اخبار المغرب

ما موقع  » العرب » من التحولات الاقتصادية والجيوسياسية الحالية في العالم؟ اليوم 24

بقلم: عبدالغني العيادي

[email protected]

إشبيلية: 25 فبراير 2025

العالم يتحرك، يتغير بسرعة كبيرة خاصة في شقه السياسي. خلاصة لا يختلف حولها اثنان ولا تتناطح عليها عنزتان مهما كان القطب الجيوسياسي الذي تنتمي إليه. الواقع أن السياسي يحاول أن يتدارك التحولات الاقتصادية بضمان موادها الخام وما تحتاجه من معادن ولتعزيز الأسواق. يبدو أن الحروب والصراعات ما هي إلا مظاهر خارجية لحمى اقتصادية. والحمى الاقتصادية للقرن الواحد والعشرين عنوانها « التكنولوجيا الرقمية بكل تلاوينها » وما تفرضه من ضرورة ضمان المواد الخام من أتربة ومعادن نادرة تزخر بها دول دون أخرى.

إذا كان القرن الواحد والعشرون هو قرن التصنيع وحضارة البترول فالقرن الواحد والعشرون هو قرن حضارة الذكاء الاصطناعي، حضارة الديجيتال، بامتياز. ما كانت الثورة التي أحدثتها دمقرطة الأنترنت إلا بداية لثورة أعمق، ثورة بنيوية تحول الاهتمام الاستراتيجي من معدن البترول لمعادن أخرى وأتربة نادرة ضرورية لحضارة الذكاء الاصطناعي. عرف القرن العشرون حروبا عديدة ودامية على خلفية ضمان الذهب الأسود وأسواق لتوزيع منتجات معامل التصنيع البترولية. كما يعرف القرن الحالي صراعات وحروب تتماشى ونمط الاقتصاد  الجديد وطبيعته. ليس أمام الدول الوازنة عالميا إلا أن تخوض ما وجب من صراعات وحروب لضمان مصادر معدنية أولية معتمدة لصناعة الشفرات والموجات والذكاءات التي غيرت وجه العالم بشكل لا رجعة فيه. حتى لنكاد نجزم أن خلف الحرب الروسية الأوكرانية أعظم من أمن روسيا أو أمن أوربا، وراءها صراع حول المعادن النادرة التي تتوفر عليها أوكرانيا. ليست المعادن النادرة ببعيدة عن مبررات الحرب الروسية الأوكرانية. وما تسارع الإدارة الأمريكية لتوقيع إتفاقية معادن نادرة إلا دليل يؤكد هذه الفرضية.

أوكرانيا تتوفر على أتربة نادرة أصبحت محل مقايضة مع الولايات المتحدة الأمريكية في إطار اتفاقية ثنائية تضمن للولايات المتحدة وشركات السيليكون ڤالييه ما يجب من مقاومات التنافس الحاد الدولي حول سوق التكنولوجيات المتقدمة والمبنية على الأتربة النادرة ومعادن أخرى تتجاوز بترول الشرق الأوسط ومخزون الولايات المتحدة من احتياطي النفط الذي ستتجاوزه بدوره حضارة التكنولوجيا الذكية الصديقة للبيئة في غضون الربع قرن المقبل دون أدنى جدل وأقصى حد للبترول سنة 2050 حسب عديد دراسات ومقاربات. الالتزام والاندفاع الأوربي في حرب روسيا على أوكرانيا لم يكن، بناء على هذه الفرضية، فقط من أجل عيون الأوكرانيات وسلام أوربا بل الدافع الأساس ما عبر عنه وزير الدفاع الفرنسي بتعبيره عن رغبة فرنسا في المشاركة في المحادثات مع أوكرانيا بخصوص المعادن النادرة. من يتحدث عن فرنسا بطبيعة الحال يتحدث عن مجموع أوربا خاصة وأن الانتخابات الألمانية عززت الزوج الفرنسي الألماني كأساسين للاتحاد الأوربي عموما.

