اخبار المغرب

مراكب جدعون”: ذاكرة الجريمة تتكرر في عدوان جديد على غزة

أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي إطلاق اسم “مراكب جدعون” على عدوانه العسكري الجديد على قطاع غزة، في خطوة تحمل دلالات تاريخية وسياسية عميقة، وتكشف عن عقلية استعمارية لم تغادر مربع النكبة رغم مرور أكثر من سبعة عقود. فالاسم لم يكن جديداً في السجل الدموي الإسرائيلي، بل هو ذات الاسم المستعار  من الجريمة التي ارتكبت في عام 1948، وأسفرت عن تهجير أهالي مدينة بيسان الفلسطينية، ضمن سياق التطهير العرقي الواسع الذي شكّل جوهر النكبة الفلسطينية، وأسّس لقيام دولة الاحتلال على أنقاض المدن والبلدات الفلسطينية التي أُفرغت قسراً من سكانها الأصليين.

إعادة استخدام هذا الاسم في هذا التوقيت بالذات، ومع استهداف غزة، يحمل رسالة واضحة مفادها أن المشروع الصهيوني لا يزال يرى في القوة أداة رئيسية لفرض الواقع، ولا يتردد في استحضار رموز جرائمه القديمة لتبرير استمرار عدوانه في الحاضر. إن تسمية العدوان بهذا الشكل لا يمكن قراءتها كمجرد خطوة رمزية أو لوجستية من قبل الجيش، بل هي فعل واعٍ يعيد وصل الماضي بالحاضر، في محاولة لإضفاء شرعية “تاريخية” على عدوان متواصل ضد شعب أعزل، يعيش تحت الحصار والقصف والتجويع منذ ما يزيد عن عقد ونصف.

ففي الوقت الذي يتعرض فيه المدنيون في قطاع غزة لغارات مكثفة، تطال البيوت والمساجد والمرافق الصحية والمدارس وكافة المنشآت المدنية، يعيد جيش الاحتلال تدوير مصطلحات من خزائن النكبة، وكأن قتل الفلسطيني وتدميره ليس جريمة بل استمرارية لخطة كبرى لم تنته بعد. “مراكب جدعون” ليست مجرد تسمية، بل هي عنوان لسياسة استعمارية ترى في الأرض الفلسطينية مشروعاً غير مكتمل، وتجد في كل عدوان فرصة لتصفية ما تبقى من المقاومة، وإخضاع ما بقي من الروح الجمعية الفلسطينية التي ترفض الموت المجاني.

المفارقة المؤلمة أن العدوان يتكرر بينما يقف العالم مجدداً موقف المتفرج. فالمجتمع الدولي، الذي لطالما تجاهل انتهاكات الاحتلال، يكتفي اليوم ببيانات الشجب الخجولة، إن صدرت، في حين تُمنح إسرائيل الغطاء الكامل لتمارس عدوانها باسم “الدفاع عن النفس”، رغم أن الوقائع على الأرض تكشف أن الضحية الأولى والأخيرة هي الشعب الفلسطيني، وأن القاتل هو ذاته الذي استخدم القوة ذاتها لتهجير أهالي بيسان ويافا وحيفا قبل أكثر من سبعين عاماً. التاريخ يعيد نفسه بطريقة وحشية، لكن هذه المرة موثّق بالصوت والصورة، ومرئي للعالم بأسره الذي اختار أن يصمّ أذنه ويغلق عينيه.

في قطاع غزة اليوم، لا تُستهدف المقاومة وحدها، بل يُستهدف مفهوم الحياة. المنازل تُسوّى بالأرض فوق رؤوس ساكنيها، والطرقات تتحول إلى مقابر، والمستشفيات تكتظ بالشهداء والجرحى، والأطفال يولدون تحت القصف ولا يعرفون معنى الطفولة إلا في خيال القصص. في هذا المشهد، يعيد الفلسطيني صياغة معاني الصمود، ويؤكد مرة أخرى أن الذاكرة أقوى من التهجير، وأن البقاء في الأرض، رغم كل هذا الحصار، هو فعل مقاومة لا يقل أهمية عن أي معركة تُخاض بالسلاح.

“مراكب جدعون” قد تعني شيئاً لجيش الاحتلال في قاموسه العسكري، لكنها بالنسبة للفلسطينيين تعني استمرار الجريمة، وتأكيد أن النكبة لم تكن حدثاً عابراً في التاريخ، بل مساراً مستمراً يتطلب الوعي والمواجهة. ورغم القصف والتدمير، لا يزال الفلسطيني يتمسك بحقه، ويرفع صوته، ويوثّق جرائم الاحتلال، ويبني روايته في وجه محاولات الطمس. فكما لم تُنسَ بيسان، لن تُنسى غزة، وكما قاوم أهالي الجليل واللد والرملة، تقاوم اليوم غزة والضفة والقدس والشتات، بوحدة مصير لا تلغيها المسافات ولا الأسلاك.

ربما تعتقد إسرائيل أنها من خلال تكرار أسماء عملياتها، تسيطر على السردية، لكن التاريخ لا يُكتب فقط من على منصات الجنرالات، بل أيضاً من بين أنقاض البيوت، من صرخات الأمهات، ومن عيون الأطفال الذين يُولدون على وقع القصف لكنهم يرفضون أن يعيشوا كضحايا دائمين. إن هذا الاسم الذي اختارته إسرائيل لعدوانها، لن يمنحه أي شرعية، بل سيظل شاهداً إضافياً على عنصرية هذا المشروع الذي ما زال يقتات على الدم الفلسطيني، ويتغذى من صمت العالم.

وفي النهاية، لا اسم يغيّر الحقيقة: أن هناك شعباً حياً، يقاتل من أجل حريته، ويرفض أن يكون مجرّد ضحية في أرشيف القوة. ومهما بلغت عنجهية الاحتلال، فإن الوعي الشعبي الفلسطيني، وجذور الانتماء، والحق العادل، ستبقى أقوى من كل مراكب جدعون.

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *