“هاكْ ورقة، سِير لفاس”، عبارة يقول سكان من تاونات إنها باتت مألوفة في آذان المرضى الوافدين على المستشفى الإقليمي، تُرددها الأطر الصحية حين تعجز عن تقديم العلاجات الضرورية بسبب غياب التجهيزات أو انعدام التخصصات. ويؤكد هؤلاء أن كل مرة تطرق فيها أسرةٌ باب هذا المرفق تُقابل غالبًا بإحالة على مستشفيات فاس أو مكناس، وهو ما يعكس تراجعًا مقلقًا في الحق في الصحة، وسط معاناة وارتفاع تكاليف التنقل التي تفوق طاقتهم.
وفجّر الحادث الأخير المتعلق بوفاة طفل يبلغ من العمر ست سنوات، تعذر تشريح جثته لغياب الطب الشرعي، موجة استياء واسعة في أوساط الساكنة. ورأى كثيرون أن الأمر لا يتعلق فقط بغياب مصلحة الطب الشرعي، بل يُعد تجليًا صارخًا لاختلالات أعمق يعاني منها المستشفى الإقليمي بتاونات.
ولا تقتصر الأزمة على الأعطاب التقنية وندرة الأطر، بل تتجلى أيضًا في ضعف البنية التحتية وغياب أقسام أساسية، مثل جراحة القلب أو الإنعاش العصبي، ما يُفرغ المستشفى من دوره كمركز استشفائي إقليمي فعلي. ويتسبب هذا الوضع في إحالة الحالات المستعجلة على مستشفيات أخرى، بينما تظل حياة المرضى مرهونة بسرعة سيارة الإسعاف ومزاج الطريق، وكأن الإنقاذ لم يعد طبيًا بل جغرافيًا.
هذا الوضع المتأزم دفع عددًا من الفاعلين الحقوقيين والجمعويين إلى دق ناقوس الخطر، مُحذرين من استمرار تهميش القطاع الصحي في الإقليم، ومنبّهين إلى أن “الحق في الصحة” لم يعد مجرد شعار دستوري بل معركة يومية يخوضها المواطن البسيط. هؤلاء الفاعلون يرون أن الدولة مطالبة بإعادة الاعتبار لهذا المرفق، عبر تزويده بالتجهيزات الحديثة، وتحفيز الأطر الطبية على الاستقرار في المنطقة، بدل ترك المستشفى يعاني من نزيف الكفاءات وغياب الحد الأدنى من شروط العمل الكريم.
صوت الغضب
في هذا السياق قال الفاعل الجمعوي والحقوقي سعيد البوزيدي إن “الوضعية المأساوية التي يعيشها المستشفى الإقليمي بتاونات تُعد وصمة عار في جبين السياسات الصحية المتعاقبة”، مشيرًا إلى أن “السكان يجبرون يوميًا على خوض رحلة بحث مريرة عن العلاج في مدن أخرى، بينما يُفترض أن يجدوا في مستشفاهم خدمات تحفظ كرامتهم الصحية والإنسانية”.
وأضاف البوزيدي أن “المشكل لم يعد فقط في نقص المعدات أو الأطباء، بل في الشعور العام لدى السكان بأن صحتهم لا تحظى بالأولوية التي تستحقها، وكأنهم مواطنون من درجة ثانية”، داعيًا إلى “تحرك عاجل يعيد الثقة في القطاع العمومي ويضع حدًا لهذا الإهمال غير المقبول”.
وأوضح المتحدث، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “ما يحدث اليوم ليس فقط نتيجة تقاعس في التجهيز أو نقص في الموارد، بل هو تجلٍّ لسياسة إقصائية تُكرّس الفوارق بين المركز والهامش”، مبرزًا أن “المستشفى يعاني من غياب أجهزة أساسية مثل ‘السكانير’ وجهاز الكشف بالأشعة المتطورة، إلى جانب ضعف مقلق في عدد الأطباء المتخصصين، خصوصًا في الجراحة والإنعاش، وهو ما يهدد أرواح المواطنين يوميًا”.
وتابع الحقوقي نفسه بأن هذه الوضعية “تطرح علامات استفهام كبرى حول مدى التزام الدولة بمبدأ العدالة المجالية في توزيع الخدمات الصحية”، مشددًا على أن “الواقع الصحي بتاونات يعكس إخفاقًا واضحًا في السياسات العمومية، ويُحتم تدخلًا عاجلًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تتحول المعاناة إلى مأساة جماعية لا يمكن تبريرها”.
خدمة مُتواصلة
الطبيب السابق بالمستشفى الإقليمي بتاونات محمد العيساوي قال إن المؤسسة الصحية رغم ما تعانيه من إكراهات لوجستيكية وبشرية مازالت تحاول القيام بدورها في خدمة ساكنة الإقليم، مبرزًا أن بعض الأقسام، وعلى رأسها قسم المستعجلات وطب النساء والتوليد، تُبذل فيها مجهودات ملموسة تستحق التنويه، بالنظر إلى حجم الضغط والإقبال الكبيرين على خدماتها.
وأضاف العيساوي، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “الطاقم الطبي والتمريضي يشتغل في ظروف صعبة للغاية، لكنه يُظهر التزامًا كبيرًا في التعامل مع الحالات المستعجلة، ويحرص على ضمان الحد الأدنى من الرعاية رغم ندرة الوسائل”، مشيرًا إلى أن “الحديث عن ضعف المستشفى يجب ألا يُلغي الاعتراف بما يُنجز يوميًا من عمل مهني وإنساني يستحق الدعم، لا التبخيس”.
وأكد المتحدث ذاته أن “المدخل الحقيقي لتحسين وضعية المستشفى لا يكمن فقط في انتقاد واقعه، بل في توفير إرادة سياسية واضحة لتأهيله، من خلال تزويده بالمعدات الحديثة وتوسيع بنياته وتوفير تحفيزات مادية ومعنوية للأطر”، متابعا بأن “الإقليم يتوفر على طاقات شابة ومؤهلة في مجال الصحة، لكنها غالبًا ما تُضطر لمغادرته نحو مراكز استشفائية أخرى بسبب غياب ظروف العمل والاستقرار”.
وختم العيساوي تصريحه بالتشديد على أن “إنقاذ المستشفى الإقليمي بتاونات لم يعد خيارًا تنمويًا فقط، بل أصبح ضرورة حياتية تمس الحق في الوجود الآمن والصحة الكريمة”، مشيرًا إلى أن “الضغط المتزايد على المستشفى الجامعي الحسن الثاني بفاس، نتيجة تحويل معظم الحالات من إقليم تاونات، يؤدي إلى أوضاع كارثية تؤثر سلبًا على جودة الخدمات الصحية المقدمة، ما يستدعي إعادة النظر في توزيع الموارد وتحسين البنية التحتية الصحية بالإقليم”.
المصدر: هسبريس