 2022، يتبيّن أن “ما تم القيام به لم يكن كافيا”، فهل المشكل في المراقبة؟
يُعدّ الباريتين (أو الباريت) من أهم معادن المملكة، رغم شهرته المحدودة في الوعي العام المغربي؛ إذ تتراوح رتبة المغرب في إنتاجه بين الثالثة والرابعة عالميا، والأولى إفريقيا. ويُوجَّه جلّ الإنتاج من هذه المادة المستخرجة من الأوراش المنجمية التقليدية إلى التصدير. وتتولى الشركات المكلّفة بتسويقه تجميعه، وأحيانا معالجته وتنقيته من الشوائب عبر السحق والغسل.
يُوظف الجزء الأكبر من الباريتين في مجال استكشاف النفط والغاز، حيث يُستخدم بشكل رئيس كمُثقِّل في سوائل الحفر لزيادة الضغط داخل الآبار ومنع حدوث الانفجارات. كما يدخل في صناعات مثل الطلاء والبلاستيك كمادة مالئة، ويُستخدم في إنتاج مركّبات الباريوم. ويُستعمل أيضا كعامل حاجب للأشعة السينية في التصوير الطبي، ويستخدم في صناعة الزجاج، السيراميك، ومنتجات الاحتكاك.
يُطحن بدقة، ويُشترط أن يتمتع بكثافة نوعية عالية لا تقل عن 4.2. وتتراوح أسعار بيعه من المنبع بين 300 و700 درهم للطن، حسب الجودة والكثافة. ورغم أن تحديد السعر بالطن قد يوحي بـ”عوائد هزيلة”، إلا أن المعطيات التي استقيناها في زيارتنا إلى مركز أرفود التابع لمركزية الشراء والتنمية للمنطقة المنجمية لتافيلالت وفجيج، تشير إلى أن متوسط عدد الشاحنات التي تمر بالميزان المتواجد في المركز،محمّلة بهذا المعدن يبلغ 30 شاحنة يوميا، تحمل كلّ واحدة منها 50 طنا فأكثر وأحيانا أقل.
أوّلُ “الرّيع”.. رخصة!
سنة 1960، منح الملك الراحل محمد الخامس، بموجب الظهير الشريف رقم 1.60.019، لساكنة منطقة تافيلالت حق استغلال المعادن المستخرجة من تراب المنطقة المنجمية، وهي: الرصاص، والزنك، والباريتين. فتأسست مركزية الشراء والتنمية للمنطقة المنجمية لتافيلالت (CADET) وفقا للنص ذاته.
مركزية الشراء والتنمية هي هيئة عمومية تخضع لوصاية الوزارة المكلفة بالمعادن، وتُعَد الجهة المكلفة بتأطير النشاط المنجمي التقليدي، بدءا من تدبير التراخيص المنجمية التقليدية، ومواكبة الصناع المنجميين، وصولا إلى تسويق المعادن المستخرجة تقليديا واستغلال المؤهلات الجيولوجية للمنطقة.
أٌضيف للمركزية لاحقا إقليم فجيج فتحوّلت إلى “CADETAF” (مركزية الشراء والتنمية للمنطقة المنجمية لتافيلالت وفجيج). لهذه الهيئة جملة من الاختصاصات، منها “تأمين المنجميين ضد حوادث الشغل والأمراض المهنية، فضلا عن كراء المعدات المنجمية، والمواكبة الفنية والتكوينية”.
جاء في المادة الثالثة من الظهير: “يُفهَم من الاستغلال التقليدي (…) كل استغلال (…) يباشره أشخاص ذاتيون أو صناّع تقليديون أو عمّال مستقلون يعملون فرادى أو جماعات، ويرتكز نظام أجورهم فقط على اقتسام المتحصَّل من بيع المعدن المستخرج”. بمعنى أن كل ما يستخرجه المنجمي من باطن الأرض يُعَد “ملكا له”، ويتولى بيعه للمركزية، وذلك قبل تحرير السوق في السنوات الأخيرة. حاليا يتم بيع المعادن مباشرة لشركات، مع دفع “هامش” لـ”كاديطاف”.
