تخيلوا معي، مجرد تخيل، لو أن القامات العظيمة التي شكلت وجدان الصحافة المغربية أمثال خالد الجامعي (صاحب القلم اللاذع والتحليل العميق)، مصطفى العلوي (مدرسة النكتة السياسية الراقية)، العربي المساري (قامة الدبلوماسية والقانون)، عبد الكريم غلاب (مؤرخ الأدب والسياسة)، وعبد الجبار السحيمي (شيخ العمود الصحفي)، أطال الله بقاءهم في جنات النعيم لو أنهم قاموا بجولة استكشافية خاطفة إلى قاعات التحرير ومواقع “الصحافة” الحالية.


​سيدخل العلوي باشا، بابتسامته الساخرة المعهودة، إلى غرفة أخبار تغرق في صراخ: “هل العنوان فيه كلمة ‘صادم’ أو ‘سري للغاية’؟ لا يهم المحتوى! المهم أن يجذب الـ ‘Clickbait’!”

​مصطفى العلوي (يهمس في أذن خالد الجامعي): “أبا الجامعي، أقسم أننا كنا نُحاسب على سلامة اللغة، وليس على عدد النقرات! هل تحولت صحافتنا من ‘رسالة’ إلى ‘ريل’؟ لو كنت أدري، لخصصت عمودي الأسبوعي للحديث عن طبخة الـ ‘طنجية بالبيضة’ بدلاً من تحليل خطابات الأمم المتحدة… ربما كانت ستجلب لي جمهورا أوسع!”
​أما خالد الجامعي، المعروف بصرامته المبدئية، لربما كان سيتأبط صدره ويقول بنبرة يملؤها الأسى المشوب بالسخرية: “يا للقضاء! كنا نعتبر ‘البطالة المقنعة’ مشكلة في الإدارة العمومية، واليوم نعيش ‘الصحافة المقنعة’! مقالات بلا عمق، تحليل بلا معطيات، وتغطية تتبع ‘الترند’ مثل الذبابة التي تتبع قطعة الحلوى. كنا نسعى لرفع الوعي، والآن هم يسعون لرفع عداد المشاهدات… تباً!

​سيقف عبد الجبار السحيمي، شيخ الأعمدة، حائراً أمام شاشات عملاقة تفيض بـ “مؤثرين” يحللون السياسة بالـ “إيموجي”، ومقالات تُكتب على عجل دون تدقيق لغوي أو تاريخي.

​عبد الجبار السحيمي (بعينين جاحظتين): “أين ‘العمود’ يا قوم؟ أين تلك المساحة المقدسة التي كنا نسكب فيها خلاصة الفكر ومغزى الحدث؟ هل تم استبداله بـ ‘بلايف’ أو ‘ستوري’؟ لقد كنت أرى في العمود قطعة نحت فني تُعرض يومياً، واليوم أرى ‘عشوائيات رقمية’ تُرمى كل ساعة! وكنا نقول: ‘الصحافة هي السلطة الرابعة’… يبدو أنها أصبحت ‘للترفيه الأرخص ام انها لتميع المشهد (مشا ضومين)!”

​عندما يشاهد العربي المساري، رجل الدبلوماسية والإعلام، وعبد الكريم غلاب، رجل المرجعية والمبدأ، الجرأة المفقودة في التعاطي مع قضايا الأمة الكبرى، والاستبدال المريب للتحقيق الجاد بنقل تصريحات “المسؤول X” (دون أي تدقيق أو نقد).

​عبد الكريم غلاب (بأسلوب المفكر الثائر): “كنا نعتبر الصحافة ‘نضالاً مستمراً’، وكنا نرى القلم ‘بندقية’ موجهة للفساد والانحراف. أما اليوم، فـ ‘القلم’ تحول إلى ‘ميكروفون’ لـ ‘الدعاية المجانية’! كنا نتلقى التهديد من أجل قول الحقيقة، واليوم يتلقون الـ ‘تمويل’ مقابل ‘تجميل’ الواقع! ما هذا الانبطاح الذي يرتديه الثوب الصحفي؟”

​في نهاية المطاف، سيجتمع الأساتذة الراحلون في غرفة التحرير (الوهمية)، وربما يقررون بـ ‘إجماع صامت’ أن يعودوا إلى حيث كانوا.

​لربما يبتسم مصطفى العلوي بمرارة ويقول: “يا سادتي، لنعد إلى صفحاتنا ‘الورقية’ في السماء. على الأقل، كانت الأخبار الرئيسية تُطبع، لا تُـ ‘فلتر’!”

​ويختتم خالد الجامعي، وهو يضع نظارته السوداء (للحفاظ على بصره من بريق الشاشات المضلل): “هذه ليست صحافة… هذا ‘سيرك رقمي’! شكراً أيها الجيل الجديد، لقد جعلتم مهمة المؤرخين أسهل: فصحافة اليوم ستُصنف في أرشيف ‘المحتوى الترفيهي سريع التلف’، لا في أرشيف ‘التاريخ المعاصر’.”

​ثم ينسحبون بهدوء، تاركين خلفهم جيلاً يظن أن “المهنية” هي أن تكتب “عاجل” قبل الخبر بـ 15 ثانية.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.