اقتفى الناقد والباحث المسرحي محمد أبو العلا أثر علامات التقاطع التي يجسدها المسرح بين الأدب والفن، وكيف يخرج النص من عزلته الأدبية إلى الركح، كما أوضح كيف يكون المسرح مرآة للذات والوجود.

وتطرق أبو العلا، في حوار مع جريدة “”، إلى ارتباط الفن السابع بالزمن المغربي وكيف استطاع أن يعكس المفارقات التي يخلقها هذا الزمن في أبعاده الاجتماعية والسياسية، وتحويل التوتر إلى لحظة تجل على الخشبة.

وفيما يلي نص الحوار:

كيف يمكن للمسرح أن يترجم التجربة الإبداعية، حيث يصبح الأدب (رواية، قصة، شعرا..) لحظة للتفكير العميق والتجديد الداخلي، وينعكس ذلك على السلوك الإنساني؟

يتصف المسرح بازدواجية الخطاب، فهو من جهة ينتسب إلى قارة الأدب بناء على حاجته إلى شعرية الكلمة، كما ينتمي من جهة ثانية إلى قارة الفن بفعل كتابة مشهدية، وهي ما يفكر فيه المؤلف أثناء عملية التخييل الدرامي، ثم كتابة أخرى مضاعفة من توقيع المخرج، ينقل من خلالها النص الدرامي ذاته من حالة كمون إلى تحقق مادي مسمى، هو ما يعاينه المتلقي أثناء العرض، وما يقتفي أثره من علامات. بناء على هذا التقاطع، يبدو المسرح الجنس الأقرب إلى ترجمة نصوص الإبداع بفعل ما يسمى بالمسرحة، التي تسمح بإخراج هذه الأجناس من عزلتها الأدبية في أفق تجاورها إبداعيا مع أجناس أخرى فنية، موسعا بذلك من دائرة تلقيها من خلال جعل المتلقي لها جمهورا واسعا وليس قارئا مفترضا، وهو ما ينعكس إيجابا على الجنس الأدبي الممسرح ذاته (سرد أو شعر..)، وعلى الجمهور الذي يقبل على النص الأدبي الممسرح بشهية أخرى، مادامت قد أضيفت له توابل من الخارج، خارج دائرة أدبيته.

كيف يتفاعل المبدع مع لحظات الكتابة التي ترتبط بحالة نفسية وجدانية؟ وكيف يمكن لهذه اللحظات أن تتحول إلى أداة درامية تساهم في تشكيل النص المسرحي؟

إذا كنت أستاذ رشيد تقصد لحظة الكتابة، فهذه اللحظة تختلف من حيث طقوسها من كاتب إلى آخر. لحظة متصلة بصفاء الحالة النفسية، وإقبال الذات المبدعة على فعل الإبداع دون منغصات خارجية تحول بين الكتابة وبين استرسالها اليومي. إلا أن هذه الضغوطات البرانية قد تتحول في نظري المتواضع إلى حبر لكتابة جوانية، بما تفجره من مشاعر وأفكار، وما توفره للكاتب من مادة خام تنتقل من دائرة الذاتي إلى التداول العمومي، بناء على ما يضفيه عليها الكاتب من إضافات، هي ما يصب في قالب أدبي ما، رواية أو قصة أو شعرا. أما بالنسبة للمسرح، فبحكم أنه جنس أدبي وفني مبني على الصراع، فهو الأقرب إلى تحويل صراع الذات الكاتبة مع محيطها الخارجي إلى مادة درامية. والأعمال المسرحية العظيمة التي أغنت ذاكرة المتلقي، بنيت على هذا التجاذب، أي تحويل مرجع الذات بآلامها وآمالها إلى متخيل.

في حضرة المسرح، كيف يعيد الجسد المسرحي اكتشاف ذاته عبر الشعور بالفرح أو الألم أو الانتظار؟ وهل يمكن للجسد أن يتحول إلى رمز “مقدس” موسوم بالمثالية في النصوص المسرحية، أم أن هذا الفعل مجرد سوريالية مبتورة عن الواقع؟

في حضرة المسرح، يُمسرح الجسد أولا، فهو عماد العرض وبيت قصيده. فالممثل، ناطقا أو غير ناطق، هو ما يبحث عنه المتلقي ويقتفي أثره في عرض ما. فمهما بالغت في الديكور أو الإضاءة أو أجدت في كتابة نص درامي باذخ، فبدون الممثل تبوء كل هذه التحضيرات بالفشل. الممثل الموهوب يستطيع وحده، بتقلب أحواله على الركح من فرح إلى ترح، من ألم إلى أمل، من غضب إلى دعة واستكانة، أن يضع الذات البشرية فوق سرير التشريح والتشخيص أمام المتفرج الذي يشاركه هذه الذات. وما تصفيقه تقديرا إلا دليل على تماهيه مع الذات اللاعبة عند عبورها نحو هذه الروح، الروح البشرية بتشخيص مقنع، أو صفيره استهجانا عند عدم قدرتها على هذا العبور بفعل تشخيص كاذب.

أما بخصوص الجسد المقدس، فيقودنا شطر سؤالك إلى دائرة المسرح في علاقته بأنثروبولوجيا المسرح أو أنثروبولوجيا الفرجة، حيث تقتضي دراسة جسد الممثل باعتباره امتدادا للثقافة الحاضنة له. وهي ما عنى به أنثروبولوجيو المسرح وصفها ببحث موسع للسلوكيات البيولوجية والثقافية للإنسان في حالة عرض. ويشكل المقدس جزءا من هذه الثقافة التي انتقلت في إطار التمسرح من المعابد اليونانية إلى أركاحها، ليتحول القناع بذلك من سياقه الطقسي إلى سياق اللعب. إضافة إلى ارتباط هذا القناع على مستوى الأشكال الفرجوية بالطقوس الزراعية والأسطورية والدينية. ويذكرنا الجسد الإفريقي في هذا الباب، من خلال منسوبه الحركي الزائد أثناء الرقص والاحتفال، بهذا الحضور لقوى ماورائية تتلبسه، أو يشير إلى تماهيه بها من خلال القناع، كما هو حال الهنود الحمر.

هل يستطيع المسرح (مسرحنا) أن يعكس المفارقات التي يخلقها الزمن المغربي (في أبعاده الاجتماعية والسياسية) في الروح والجسد؟ وكيف يمكن تحويل هذا التوتر إلى لحظة تجل على الخشبة؟

فعلا، استطاع المسرح المغربي أن يعكس هذه المفارقات من خلال ارتباطه بالزمن المغربي، بتعدد أزمنته ووهج واقعه الذي أفرز ما يسمى بمسرح الهواة، زمن الاحتدام بين السلطة والمجتمع، حيث جاءت عروض السبعينيات محتقنة بشعارات المرحلة. ثم جاءت مرحلة الدعم التي شكلت، في ارتباطها بسياق المصالحة، مرحلة أخرى ترجمها المبدع المسرحي إبداعا لم يعد فيه ما يستدعي شعارات غدت بائدة بفعل متغيرات عديدة. لكن يبقى أهم ما نستخلصه من هذه الأزمنة هو أنه، رغم أن مياها كثيرة سالت تحت الجسر وتغير بفعلها موضوع ومفهوم المسرح، إلا أن لكل زمن إشراقاته مثلما له أعطابه. منها أن المسرح الجديد، الذي وفرت له الدولة الدعم المادي والمعنوي وبنيات راقية لتصريف الفرجة، أنتج سياقا مخمليا استكان فيه المبدع للخمول بدل الاجتهاد، بتكراره لنفس النصوص أو اقتباس أخرى، أو كتابة متسرعة تحت الطلب. وهذا ما يتنافى مع الإبداع في جوهره، الذي لا يرتبط بزمن، ولا يمكن أن يتوهج في سياق تنافس براغماتي نفعي على كعكة الدعم. إذا كانت هذه الأسئلة مرتبطة بهذا المتغير، متغير الدعم، فمرحلة مسرح الهواة لم تكن مقيدة بزمن ما بقدر ما كان مبدعوها مقيدين بزمن الإبداع ذاته، الذي لا زمن له، وهو ما أفرز تجارب رائدة شكلت مرجعا للجيل الحالي. إلا أن ضغط السياسي جعل الإيديولوجي يكاد يكون مهيمنا، مقتطعا مساحات من التخييل والإبداع في تساوق مع نقد إيديولوجي كان مهيمنا أيضا.

كيف يمكن أن تتجسد التربية والقيم في النص المسرحي كتابة وعرضا، باعتبارها إعلاء للروح وانتماء جديدا للوجود؟

فعلا أستاذ رشيد، الانتماء للوجود يمر عبر الانتماء للوطن. ومفهوم الوطن هنا مفهوم حمّال لقيم تشكل سقف هذا الانتماء، وعلى رأس هذه القيم قيمة التواصل، في زمن قل فيه التواصل، وفي زمن فرّقتنا فيه الآلة بشتى أنواعها وعلى اختلاف عنفها اليومي. لهذا، فالمسرح كفضاء وفن جمالي جماعي يبدو جامعا للناس ومانحا إياهم دفء وحرارة اللمات التي صارت عزيزة، وبعيدة التحقق بغير المسرح. وإذا كان الكبار يستشعرون هذا الاحتياج لهذا التفاعل المفتقد، فما بالك بأبنائنا وبجيل أمسى يبتعد بفعل علاقات افتراضية عن حرارة العلاقات الأسرية، وعن الحوار اليومي الذي لم تعد حتى وجبات الأكل توفره، بفعل انخراط حثيث في فضاء مفارق ومدمر لكل ما هو واقعي.

ولهذا، فالمسرح هو الجنس الفني الأنجع لردم هذه الهوة، هوة اللا تواصل واللا حوار، ما دام في جوهره خطاب حوار: حوار تخييلي أفقي بين الممثل والممثل، بين الشخصية والشخصية، وبين الركح والجمهور. أما قيمة الصمت فتتجلى ضمنيا في ما يستدعيه الحوار بين شخصية وأخرى من إنصات إلى أن ينهي الآخر الحوار، ثم إنصات الجمهور إلى أن ينتهي العرض، حيث الانتظار هنا هو في صلبه بياض فني يعلمنا قيمة الصمت كأحد أركان الحوار. وهو ما نفتقده في حياتنا اليومية، حيث لا أحد ينصت لأحد آخر، إضافة إلى ما يحمله الحوار ذاته من قيم، هي ما يبثه الكاتب المربي في نصه المسرحي التربوي من رسائل.

في ضوء رؤيتكم للإبداع المسرحي باعتباره احتفالا بالحياة ومن خلال تكسير النمطية التقليدية، هل تعتقدون أن المسرح المغربي استطاع أن يتحرر فعلا من قوالب المسرح الغربي، أم أنه لا يزال عالقا بين محاكاة الآخر/ الغريب، والبحث عن هوية مفقودة؟

المسرح المغربي مسارح، وليس مسرحا واحدا. فقد بدأ هذا المسرح في سياق التأرجح بين الأنا والآخر، مسرحا متماهيا، متشبعا بأصول المسرح الغربي، متمرسا على نماذجه. حيث كان هذا التمرس من الأولويات كما ذهب إلى ذلك الدكتور حسن المنيعي. وقد تم ذلك من خلال الترجمة، أو الاقتباس لغاية تجريب أشكاله الكلاسيكية، ثم الطليعية وغيرها من التجارب الغربية.

أما مرحلة التأصيل، فهي بمثابة بحث عن قالب آخر نكاية في الغرب، تأصيل فرضه التموقع من خطاب أمة ظلت إلى عهد قريب غازية، مستنزفة لثرواته، وفي الوقت ذاته استعراض لإمكانيات الذات الفرجوية. كما هو الحال مع مسرح الطيب الصديقي التراثي، الذي شكل شبه قطيعة مع القالب المسرحي الغربي، أو المسرح الاحتفالي الذي كان سقف احتفالياته تنظيرا وإبداعا هو القطيعة بشكل تام مع هذا النموذج.

من هنا، فالتأرجح المذكور إن كان وليد مرحلة حارقة بسؤال المثاقفة الضاغط، فيبدو اليوم أن المسرح المغربي قد تحرر من هذا الضغط، بفعل تجريب بلا سقف، وبلا حدود، سواء كانت حدودا متعلقة بالأنا أو بالآخر، أو حدودا أجناسية. بعد أن تخطى مسرح ما بعد الدراما حدود قارة الدراما، لينفتح على السرد، مثلما انفتح على الهوامش التي كانت مقصية بفعل التمركز.

كيف يمكن للمسرح المغربي أن يكون حاضنا للهوية الثقافية المحلية في تنوعها وتعددها؟ أي كيف يمكن تدبير هذا الاختلاف الثقافي حتى يعكس واقع الحال دون أن ينفصل عن واقعنا التاريخي؟

التعدد الثقافي هو جزء من هويتنا المغربية الباذخة، مشكلا عند انتقاله إلى المسرح مصدر غنى تخييلي وفرجوي لا تخوم له. في هذا السياق، أعتقد أن من حسنات الدعم أنه شرع الباب أمام تجارب مسرحية منتسبة لجغرافيات متعددة، منفتحة في أحايين عدة على مخزونها المحلي والجهوي، وذلك في إطار بلورة مشروعها المسرحي المقدم للدعم.

وقد سنحت لي الفرصة معاينة تجارب من هذا القبيل تمتح من هذا المخزون الفرجوي، لغاية ابتداع مسرح ذي هوية محلية، أو تبيئة تجارب أجنبية من خلال محكي محلي. أتحدث هنا، على سبيل المثال لا الحصر، عن مسرحية “كدور الذهب” لفرقة “أدوار للمسرح الحر” لواد نون، مسرحية راشحة بمخيال حساني موصول بمجال الصحراء، وهو اختيار دراماتورجي فني موفق، اقترح له المخرج عبد اللطيف الصافي صيغة التجاور والتحاور بين نص الحكاية العراقية الأصل، ونصوص المحكي الحساني، واستثمار شعرية القول، لغاية ابتداع تجربة مسرحية بعمق إفريقي.

في ظل التحولات الفكرية والاجتماعية التي أفرزتها العولمة والثورة الرقمية، كيف يواجه المسرح المغربي مسؤولية نقل الواقع كحقيقة إلى جمهور انغمس في الشبكات الافتراضية أكثر من العالم المادي الفيزيائي؟

أعتقد أن المسرح قادر على إنزالنا من قارة الوهم التي انغمسنا فيها جميعا، لمعانقة الواقع بدل الافتراض، وذلك لما يتمتع به هذا الفن من قدرة على الجذب. فالمفقود في حرارة التفاعل، الذي غيبته الفردانية والانقطاع عن الواقع كما سبق الذكر، يوفره المسرح باعتباره لقاء جمعيا، ليس فقط لحظة العرض والاستمتاع بجماليات الحوار، بل بما قبل وبما بعد العرض أيضا. أحياز زمنية يستعيد فيها الفرد حوارا آخر أمسى مفقودا بفعل الآلة الجهنمية Machine Infernale التي دخلت حياتنا فحولتنا إلى ذوات مونولوجية.

كيف يمكن للمسرح أن يصبح محاكاة فكرية للمثاقفة والتداخل الهوياتي الذي يشهده العالم، إلى درجة أصبحنا نتحدث عن هويات صلبة وأخرى سائلة، على أن يكون الإبداع المسرحي والفني عموما آلية نقدية تثير أسئلة فلسفية حول واقع الإنسان ومعنى الحياة في زمن الحروب؟

المسرح اليوم قادر، في غياب التمركز المفرط، على إرساء حوار بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب. ذلك لأن قدر الفرجة هو العبور والتفاعل، وليس الانحباس في فضاء ما، بفعل تنسيب هذه الفرجة قسرا لجغرافيا مفترضة نتاج هوية قاتلة. وقد خرجت تجارب عديدة، منتسبة لأصقاع مختلفة من المعمور، من هذه الدائرة المغلقة نحو الكونية، بفعل الإبداع، وبفعل التنظير الذي وعى أصحابه من الشمال والجنوب بضرورة تحصين هذا المنحى الإبداعي الفرجوي بنظريات مقوضة للتمركز، بالتناسج. الشيء الذي جعل مدار هذه الفرجات هو كينونة الإنسان، في تعاليها عن سياق محتدم بالحروب والفجائع، كما ذكرت.

كيف يمثل المسرح الاحتفالي نوعًا من العودة إلى الجذور، بحيث يعكس التنوع الثقافي الشعبي؟ وكيف يُعيد هذا النوع من المسرح بناء الذاكرة الجمعية للمتلقي؟

غاية المبدع الاحتفالي عبد الكريم برشيد، تنظيرًا وإبداعًا، هي هذه العودة إلى الجذور: أي إلى التراث الفرجوي العربي الشفوي والمكتوب، وإلى الثقافة الشعبية والعالمة، وإلى الطقوس الجماعية للمغاربة، طقوس الأفراح والجنائز، التي شكلت في عمومها ذاكرة ووجدان أمة، قادرة، إن هي استثمرته، أن تؤسس لمسرح آخر مفارق لمسرح الآخر.

ولعل ما جعل برشيد يرافع عن هذا النموذج الاحتفالي باعتباره مسرحًا مغايرًا للوافد، هو آلية تصريف فرجة مغايرة، متعالية على براجماتية العرض الغربي وتبضيعه (البضاعة في نظره هي التي تُعرض)، بينما المسرح الاحتفالي فهو يُعاش من خلال الاحتفال. ثم إن الاحتفال لا يقتصر على العارض فقط، بل هو انخراط جماعي للمشخص وللمتلقي.

إذا كان هذا هو ملمح المسرح الاحتفالي وسقف طموحاته بحثًا عن هوية غائبة، فإن هذه التجربة لم تسلم من النقد؛ نقد لا يسمح حيز هذا الحوار بالتطرق إلى تفاصيله، وإلى الردود التي تحولت في فترة ما إلى سجال.

هل يمكن للمسرح المغربي أن يُعيد تشكيل العلاقة بين الممثل والجمهور في ضوء التحولات الثقافية والاجتماعية والقيمية؟ وهل يمكنه أن يُعيد بذلك بناء الذاكرة الجمعية؟

أكيد، فقد جرب المسرح المغربي إعادة تشكيل هذه العلاقة من خلال إبدالات متواترة اضطلع بها هذا المسرح على امتداد تاريخه الحديث. منها تأثره في البداية بالنموذج الأرسطي، حيث العلاقة بين الممثل والجمهور هي علاقة توهيم وتخدير، ثم تجارب مسرحية وجدت ضالتها في المسرح البريختي، الذي من بين مرتكزاته الجمالية إقامة مسافة بين الممثل والشخصية، وكسر الجدار الرابع لدرء أي توهيم وجعل المتلقي مشاركًا في العرض المسرحي.

أما على مستوى بناء الذاكرة الجمعية، فأعتقد أن من بين المداخل الأساسية لذلك، هو مدخل التراث الشفوي والمكتوب باعتباره ذاكرة مشتركة. إلا أن آليات تحيين هذا التراث هي جوهر هذه العملية، بمعنى: هل ستكون هذه الاستعادة بالنقل فقط؟ وهذا له تبعات فنية وثقافية. أو عبر التسفير الناجع لهذه الذاكرة نحو شعرية المسرح؟

وهذا يمر عبر السؤال التالي: ما هي المردودية المسرحية وراء إعادة منسوب فرجوي موسوم بعفويته داخل سياق مسرحي موسوم بتعالمه؟ وداخل برنامج مخرج توسل في تنفيذه بآليات وإواليات وافدة؟ حيث إن العديد من دراماتورجيينا لا يولون لهذا التحضير أهمية.

على خلاف هذه التجارب، أشيد دائمًا في هذا الباب بتجربة “بشار الخير” للمبدع محمد الكغاط، الذي وعى بهذه الاستراتيجية، فقدم شخصية السمايري المتحدرة من الفرجة الشعبية خارج الستار، محتفظًا بلباسه وبلغته وبسرده اليومي في الساحات العمومية، ثم السمايري عند التحامه مع شخصية السارد داخل متخيل المخرج، وهو ما توحي به اللغة بانتقالها إلى مستوى أرقى من الشاعرية والتكثيف الدلالي.

هل يمكن للمسرح المغربي أن يقدم تجربة جديدة تعكس وعيا جديدا في ظل التشظي الأنطولوجي للوجود الفردي والجماعي المحكوم بالعزلة؟

يتقاسم المسرح الغربي والمغربي مسرحة هذا التشظي الوجودي، فردا وجماعة، من خلال مسرح ما بعد الدراما الذي واكب ويواكب هذه العزلة ويحتفي بها مسرحا، حيث غدت العزلة أحد الموضوعات المركزية في هذا النوع من المسرح.

الشيء الذي استدعى عند تشكل هذه العروض الانفتاح على السرد، مادام السرد يتوافق فنيا مع هذه الحالة الإنسانية التي أفرزها العصر، بدل الحوار، حيث أضحى المونولوج يتمتع بمساحة أكبر، فهو ما تبقى أمام الممثل للبوح، والتعبير عن الذات/ الذوات المتشظية.

إلا أنه، على الرغم من سرد العزلة المشترك في مسرحنا وفي مسرح الآخر، فإن سرد العزلة عندنا استدعاه فداحة غياب الآخر، وليس نفيه من حساب الذات، كما هو حال العزلة في مسرح ما بعد الدراما في الغرب، سواء عند صامويل بيكيت أو كولتيس، هذا الأخير الذي يقول إن كل الناس يعيشون العزلة، وإن الإنسانية برمتها تعيش وحيدة تماما، وإن وجود اثنين معا ينتهي في نظره بفاجعة.

في حين يؤشر غياب الآخر في تجاربنا المغربية على فاجعة. بمعنى أن العزلة عندهم مطلوبة، ألم يقل سارتر: “الآخر هو الجحيم” (L’enfer, c’est les autres)، أما عندنا فـ غياب الآخر/ الآخرون هو الجحيم.

سؤال أخير، يهم مؤلفك النقدي الأخير “هجنة المتخيل السردي والمسرحي من النقد المحايث إلى تهجين النقد”، ما الأسئلة التي حملها الكتاب في علاقته بما سبق من مؤلفاتك، وفي علاقته أيضا بأسئلة النقد المغربي المسرحي والسردي؟

يأتي هذا الإصدار، الصادر عن الموجة الثقافية موسم 2024، بعد إصدار سابق موسوم بـ**”المسرح والسرد: نحو شعريات جديدة”** عن دار فالية ببني ملال سنة 2018. المشترك بين الكتابين هو مشروع خيط ناظم بين تمظهرات السرد في المسرح بشكل خاص، وبين التفرغ في الكتاب الأخير لدراسة متون سردية وأخرى مسرحية، شيد متخيلها خارج حدوده الأجناسية.

لقد نظر هذا الكتاب إلى هذا الانزياح كظاهرة نصية جديدة، بقدر ما أغنت المسرح والسرد بهجنة متبادلة، استدعت في نظرنا قراءة مغايرة، مدار مباحث إجرائية خلصنا من خلالها إلى ما يمكن أن يقدمه نقد مهجن مساوق لهجنة موضوعه.

بمعنى، هناك حاجة ملحة اليوم إلى التوليف بين الدراماتورجيا والسرديات في سياق تعاطينا مع نصوص من هذا القبيل، إضافة إلى إعادة النظر طبعا في شعرية أرسطو التي لم تعد تستوعب هذا الإبدال الخارج عن دائرة تنظيرها المتجاوز.

كما ضم الكتاب دراسة للتراث (نوادر الجاحظ ومقامات الهمذاني)، دراسة منضبطة لما سبق، ومنفتحة في الوقت نفسه على البحث عن إبدالات أخرى خارج ضغط الحجاج المهيمن على نقد التراث.

في الأخير، أشكرك الإعلامي المقتدر رشيد الكامل على دعوتك الكريمة، وعلى عمق الأسئلة التي يحتاج بعضها، في نظري، إلى حيز أكبر للنقاش والتفكير، دون أن ننسى منبر “” كفضاء للحوار والتطارح الهادف.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.