وهكذا، لا يتطلّب الأمر امتلاك الأرض ولا حتى كراءها، فهي أرض سلالية واقعة بالقرب من الحدود مع الجزائر، أو في مناطق أخرى تدخل ضمن الأقاليم التي تخضع معادنها لتدبير المركزية: إقليم الراشيدية، إقليم فجيج، إقليم تنغير، إقليم ميدلت، إقليم زاكورة (وإقليم بولمان). وبمعنى أوضح: يمكن لأيّ مواطن من المنطقة أن يتحوّل إلى صانع منجمي تقليدي إذا عثر على أثر الباريتين، الزنك أو الرصاص. يطلب ترخيصا للاستغلال ويستفيد من “كامل العائد”، مع العلم أن هذا الترخيص يُورَّث.
ظلّت مسطرة التراخيص سارية إلى غاية سنة 2014، حين جرى تعليق منحها، تبعا لتوصية المجلس الإداري للمركزية المنعقد بتاريخ 03 ماي 2013، مع العلم أنه قبل هذا التاريخ، كانت التراخيص الإدارية تُمنَح من طرف لجنة ثلاثية تضم المدير الجهوي للوزارة المكلفة بالمعادن، والسلطة المحلية، والمركزية (CADETAF).
تكشف بيانات رسمية داخلية وصلت إليها أنه بين سنتي 2018 و2021 سُجّلت زيادة بـ4 رخص، رغم أن عملية منح التراخيص كانت “معلَّقة”، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة.
وأمام دفع بعض المنجميين بشبهة “تمرير رخص تحت الطاولة من طرف عناصر من داخل المركزية”، قال مصدر رفيع في المؤسسة إن “الأمر يتعلق بتراخيص صادقت عليها اللجنة الثلاثية قبل 2014، لكن أصحابها لم يُقدِّموا طلباتهم إلا بعد مدة معينة!”، مبرزا أن “الرخص تُمنح بمشاركة سلطات وزارة الداخلية، إلى جانب المديرية الجهوية للانتقال الطاقي، وبالتالي لا يمكن لأي عنصر داخل المؤسسة منح رخصة دون موافقة أطراف مؤسساتية أخرى”.
وعموما، جاء توقيف منح التراخيص تمهيدا لاستراتيجية جديدة، يُعدّ القانون رقم 74.15 المتعلق بالمنطقة المنجمية لتافيلالت وفجيج أحد أبرز معالمها.
وبالعودة إلى محضر لجنة البنيات الأساسية والطاقة والمعادن والبيئة بمجلس النواب، الذي تضمن عرضا لعبد القادر أعمارة، وزير الطاقة والمعادن والماء والبيئة آنذاك، فقد أشار إلى أن مجموع الرخص المسلمة بلغ 3908 رخص، ما يعني أن عددها ارتفع بـ87 رخصة بين سنتي 2016 و2020، رغم أن عملية منح التراخيص “معلّقة” منذ سنة 2014!
العرض الذي قدّمه أعمارة في يوليوز 2016 أمام اللجنة النيابية أثناء تقديم القانون أشار إلى تحديات تواجه القطاع، منها “عدم استغلال المؤهلات والإمكانات المعدنية الموجودة على أعماق كبيرة، والتي يتطلّب استخراجها استثمارات مهمة وتقنيات عالية تتجاوز قدرة الصانع المنجمي التقليدي”.
كما نبّه إلى “المنع القانوني الذي يفرضه ظهير 1960 في وجه المتدخلين الخواص للقيام باستثمارات معدنية في المنطقة”، وأقر بأن “طرق استغلال العروق والجيوب المُمعْدنة غير عقلانية”، ما يؤدي إلى “ضياع كميات مهمة أثناء عمليات التقييم”، وذكر أن “أشغال الاستغلال لا تحترم ضوابط المهنة، لا سيما فيما يخص الصحة والسلامة وحماية البيئة”.
مصدر مسؤول بوزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة صرّح بأن النص الذي تمّت المصادقة عليه نهائيا سنة 2017 “واضح في توجّهه نحو تقوية الاستثمار”. لكن ما تسجله أن بعض مقتضياته “أحدثت شرخا جديدا” لا تزال تداعياته مستمرة حتى اليوم، خصوصا أن المادة الثانية منه تلقى “رفضا شديدا” من طرف الفاعلين في التنقيب المعدني التقليدي.
تنص هذه المادة على أن “الاستغلال المنجمي التقليدي (…) يظلّ مرخّصا به داخل المنطقة المنجمية لتافيلالت وفجيج لمدة خمس عشرة (15) سنة غير قابلة للتجديد، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ”.