الطلاق الرجعي بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية مصدره الظاهر اعتداء روسيا على أوكرانيا على خلفية طلب الانتماء للناتو وتهديد روسيا لأمن أوربا. لكن الواقع أنه هذا الأمن يشمل أيضا وحتما وأساسا الأمن الاقتصادي والذي يمر ضرورة بالتحكم في المعادن النادرة والضرورية للصناعات الذكية. روسيا أيضا لم تتحرك عسكريا وتغامر بهذه الخطورة في أوكرانيا فقط بسبب نية هذه الأخيرة في الانضمام لحلف الناتو. كلها تقديرات واختلافات سياسية كان من الممكن حسمها بالتفاوض لو كانت فقط متعلقة بما هو سياسي. فما هو سياسي يحسم في أروقة الخارجيات ولا يحسم عسكريا في حرب الرابح فيها خاسر إنسانيا. لم تكن لتتحرك لو لم يكن التحدي أعظم، تحد وجودي لضمان ورقة التأهل للمرحلة المقبلة من القرن الواحد والعشرين. الصراع حول قلب الاقتصاد الجديد، حول المعادن النادرة. إذا كان البترول والحصول عليه أباح للعديد من القوى الصناعية تجاوزات عسكرية فالمعادن والأتربة النادرة تبرر، يقينا، كل هذا التسارع الدولي في نسج علاقات جيوسياسية جديدة بل وتبرر حربا ضروسا بين أوربا وروسيا صرفت عليها المليارات وسقطت فيها مآت الآلاف من الأرواح في حرب من المستحيلات السبع أن يكون فيها رابح عسكري.

مما لا شك فيه، تعد الأتربة النادرة معادن استراتيجية وجودية لضمان الحضور في دائرة الدول العظمى المؤثرة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. كيف لا وحضارة الذكاء الاصطناعي، العمود الفقري لهذه الحضارة وعنوان القرن الواحد والعشرين، مبنية وجوديا على الأتربة النادرة؟ هي بهذه الأهمية وتزيد لدرجة أننا أمام تحولات جيوسياسية دولية تتجاوز دائرة المتعارف عليه والمجمع حوله بخصوص العلاقات الروسية الأمريكية مثلا.  حسم الحرب في غزة تعبير أيضا على ضرورة التركيز على ما هو أهم، فالشرق الأوسط ليس هو الأهم، حسب القراءة الأمريكية والروسية والصينية. تحول مركز الصراع من صراع حول البترول لصراع حول الأتربة النادرة. ومن أجل هذه المعادن تتكسر كل النظريات وتسقط كل الخلافات ولو كانت بحجم الصراع التاريخي بين القطب الشرقي بقيادة روسيا والقطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ولو اقتضى الأمر التضحية بحلفاء الأمس لبناء تحالفات جديدة كتلك التي تحاول الإدراة الأمريكية الجديدة بناءها مع روسيا، ولربما قريبا الصين بعد أن ضمنت نسبيا الشرق الأوسط وإفريقيا تجاوزا. الولايات المتحدة تضحي بحليفها الدائم الاتحاد الأوربي في لحظة، حسب أوربا، كانت تستوجب وحدة الموقف ووحدة الموقع على خارطة الصراع مع روسيا.

ما يشرعن طرح سؤال يفرض نفسه: ما موقع العالم العربي من هذه التحولات ؟ بالعالم العربي أقصد الشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا أو ما يصطلح عليه مؤسساتيا وجغرافيا بمنطقة « مينا ». السؤال طبعا لا يستثني من المعادلة دول أفريقيا جنوب الصحراء لعلاقتها القوية مع الشرق الأوسط وما تربطها من علاقات قويه بدول شمال إفريقية كالمغرب والجزائر مثلا. تجدر الإشارة كمدخل للنقاش إلى كون إفريقيا غائبة مطلقا عن خطاب ترامب في حين أن  أوربا تحاول الحفاض على علاقتها بإفريقيا وتحسين أدائها في هذه القارة لتجاوز أزمة الثقة بين فرنسا وإفريقيا. إفريقيا رقم صعب وثقيل في معادلة المعادن النادرة. الصين استثمرت استشرافيا في القارة بشكل يجعلها شريكا قويا يحتفظ بورقة الدين الخارجي لتذكير دول أفريقيا بحق الصين في الاستفادة من معادنها النادرة. روسيا تراهن على تواجد الحليف الصيني وتراهن أيضا على وجودها العسكري كضامن للأمن والاستقرار في المنطقة.

