في قلب برلين، وفي أروقة مدارسها، لا يُمكن للمرء أن يُخطئ الإحساس المتنامي بالأزمة. أزمة لا تتعلق فقط بالوسائل أو المناهج، بل تمس جوهر المسألة: ما الذي نعنيه حقًا بالتعليم؟ وما الذي ننتظره من المدرسة؟.

بعد قرابة عشرين عامًا من العمل في البحث والبيداغوجيا الاجتماعية وتقاطعاتها مع الفنون في العاصمة الألمانية أرى نظامًا تعليميًا يزداد ابتعادًا عن عالم الأطفال الحقيقي، عن طاقاتهم وحاجاتهم الإنسانية العميقة؛ نظام كان يُفترض أن يكون فضاءً حيًا للحرية والاكتشاف، فإذا به يتحول إلى مؤسسة للتصنيف والترويض.

مدرسة تُقصي المختلفين

ما أكدته مؤخرًا تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) لم يكن مفاجئًا: الأطفال من أصول مهاجرة هم الأكثر تضررًا داخل النظام التعليمي الألماني.

وبحسب أندرياس شلايشر، المسؤول عن برنامج “بيزا”، فإن النظام لا يُخصص الموارد الكافية، ولا يتعامل بجدية مع التعدد اللغوي والثقافي، ما يُفقد هؤلاء الأطفال فرصًا حقيقية للاندماج والنمو.

شلايشر لا يلوم الأهالي الذين يبحثون عن “مدارس أفضل” لأطفالهم، بعيدًا عن تلك التي تعاني من تركيز مرتفع للتلاميذ من خلفيات مهاجرة، لكنه يُحذّر من نتائج كارثية على المستوى البنيوي: مدارس بأكملها تفقد توازنها وتتحول إلى بؤر لتكريس التهميش والفوارق.

في كثير من الحالات يؤدي غياب التعليم المبكر الجيد، خصوصًا في رياض الأطفال، إلى فجوة لغوية عميقة. وعندما يدخل الطفل المدرسة لا يُنظر إليه ككائن يحمل لغته وثقافته وتجربته، بل كـ”مشكلة” يجب تصحيحها، أو كعبء يُعيق انضباط الصف.

هذه الروح العسكرية تتحكم في عقلية التسيير البيداغوجي داخل المدارس. وهنا تبرز أهمية ملاحظة الفيلسوف والصحافي (صاحب برنامج معروف في التلفزيون الألماني ZDF) ريشارد دافيد بريشت، الذي يرى أن النظام التعليمي في ألمانيا قديم ولا يواكب العصر. فالمدرسة مازالت قائمة على نموذج صناعي من القرن التاسع عشر، يُركّز على الحفظ والطاعة بدل الإبداع والتفكير النقدي.

بريشت ينتقد أيضًا غياب الاعتراف بالفروقات الفردية بين التلاميذ، مؤكدًا أن المنظومة تعامل الجميع بالمقاييس نفسها، ما يُضعف من فاعليتها التربوية؛ كما يُحذّر من الإفراط في التركيز على الاختبارات والدرجات، معتبرًا أن ذلك يقتل شغف التعلّم، ويُحوّله إلى سباق عبثي نحو الامتثال والنتائج. ويطالب بريشت بإدخال مواد تُعنى بالقيم، والإبداع، والفلسفة، لأن المطلوب ليس إنتاج عمّال المستقبل، بل تربية مفكرين أحرار.

حين تصبح المدرسة مصنعًا للامتثال

لكن الأزمة لا تقتصر على الفجوة العرقية أو الطبقية، فالمدرسة كما نبه إيفان إيليتش في كتابه الشهير “مجتمع بلا مدارس” أصبحت مؤسسة مغلقة تحتكر تعريف “التعلُّم” وتفرضه بالقانون.

ما لا نُدركه غالبًا هو أن نظام التعليم لا يُقاس فقط بكفاءته، بل أيضًا بتأثيره الوجودي على الطفل: كيف يُشكّل وعيه؟ كيف يُلجم فضوله؟ وكيف يُدجّن روحه؟.