وقد أكد مصدر مسؤول من داخل المركزية أن “دفاع المنجميين عن الوضع الحالي هو سعي للحفاظ على امتيازات لم تسهم سوى في رفع مداخيلهم إلى مستويات خيالية، دون أن يُترجَم ذلك إلى انخراط فعلي في التنمية المحلية”. وأوضح أن “منحهم مهلة انتقالية لمدة 15 سنة كفيل بتمكينهم من تأسيس تعاونيات أو شركات تضمن حقوق العمال وتعزز حمايتهم الاجتماعية، غير أنهم يرفضون ذلك رغم أن وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة ليلى بنعلي أكدت في لقاءات عدة على حماية حقوقهم المكتسبة”.
من جهته، ردّ محمد براحة، منجمي تقليدي بمنطقة تافيلالت، على “شبهة الريع”، واصفا إياها بـ”المغالطة الكبيرة”، واعتبر أن “المنجمي التقليدي يقدم خدمة جليلة لفائدة المركزية، وكأنه يشتغل لصالحها”، وقال: “صاحب الترخيص يتولى المخاطرة في التنقيب والبحث، خصوصا أن العمل لا يزال يتم بطرق بدائية؛ وهي مغامرة مكلفة ماديا وغير مضمونة النتائج”.
ملامح “مغرب نافع”
يُصنّف محمد (اسم مستعار)، عامل قدم من منطقة تالسينت للاشتغال في ورش قرب الحدود المغربية الجزائرية، لهسبريس ظروف العمل ضمن خانة “المأساة” التي تسلب كل مرة عضوا في جسد المياومين، ويلخص كل الحكاية في قوله: “كلّما كنت أغادر الأهل أقول ربما هي فرصة الحياة الأخيرة. الموت يتربّص. الوفيات أضحت قليلة في السنوات الأخيرة، ولكن النجاة ليست وعدا، ولن يخبرك أحد بذلك، في أي ورش للاستغلال التقليدي”.
ما عبّر عنه هذا العامل يكشف “مفارقة عجيبة”، تزيد من حدّتها الأرقام الرسمية التي حصلت عليها . المعطيات تكشف أن معدن الباريتين الذي يستخرج من هذه المناجم يعدّ الأكثر درا للمداخيل في ميزانية CADETAF.
وللإشارة، فإن هامش ربح المؤسسة من كل طن يبلغ 12 درهما، تُحوَّل منها 10 دراهم إلى ميزانية المركزية، بينما يُخصَّص درهمان لـ”صندوق الإغاثة”، الذي يتكفل بالتعويض عن الحوادث. وهذا الصندوق يحقق مداخيل إضافية من عملية تجديد التراخيص التي تتم كل ثلاث سنوات، بقيمة 500 درهم للرخصة، ومن نسبة أيضا من بيع الزنك والرصاص.
تؤكد المعطيات أن مبيعات الباريتين تمثل مصدر الدخل الرئيسي؛ إذ شكّلت هذه المادة نحو 94.63 بالمائة من إجمالي إنتاج المعادن الثلاثة سنة 2021، وفقا للبيانات التي حصلت عليها هسبريس، فيما حقق الرصاص 4 بالمائة والزنك 1.37 بالمائة. وفي سنة 2024 بلغ رقم المعاملات الإجمالي للمعادن الثلاثة (الباريتين، الزنك، الرصاص) ما مجموعه 494 مليون درهم، استحوذ الباريت وحده منها على 97.32 بالمائة (تبعا لحجم الإنتاج)، أي ما يعادل 480.7 مليون درهم.
تكشف الأرقام كذلك أن الباريتين هو المعدن الوحيد الذي سجّل منحى تصاعديا مستمرا خلال الفترة الممتدة بين 2021 و2024، حيث ارتفع إنتاجه من 548,623 طنا سنة 2021 إلى 614,329 طنا في 2024، أي بزيادة 65,706 طن في ظرف 3 سنوات.
وبالقيام بعملية حسابية يتبين أن ما حققته المركزية من مبيعات الباريتين خلال السنة الفائتة يقدّر بحوالي 7.37 مليون درهم (12 درهما لكل طن، ضمنها عائد صندوق الإغاثة الذي تستخلصه المؤسسة). ويؤكد هذا الأمر أن المؤسسة تقوم أساسا بالارتكاز إلى المداخيل التي يتم تحصيلها من هذا المعدن، وهو ما يفسر ما اطلعت عليه في وثيقة داخلية توصلنا بها تبين نية المركزية الرفع من هذا الهامش.
هسبريس تطرح السؤال هنا: هل يُبقي إنتاج هذه الثروة كلّها منطقة تافيلالت في عداد ما كان يُسمّى “المغرب غير النافع”؟ نجد الإجابة عن السؤال في إفادة عفوية قدمها (ع.و) عامل سابق في منجم للاستغلال التقليدي بنواحي جماعة سيدي علي، حيث قال: “أموال طائلة يجنيها صاحب المنجم وحده، وكذلك الشركة التي تشتري الباريتين لتصديره”، وتابع: “كانت هذه المناجم، وما تزال، تبيض ذهبا، ولذلك فإنّ التطاحن حولها لا ينتهي، وستبقى الجهة مهمّشة”.
التّطاحن حول الرخص وعقود الشراكة يُعدّ “مُعضلة” مطروحة على طاولة المركزية، وجاء في الوثيقة الداخلية التي حصلت عليها هسبريس اعتراف المؤسسة بـ”غياب مساطر قانونية لتتبّع ملفات المنازعات بين المنجميّين التقليديّين والأطراف المتعاقدة”؛ أي صاحب الرخصة الذي تعاقد مع شخص آخر لاستغلال المعادن مقابل مبلغ معيّن يتم التوافق عليه، مع الإشارة إلى أنّ هذا التعاقد تصادق عليه المركزية.
وصرّح علي الغازي، مدير المركزية، لهسبريس قائلا: “رافقنا كل الملفات الخلافية، جلّها لم يجد حلّا، ووجّهنا الأطراف نحو القضاء”، وأكد أن “عدد عقود الشراكة المبرمة والمصادق عليها ارتفع؛ إذ بلغ إلى حدود 2024 نحو 2538، وهذا الارتفاع ناتج بالأساس عن توقف عملية منح التراخيص، كما تبيّنا من خلال قاعدة المعطيات أن أغلب الأوراش المنجمية النشطة هي التي تستغل بموجب عقود الشراكة”.
مناجم “بوار الحقّ”
يقول (ر.ض)، عامل بأحد المناجم المتوقفة بمنطقة تيجخت نتيجة صراع ممتدّ بين ورثة صاحب الرخصة والطرف المتعاقد مع الهالك، حين التقاه معدّ التحقيق: “نحن الخاسرون. إنهم يتناحرون من أجل أحجار ثمينة تمنحها الأرض، ولكننا نخسر قوت يومنا”، وزاد: “نشتغل في ظروف غير سوية. أحيانا… عندما ننزل إلى العمق، نشعر بصعوبة في التنفس، فنصعد بين الفينة والأخرى لاستنشاق الهواء، قبل أن نقضي في أحشاء الجبل”.
يكشف (ر.ض) عن معاناة كبيرة وقف صحافي على بعض معالمها؛ فأثناء الزيارة التي أجريناها للمنطقة، عاينا أوراشا مؤهّلة تحترم الشروط المنصوص عليها. وقد فهمنا أن “غرض المهني المرافق هو تقديم النشاط المنجمي التقليدي في أفضل حلّة”، وقد عبّر عن ذلك صراحة حين التمس التركيز على “إيجابيات القطاع لتقديمه كمجال تخطّى كل عقباته القديمة التي تحرّض السجال الحقوقي”.
خلال الزيارة نفسها، توجّهنا إلى منطقة “شايب الراس”، ورصدنا فيها “عشوائية كبيرة” في مختلف الأوراش القائمة. لاحظ صحافي هسبريس وقوفا متهورا من طرف أحد العمال عند مقدّمة الرافعة دون حبل يشدّه إلى الخلف. وكان واضحا أن أيّ خطوة قد تؤدّي إلى انزلاق مميت داخل البئر. كما لاحظنا عدم احترام ارتداء الخوذة الواقية، وحتى الدرج الذي يشترطه التصريح بالشرف لم يكن وفق المعايير المنصوص عليها؛ إذ لم يكن بارزا بما فيه الكفاية.
في ورش آخر متوقّف بمنطقة تيجخت، عاينا أن السياج الحديدي الذي يُلزم به التصريح بالشرف، لعزل منطقة التنقيب عن المارّة، كان ممزّقا، ما يعني أن مَن يمارس الرعي أو أحد الرُحّل قد يسقط داخل الحفرة. وللإشارة، فإن هذا المنجم يقع في منطقة جبلية نائية لا تؤدي إلى أي مسار آخر، بمعنى أنها ليست ممرّا مباشرا. بيد أن ما أثار الانتباه هو “التراخي” في تفعيل مقتضيات الالتزام الذي بدأ العمل به عقب حادثة سنة 2022.
تختبر الاختلالات التي وقفنا عليها “صرامة المراقبة” التي تتولاها المديرية الجهوية للانتقال الطاقي، كما هو مبيّن في المادة الثانية من القانون 74.15. وقد أكّد ذلك منجميّون من المنطقة، صرّحوا بأنّ اللجان المكلّفة بهذه المهمة “لا تأتي”. فطرحنا السؤال على المديرية الجهوية بمدينة الراشيدية، لكنها طلبت التريّث إلى حين “مصادقة المصالح المركزية بالرباط على طلبنا” .. ولم نتوصّل بردٍّ إلى حدود الآن.
من نتائج هذا “التراخي”، تكشف معطيات رسمية حصلنا عليها من لدن “كاديطاف” أنّه، بعد حادثة سنة 2022، شهدت مناجم المنطقة وفاة 3 أشخاص سنة 2023، و7 أشخاص سنة 2024، و8 آخرين إلى حدود 26 شتنبر الجاري. وقد سُجّلت منها في أوراش الاستغلال التقليدي للبارتين في تيجخت (جماعة الطاوس) وراس كمونة (جماعة سيدي علي) 3 حالات وفاة في أسبوع واحد خلال منتصف شتنبر 2025، فضلا عن الإصابات المتكررة ومنها تلك التي تتسبب في عاهات مستديمة.
هذه الحوادث، التي خلّف بعضها أيتامًا وعائلات بلا معيل، يُرجعها مدير المركزية، علي الغازي، إلى أسباب مختلفة، إلا أنّ أغلبها ناتج عن ضعف شروط السلامة. ويضيف: “وهو ما سيحتم علينا وضع تصور جديد، يستأنف من الأرضية التي حددها التصريح بالشرف”.
الصادم أن هذه المناجم (ليس البرتين وحده) حصدت 18 وفاةً بعد فاجعة 2022 التي هزّت المنطقة كاملة، وتمّ الحديث حينها عن “مخاض جديد للنشاط المنجمي التقليدي، الذي جلب الأضواء إلى نفسه بعدما كانت كل معاناة العمال تتحرك في الظل”؛ وهو ما يُسائل، صراحةً، الصرامة في تطبيق شروط السلامة داخل هذه الأوراش، التي يشتغل فيها العامل بسومة يومية تتراوح بين 120 و140 درهما، وقد يخسر فيها حياته لتنال عائلته وذوي الحقوق “تعويضا هزيلاً” لا يتجاوز 80 ألف درهم.

تُوضّح مراسلة موجهة إلى صحافي هسبريس من طرف مركزية الشراء والتنمية أن “الأمر لا يتعلق بتعويض مباشر تقدّمه المركزية، بل بتأمين جماعي سنوي ضد حوادث الشغل والأمراض المهنية، بحيث يتم التعاقد سنويّا مع شركة تأمين لفائدة 1000 صانع منجمي، ويتم اختيار شركة التأمين عبر طلب عروض لضمان أفضل الشروط”، مبرزة أن “التعويضات تُصرف من طرف شركة التأمين، بناء على الملفات الطبية والمعايير الجاري بها العمل في هذا المجال”.
تذكر المؤسسة نفسها، في المراسلة ذاتها، أن “العلاقة بين المركزية والصانع المنجمي لا تُعتبر علاقة شغل، ولا تتوفّر المركزية على لائحة اسمية دقيقة للصنّاع، مما يجعل من التعاقد الجماعي عبر التأمين الخيار الأنسب لضمان الحماية الاجتماعية لهم”.
وصل التحقيق إلى مستجدات حصرية، منها إجراء المركزية في الشهور الأخيرة تشخيصا انتهى إلى أن الميزانية المُخصصة لتسوية فاتورة أقساط التأمين لفائدة الصناع المنجميين التقليديين وعمالهم المزاولين بالأوراش المنجمية التقليدية التي تُشرف عليها المركزية تُمثل “عبئا ثقيلا على صندوق الإسعاف”. ولتقليص المبلغ المخصص لهذه الفاتورة، شرعت إدارة المركزية في البحث والمشاورات مع مختلف شركات ووكالات التأمين لجمع معطيات في الموضوع.
المشاورات حسب المعطيات التي وصلنا إليها ساهمت في “تخفيف الفاتورة”، وضمنت “زيادة في مبلغ التعويضات التي يتلقاها ضحايا حوادث الشغل والمستفيدين من هذا التأمين”، فقررت المركزية فسخ العقد المبرم مع شركة “DIWAN ASSURANCES” والشروع في البحث عن شركة تأمين جديدة، ورست الإجراءات على عرض شركة “ATLANTA SANAD”. فتم إشعارها قصد إعداد عقد التأمين.
حقّق العقد الجديد زيادة ملحوظة في مبلغ التعويضات وأقساط التأمين المخصصة للمؤمن لهم أو ذوي الحقوق في حالة الوفاة، بحيث ارتفعت من 80 ألف درهم إلى 100 ألف درهم. المستجدات ستساهم في تقليص التكلفة الإجمالية لفاتورة التأمين بـ316 ألفا و575 درهما، لأن الفاتورة السابقة التي كانت تدفعها المركزية سنويا لفائدة شركة التأمين هي مليون و685 ألفا و100 درهم، لكنها انخفضت بموجب العقد الجديد إلى مليون و368 ألفا و525 درهما، أي بهامش فرق قيمته تقارب 19 بالمائة.
لكن، الواضح أن العمال لا يحظون بأيّ تغطية صحية (في علاقتهم مع المشغل) وبلا تقاعد، وقد ولّد هذا الأمر اتهامات متواصلة للمنجميّين بـ”استغلال العمال على نحو فجّ” دون رغبة في “تقديم تنازلات أو الدخول في تعاونيات تُسهم في تأهيل المداخيل ومأسستها بما يضمن التصريح بالعمال في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”.
وكشفت مصادر معدّ التحقيق أن المركزية حاولت في وقت سابق فرض التصريح بالعمال، لكنها لم تجد صيغة قانونية لتنزيل ذلك بما يتوافق مع شروط التنقيب المنجمي التقليدي.
تأكد هذا الأمر لهسبريس عندما حصلنا على مراسلة وجهها منجمي إلى مدير “كاديطاف” السابق عبد الرحيم دينار، جاء فيها أن “رخص الاستغلال المنجمي التقليدي هي رخص تابعة للمركزية” وهي “لديها تأمين بهذا الخصوص”، وتابع المنجمي: “لا أتوفر على شركة أو مقاولة أو تعاونية معدنية للتصريح بالعمال، وإذا أوجدت المركزية صيغة قانونية لذلك، فأنا على أتم الاستعداد للتعاون”.
كشف مصدر مسؤول أن “هذا الملف المتعلق بالتصريح في الضمان الاجتماعي يحظى بأهمية قصوى لدى الوزارة، التي تشتغل حاليا على صيغة مناسبة”، معتبرا أنه “من المرجح أن يتم حل هذا الإشكال في صيغة غرف تجارية تمكن المنجمي من بطاقة مهنية تؤهله لاستكمال الإجراءات المتعلقة بالموضوع”.
الغريب الذي يستنتجه التحقيق هو دفاع المنجميين التقليديين عن “استمرار هذا الواقع على ما هو عليه من هشاشة ومساوئ مهنية بالنسبة للعمال”. من الواضح أن هذا الوضع، الذي لا يعترف بأيّ حقّ للمُياومين، بما في ذلك حقهم النقابي، تستفيد منه ثلاثة أطراف: المنجمي التقليدي، ومركزية الشراء التي تتحصّل على هوامش الربح، والشركات المشترية للمعادن.
والنتيجة: يخسر العمال جهدهم بلا حقوق، وتعود “المداخيل السخيّة” إلى صاحب الرخصة أو من تعاقد معه لاستغلال الورش. وأكدت معطيات رسمية توصل بها معد التحقيق من مركزية الشراء والتنمية أن مداخيل الصناع المنجميين التقليديين (المصرح بها) بلغت 360 مليون درهم سنة 2024 بعدما حققت 322 مليون درهم سنة 2023.
لكن، إلى ماذا يستند الفاعل المنجمي التقليدي وهو يدافع عن “واقع بلا أفق”؟ ولماذا مازال يرفض القانون 74.15 المتعلق بالمنطقة المنجمية لتافيلالت وفجيج؟
هذا ما ننبش فيه في الجزء الثاني من هذا التحقيق.. ونكشف فيه حقائق أخرى خطرة مرتبطة بـ”فوضى” تهريب الباريتين والغش وخرق القانون.
المصدر: هسبريس