في خضم الانشغال العالمي بالذكاء الاصطناعي وتداعياته الفورية، يوشك تحول أكثر عمقًا أن يطرق أبواب المنظومات السياسية والاقتصادية دون أن ينتبه له صانعو القرار. إنها الحوسبة الكمومية، ذلك النمط غير المسبوق من المعالجة الرقمية الذي لا يَعِد فقط بتسريع الحسابات، بل بإعادة تشكيل مفاهيم السيادة، والخصوصية، بل وحتى الأمن القومي.
ولمن لم يعتد هذا المصطلح بعد، فإن الحوسبة الكمومية تختلف جذريًا عن الحوسبة التقليدية. فالحواسيب الحالية تعمل عبر “البتات” الثنائية (0 أو 1)، وتعالج البيانات بشكل خطي ومتسلسل. أما الحواسيب الكمومية، فتعتمد على وحدات تُسمى “الكيوبِتات”، يمكنها أن تكون في حالتي 0 و1 في الوقت نفسه، بفضل ظواهر فيزيائية تُعرف بـ”التراكب” و”التشابك الكمومي”. هذه الخصائص تمنحها قدرة خارقة على معالجة كمّ هائل من التركيبات والاحتمالات في الوقت نفسه، لا بالتتابع بل بالتوازي، وهو ما يعيد تعريف حدود الممكن.
هذه القدرات النظرية بدأت تنتقل إلى الواقع. تجارب ميدانية أثبتت أن بعض الشرائح الكمومية أنجزت عمليات كانت ستتطلب من أقوى الحواسيب الكلاسيكية عشرات السيبتيليونات من السنين. وللتقريب، فإن السيبتيليون هو رقم يعادل 1 يتبعه 24 صفرًا (10²⁴)، أي رقم ضخم لدرجة أنه يتجاوز عمر الكون المُقدّر زمنيًا.
ما يثير القلق ليس فقط هذا التقدّم، بل البطء المؤسسي في إدراك التهديد المصاحب له. بينما تُعلن شركات مثل IBM وGoogle وMicrosoft عن خطط لإطلاق حواسيب كمومية قابلة للاستخدام التجاري خلال أقل من خمس سنوات، لا تزال الحكومات، والمصارف، ومراكز القرار تُدار على أساس أن البنية الرقمية القائمة صالحة ومحمية لفترة طويلة قادمة.
شركات التكنولوجيا العملاقة تسابق الزمن في بناء البنية التحتية لهذه الثورة. إلى جانب الأسماء التقليدية، برزت شركات ناشئة مثل PsiQuantum، IonQ، وRigetti، وجميعها تستثمر في إنتاج حواسيب ذات ملايين الكيوبتات. أما في التطبيقات، فقد بدأت شركات مثل Moderna في البحث عن طرق لتسريع تطوير الأدوية عبر المحاكاة الكمومية، فيما تطور Allstate نماذج تأمين قائمة على محاكاة المخاطر لعقود مقبلة، وتستكشف Comcast تحسينات نوعية في تدفق الإنترنت.
لكن الوجه الآخر لهذا التقدّم يحمل تهديدًا حقيقيًا: القدرة على كسر أنظمة التشفير التي تحمي بيانات العالم اليوم. فخوارزميات مثل RSA وECC، والتي يعتمد عليها الأمن السيبراني العالمي، مهددة بالانهيار أمام القدرات الكمومية. ولهذا ظهر مصطلح “احصد الآن، فك لاحقًا”، في إشارة إلى الجهات التي تجمع حاليًا كميات ضخمة من البيانات المشفّرة، بانتظار حواسيب كمومية تفك شفرتها لاحقًا.
هذه المخاطر تهمّ الدول جميعًا، ومنها المغرب، الذي حقق تقدمًا لافتًا في رقمنة المالية العمومية، وتطوير أنظمة الإدارة الضريبية والمحاسبة الحكومية. غير أن هذا التقدم، الذي يعتمد بشكل كبير على منصات رقمية، لا يزال يستند إلى أنظمة حماية قائمة على تقنيات قد تصبح غير فعالة خلال سنوات قليلة. ومع حجم الميزانيات الوطنية المتداولة سنويًا، فإن مجرد زعزعة الثقة في القدرة على حماية هذه البُنى يمكن أن يؤدي إلى اضطراب مالي واسع النطاق.
ما هو مطلوب اليوم ليس الانبهار بالابتكار، بل الفعل الاستباقي. ويتعيّن على الدول الجادة في حماية سيادتها الرقمية أن تشرع في دمج خوارزميات التشفير المقاومة للهجمات الكمومية ضمن أنظمتها الحيوية، خاصة في ما يتعلق بالمعاملات المالية والبيانات السيادية. كما أن الحاجة ملحة إلى تأسيس وحدات متخصصة في الأمن السيبراني الكمومي داخل المؤسسات الرسمية، تكون مهمتها رصد التهديدات القادمة وتحديث آليات الحماية بشكل مستمر. وإلى جانب ذلك، لا بد من مراجعة التشريعات والقوانين المرتبطة بحماية المعلومات، لتُواكب الواقع الرقمي المتحوّل بسرعة غير مسبوقة.
أما الرهان الأهم، فهو الاستثمار في البحث العلمي، من خلال دعم الجامعات ومراكز الابتكار لتطوير المعرفة في مجالات فيزياء الكم، وهندسة الخوارزميات، والتشفير المتقدّم.
في المحصلة، لسنا إزاء تكنولوجيا جديدة فحسب، بل أمام نقطة انعطاف حاسمة في التاريخ الرقمي. من يملك الخوارزمية يملك القرار، ومن يفهم الكمّ يحمي سيادته الرقمية. أما من يكتفي بالمراقبة، فقد يجد نفسه متأخرًا ليس ببضع سنوات فحسب، بل بعصر كامل. وعندما يصل هذا المستقبل، لن يكون السؤال: هل نحن مستعدون؟ بل: هل فات الأوان؟
المصدر: هسبريس