في الكثير من مدارس برلين رأيت أطفالًا يخفت فيهم نور الاكتشاف تدريجيًا، ليس بسبب “معلمين سيئين”، بل بسبب بنية تقتل المبادرة، وتُكافئ التكرار، وتُخيف من الخطأ؛ نظام يحوّل الطفل من كائن باحث إلى متلقٍ صامت، ويزرع في نفسه وهم التفوق من خلال علامات وألقاب لا تقيس سوى درجة الامتثال.

الكاتبة المصرية نوال السعداوي وصفت المدرسة بأنها “جهاز بوليسي”؛ فهي لا تُعاقب الجسد فقط، بل تُروض الخيال، وتُجمد الحس النقدي، وتُعيد إنتاج علاقات الهيمنة. أما الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير فيرى أن المدرسة تُعدّ أحد أبرز الأجهزة الأيديولوجية للدولة (Appareil idéologique d’État)، إذ تنقل إيديولوجيا الطبقة الحاكمة، وتُعيد إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية.

في المجتمعات الحديثة حلت المدرسة محل الكنيسة بوصفها الجهاز الأيديولوجي المركزي، لأنها تُلقّن القيم التي تُناسب السوق: الطاعة، احترام النظام، الجهد الفردي؛ كما تُفرز الأفراد وتُحدد من يُهيّأ ليكون عاملًا، ومن يُعِدّ ليكون مديرًا أو قائدًا.

ورغم أن المدرسة تُقدِّم نفسها كمكان محايد يُعلّم “الحرية” و”المساواة” فإنها بحسب ألتوسير تُخفي خلف هذا الخطاب دورها في ترسيخ الخضوع وإعادة إنتاج النظام القائم.

ما قبل المدرسة وما بعدها

الدعوة التي يوجهها شلايشر للاستثمار في التعليم المبكر يجب ألا تقتصر على الاختبارات اللغوية أو توزيع الموارد، بل أن تمتد لإعادة التفكير في معنى العلاقة بين المعلّم والطفل، بين اللغة والهوية، بين التربية والعدالة.

التعليم، كما نراه اليوم، لا يعاني من نقص في الإمكانيات فقط، بل من نقص في الرؤية. نحن في زمن كسرت فيه الإنترنت والذكاء الاصطناعي مفهوم “المصدر الواحد للمعرفة”. لم يعد المعلّم موزعًا وحيدًا للحقائق، بل ينبغي أن يتحوّل إلى مرشد في عالم مفتوح، تتغير قواعده باستمرار.

الطالب اليوم يصل إلى الصف محمّلًا بأسئلته، وربما بإجابات وتجارب رقمية تفوق ما في المنهج. وهنا يكمن التحدي الحقيقي: كيف نُصغي له؟ لا كيف نُلقّنه؟ (في هذا السياق، هناك رأي مهم وعميق لعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران عن علاقته بطلبته قبل وبعد زمن الأنترنيت).

من أجل مستقبل أكثر عدلًا وحرية

أطفالنا لا يحتاجون إلى أوامر كي يتعلّموا، بل إلى نظرات ثقة تُنبت فيهم الجرأة على السؤال، لا إلى من يُلقّنهم، بل إلى من يُضيء لهم الطريق نحو المعرفة دون خوف أو شروط، لا إلى نظام يُعاقبهم على الخطأ، بل إلى بيئة تعتبر الخطأ جزءًا أصيلًا من النمو والاكتشاف.

ما نحتاجه ليس مجرد إصلاح للمدرسة، بل ثورة ثقافية في معنى التعليم. لسنا بحاجة إلى مؤسسات تعيد إنتاج الطاعة، بل إلى فضاءات تُحرر الخيال، تُغذي الشغف، وتمنح الطفل الحق في أن يكون ذاته، لا مجرد انعكاس لما يريده النظام أو السوق.

وربما كما لمح إيليتش آن الأوان ألا نطلب من المدرسة أن “تُصلح نفسها”، بل أن تتراجع وتتواضع، أن تنسحب بهدوء حين يلزم، وتترك الحياة، بلغات اللعب والدهشة والتجربة الحرة، تستعيد دورها الأصيل كأول معلمة.

كاتب ومخرج مقيم في برلين

المصدر: هسبريس

شاركها.