استحضارا لهذا التشخيص، نخلص إلى أن أوربا تجد نفسها في رد فعل على هذه التحولات وتحتاج لاستغلال كل الخيارات الممكنة أمامها. والشرق الأوسط أيضا مع إفريقيا بشمالها وجنوبها مطالبة باستغلال الظرفية للتفاوض حول شراكات قوية مع أوربا بالخصوص باعتبار خياري الشرق الأوسط وإفريقيا من الخيارات المطروحة أمام أوربا ولربما الخيار الأكبر حظا لضمان معاودة التموقع الأوربي على خارطة العالم. في هذا الصدد نجدنا أمام طرحين إن اختلفا لا يختلفان على الأهمية الاستراتيجية علاقة شراكة قوية بين الشرق الأوسط وإفريقيا وأوربا. لا يختلف الطرحان أيضا على فرضية أن الشرق الأوسط وإفريقيا ليسا في موقع المبادرة بل المتابعة والمواكبة. الشرق الأوسط يضمن للولايات المتحدة الأمريكية مصدر تمويل كبير ودور وسيط حرب لكن لا تتجاوز هذا الدور المواكب للعب دور المبادر من أجل التفاوض حول مصالح جديدة للشرق الأوسط ولإفريقيا رغم أن الظرفية مواتية للتفاوض من موقع قوة. الأتربة النادرة بإفريقيا تستحق أن تتعامل القوى الدولية الوازنة مع المنطقة باحترام ضامنة مصالح الشعوب فيها محافظة على أمنها واستقرارها.

كل المؤشرات تؤكد أن الظرفية مواتية جدا لتقارب أوربي إفريقي شرق أوسطي في إطار تحالف استراتيجي كذلك الذي يجمع بين دول الاتحاد الأوربي ذاته. الظرفية تخول لدول إفريقيا والشرق الأوسط إمكانية التفاوض لضمان أكبر عدد من المصالح. أوربا محتاجة لمبادرة أفرو أسويية تخرجها من الضعف الاستراتيجي الذي تجد فيه ذاتها تجاه جل الملفات الجيوسياسية الدولية وعلى رأسها ضمان مصدر قار للمعادن النادرة. أوربا تعبر عن هذه الرغبة، محتشمة بفعل ماضي العلاقات الكلنيالية بين دول أوربية وإفريقية لكن الوضع الجديد لا يسمح بالالتصاق بالماضي وبل ويجبر كل هذه الدول على المضي قدما نحو قرن تنافسي حاد سيحسم على أرضية من يتوفر على الأتربة النادرة. التاريخ يتقدم للأمام ولا يتوقف عند معطيات الماضي مهما كانت أليمة. أوربا مطالبة، وهو أمر وجودي بالنسبة لمستقبلها، أن تعبر بشكل أكبر ومباشر على رغبتها في بناء شراكة قوية مع جنوبها. كخيار مكمل لبقية الخيارات الممكنة، بما في ذلك الاحتفاظ بشعرة معاوية مع  الولايات المتحدة الأمريكية وإمكانية التقارب مع الصين.

 

خلاصة القول، خيار الشراكة المتقدمة بين إفريقيا وأوربا والشرق الأوسط خيار استراتيجي رابح رابح تفرضه معطيات الواقع الجيوسياسي الدولي ومتطلبات الاقتصاد الجديد. لأن السياسة الدولية مفتوحة على كل الفرضيات، ولأن السياسة ماتت وحلت محلها مقاربة المصالح ومعادلة رابح رابح، يبقى خيار تحالف استراتيجي بين إفريقيا وأوربا والشرق الأوسط من الخيارات الثقيلة جيوسياسيا إن تحركت أوربا بقوة نحو جنوبها وخرج الجنوب المشرقي والإفريقي من دائرة الانتظارية. لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة بمنطق المصلحة أصبح وجوبا على أوربا أن تنفتح أكثر وبمنطق متجدد يتجاوز ما عرفته العلاقات سابقا، على إفريقيا وعلى الشرق الأوسط. وأصبح وجوبا أيضا على منطقة مينا. اتخاذ المبادرة لطرح أرضية حوار جديدة للتفاوض مع أوروبا. أمن أوربا من أمن الشرق الأوسط وإفريقيا واقتصاد أوربا من اقتصاد الشرق الأوسط وإفريقيا. هي فرصة حضارية تاريخية  لتكون الثورة كاملة الأوجه، ثورة تكنولوجية اقتصادية وثورة إنسانية تبنى على الحوار واحترام هويات الشركاء.

 

  • محلل سياسي، ومستشار سابق في البرلمان الأوربي

المصدر: اليوم 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *