ماضي “باب المكينة” العسكري يشهد على الريادة المغربية بالغرب الإسلامي
ما إن يذكر المرء هذا الاسم إلا وتتراءى أمامه تلك بوابة عاتية، ذات هندسة غريبة كل الغرابة عن نمط ذلك الفضاء الفسيح بأسواره الشاهقة المسنة وببوابتيه العاليتين، المفضية شماليتهما إلى قصبة الشراردة وجنوبيتهما إلى أحياء المدينة المخزنية، فاس الجديد، أو المدينة البيضاء كما كان يطلق عليها عندما أسسها المرينيون عام 1276. لقد هيمن اسم هذه البوابة، بشكل هندستها الإيطالي وغرابة منظرها عن المحيط العام، على الأسماء القديمة للبوابتين اللتين تقعان عن يمين ويسار باب المكينة وتحدان الساحة المستطيلة، من جهتها الشمالية والجنوبية، باب الدكاكين، باب السبع، باب الساكمة وباب قبيبات السمن. فهذه الساحة تشبه قلعة منفردة بنفسها عن باقي الأحياء والمرافق المكونة لفاس الجديد.
كانت هذه البوابة، باب المكينة، المدخل الرئيسي لمصنع الأسلحة وللمدرسة الحربية، اللذين أمر بإنشائهما السلطان الحسن الأول (1836 ـ 1894) سنة 1886. وانطلاقا من هذه المؤسسة العسكرية التي حملت “.Macchina” اسما إيطاليا: ”
تم إطلاق اسمها على البوابتين المجاورتين وعلى الساحة برمتها. فعلى الرغم من وجودها كنغمة نشاز في سمفونية هندسية مغربية، فإنها بقيت شامخة تمثل محاولة جريئة من أجل التحول بالمغرب إلى صفف التطور والحداثة.
لقد كان بناء هذه المنشأة العسكرية ضرورة انتبه إليها السلطان الحسن الأول، الذي كان واعيا بأن مرحلة انتصارات المرابطين (1056 ـ 1147) والموحدين (1121 ـ 1269) والمرينيين (1244 ـ 1465) قد ولت وأنه قد مر أمد طويل على معركة وادي المخازن (1578) التي أعطت للمغرب من جديد هيبة جعلته من القوى العالمية التي يحسب لها حسابا. كما أن القوة العسكرية التي عرفتها فترة السلطان إسماعيل بن الشريف (1645 ـ 1727) لم تعد حاضرة، وأن الضعف العسكري والحضاري قد برز بشكل واضح ابتداء من حل الأسطول البحري المغربي سنة 1817، والانغلاق على كل ما هو خارجي في فترة حكم السلطان سليمان (1792 ـ 1822). ثم تجلى هذا الضعف أكثر وضوحا في الهزيمتين اللتين تكبدهما المغرب أولاها سنة 1844 في معركة إيسلي أمام الجيش الفرنسي، في فترة حكم جده السلطان عبد الرحمان (1822 ـ 1859)، بسبب الدعم الذي قدمه المغرب للمقاومة الجزائرية واحتضانه لقائدها الأمير عبد القادر؛ مما أدى إلى مهاجمة فرنسا للمغرب، ثم فرضها شروطا قاسية في اتفاقية للا مغنية سنة 1845، نتج عنها سلب المغرب لبعض أراضيه الشرقية وفرض غرامة مالية قاسية ومنع المغرب من تقديم أي شكل من أشكال الدعم إلى الجزائر. فنتيجة لهذه الهزيمة عمل السلطان عبد الرحمان على إجراء تعديلات نسبية وانفتاح على المدنية الغربية.
اما الهزيمة الثانية فكانت في بداية حكم والده السلطان محمد بن عبد الرحمان (1859 ـ 1873) أمام الجيش الإسباني، والذي كان أقل تطورا من الفرنسي. لقد شجع انتصار الفرنسيين في إيسلي الإسبان على التطاول على الأراضي المغربية سواء في الجنوب أو في الشمال؛ وذلك بدعم وتحريض من فرنسا، وكذا المطالبة بتسليم زعماء قبيلة أنجرة التي قاومت الاستيلاء الإسباني على الأراضي المجاورة لسبتة. فجاءت الهزيمة الثانية أمام إسبانيا سنة (1859 ـ1860) في حرب تطوان، التي فرضت في معاهدتها بواد راس، غرامة مالية كبيرة 20 مليون بسيطة. والتنازل عن أراض في الجنوب. يصف هذه الهزيمة بكل مرارة وآثارها على السيادة المغربية المؤرخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي في كتابه “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصا” فيكتب: “وقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد لهم مثله وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير”.
لقد عمل محمد الرابع هو الآخر، إثر هذه الهزيمة الثانية أمام الجيش الإسباني وبشكل أكثر جدية من أبيه السلطان عبد الرحمان، على تحديث الجيش من خلال محاولة استقطاب خبراء ومدربين عسكريين غربيين من أجل تكوين جيش نظامي على النمط الأوروبي. لم تكن هذه الخطوة التي قام بها السلطان محمد الرابع إلا استجابة لضرورة حتمية جعلت الوعي العام المغربي، شعبا وحكومة، يدرك أهمية القيام بهذا الإصلاح وتجديد نمط الجيش كلية وتنظيم طرقه حسب الأسلوب الغربي؛ فلم يكن طموحه في التجديد يقف عند استيراد الأسلحة والآليات المتطورة فحسب، بل تعداها إلى فكرة صناعة هذه الاحتياجات العسكرية من أجل تجنب المبالغ المكلفة لاستيرادها وكذا الاستقلال عن الوسطاء الابتزازيين. فجاءت فكرة إنشاء مصانع للسلاح، أولها في مراكش سنة 1860. لقد عرف المغرب قديما مصانع الأسلحة النارية والمدافع منذ عصر المرينيين ثم السعديين؛ غير أن هذه الصناعة عرفت في فترة منتصف القرن التاسع عشر تطورا كبيرا، ما جعل التقنية المغربية غير كافية لمواكبة هذه التطورات السريعة التي عرفتها الصناعة الحربية.
إن ضعف الإنتاج وقلة جودة أسلحة مصنع مراكش مردهما إلى ضعف الخبرة العسكرية المتطورة الحديثة من ناحية، ووقوع المغرب في أحابيل وخداع تجار الأسلحة والسماسرة، بحيث لم يشكل هذا الجيش الذي كان مكونوه مدربون أجانب لا يريدون بطبيعة الحال أن ينعتق الجيش والحكومة المغربية من التبعية الغربية. كل هذا تحت قيادة أمناء (جنرالات) مغاربة أكثرهم تنقصهم الخبرة العسكرية الحديثة. لم يكن هذا الجيش إلا صورة شكلية لجيش نظامي بمفهومه الحقيقي.
في هذا الصدد، قدم لنا الألماني غيرهارد غولفس، الطبيب العام للجيش المغربي في تلك الفترة، في كتابه “إقامتي الأولى في المغرب”، صورة عن وضع الجيش المغربي كالآتي: “الآن، يظن (أي السلطان) أن بإمكانه التوفر على جيش نظامي، حين جعل جنوده يرتدون بذلات عسكرية على الطريقة الأوروبية.. وهكذا يرى الإنسان هنا بزات عسكرية من مختلف القوميات، لا يوحدها جميعا غير الطربوش التركي الأحمر والبلغة الصفراء. شُرع أيضا في لبس السراويل القصيرة الممتدة حتى الركب”. ثم أضاف في فقرة أخرى لاحقا: “السلاح تكونه بنادق قفل حجري فرنسية عتيقة، ترجع كلها تقريبا إلى سنة 1813. فقد أمر السلطان باستيرادها بمبلغ 40 فرنكا للقطعة الواحدة (كان بإمكانه مقابل ذلك الحصول على مسمار الإشعال)؛ غير أن التجار الوسطاء جنوا منفعتهم من ذلك. تعطى الأوامر باللغة التركية، ماله سلبيات بالنسبة للجنود، إذ أنهم أنفسهم تعلموا فهمها ميكانيكيا فقط. لكل فيلق علم، كل فرقة (أُسمي هكذا المجموعة التي يقودها “أغا”) لها واحد أكبر، ألوان الأعلام حمراء وصفراء وزرقاء، حسب ميول القائد إلى هذا اللون أو ذاك”.
لقد عمل السلطان الحسن الأول، الذي يعد من أنجح وأهم السلاطين العلويين، منذ توليه الحكم خلفا لأبيه محمد بن عبد الرحمان، على بسط نفوذه على جميع مناطق المغرب وتوحيد القبائل دون تمييز تحت حكم سلطة مركزية؛ فحتى وإن لم ينه كل الإصلاحات التي كان عازما على تحقيقها، بسبب تمرد بعض القبائل، فإنه من خلال سياسة التقشف، التي نهج، استطاع أن يجنب المغرب الإغراق في الديون؛ وبذلك يصبح مضطرا إلى فتح البلاد وقبول التدخل الأجنبي. في الوقت الذي كانت فيه مصر وتونس تخضعان للتحكم الأوروبي المالي والاقتصادي. لقد استطاع الحسن الأول، من خلال سياسته، صد الضغوط الأوروبية المتزايد بغرض الاستيلاء على المغرب. وهكذا، استطاع في مؤتمر مدريد سنة 1880 انتزاع الاعتراف الدولي، بعدم تبعية المغرب لأية قوة أجنبية.
من المؤكد، لم يكن خاف على الحسن الأول، من خلال استعراض الأحداث التي سبقت مع أبيه وجده والأطماع الأجنبية المكثفة التي أسفرت عن مؤتمر مدريد، أن بقاء المغرب بعيدا عن هذه المحاولات الطامعة لن يتحقق دون تحديثه، في الجانب العسكري بالدرجة الأولى؛ فتحديث الجيش ليس مسألة شكلية أو توفير معدات متطورة فقط، بل يحتاج إلى ضباط وكفاءات قادرة على التخطيط، وخلق سياسة دفاعية بأساليب مسايرة للعصر، فأنشأ بعثات عسكرية، تشتمل على مدربين أوروبيين، استدعاهم سنة 1877 إلى المغرب. وأول هذه البعثات كانت البعثة الفرنسية وصلت إلى فاس سنة 1879، يرأسها آنذاك إيركمان، الذي حظي بثقة السلطان الحسن الأول، وكان قبطان مدفعية. والذي سيرتقي في السلم العسكري ابتداء من سنة 1883 برتبة ليوطنان ـ كولونيا. ويؤلف كتابا مهما عن هذه المرحلة وعن دسائسه اتجاه البعثات التي كانت تهدف إلى بيع الأسلحة إلى السلطان. ثم تلتها البعثة الإيطالية، وكان يرأسها الكولونيل فيرارا ثم الكولونيل بريكولي، والتي ستسند إليها عام 1885 مهمة إنشاء دار السلاح بفاس، المكينة. ثم البعثة الألمانية برئاسة المهندس روطانبورغ التي كلفت بإقامة فرقة مدفعية شاطئية بالرباط فقد وصلت إلى فاس في السنة نفسها. ثم تلتها ولوقت قصير بعثة عسكرية إسبانية.
كما كان الحسن الأول يعتبر أن نجاح أي محاولة لإنشاء جيش حديث رهينة بإنتاج حاجياته ومتطلباته وليس استيرادها فقط. لذا، قام بخطوة مهمة جدا من أجل تحقيق هذا الهدف، وهي إرسال عام 1885 بعثات من الطلبة المؤهلين إلى عدد من المدارس العسكرية الأوروبية، إلى بلجيكا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا وبعثة من ثلاثة طلاب فقط إلى إسبانيا، للتدريب على المناهج العسكرية الحديثة. ثم قام بشراء معدات حربية من مختلف الدول الأجنبية. وأمر ببناء مصنع الأسلحة المتطورة بفاس عام 1885، ومدرسة عسكرية ملحقة به في سرية تامة. وقد استغرق بناء هذه المنشأة العسكرية، التي سيطلق عليها سكان فاس لاحقا اسم المكينة، أربع سنوات. وكانت من تخطيط ثلاثة مهندسين إيطاليين وتحت إشراف الكولونيل الإيطالي جيورجيو بروكولي.
ومن أجل إنجاز هذا المشروع الضخم: “وضع رهن إشارة هؤلاء التقنيين”، كما يفيدنا روجي لوطونو، “أرضا واسعة، بالجانب الغربي لمشور باب الدكاكين، يشقها فرع حول من واد فاس بإمكانه إعطاء الطاقة المحركة، فأمروا بأن يشيد هناك مبنى واسعا مماثلا في مبدئه لأهراء مولاي إسماعيل الشهيرة بمكناس. وطلبوا الآلات من إيطاليا واستطاعوا أن يشغلوا المصنع في غضون عام 1889″؛ غير أن المصنع لم يكن جاهزا تماما إلا بعد عام 1891. فقد جلبت لهذا الغرض الآلات من البندقية، فقد جاءت هذه المؤسسة العسكرية بناء على اتفاقية بين السلطان الحسن الأول والسلطات الإيطالية؛ ذلك أن إيطاليا كانت من بين الدول التي أرسل المغرب إليها بعثات طلابية للدراسة في مجال الدفاع. كما أنها لم تكن لها في المغرب تلك الأطماع الملحة مثل فرنسا وإسبانيا وبريطانيا. من هنا، حملت هذه المعلمة العسكرية اسمها من اللغة الإيطالية “macchina”.
لقد عرفت مرحلة حكم الحسن الأول محاولة جريئة للقفز بالمغرب إلى العصر الحديث، رغم ما واجهه من العراقيل والصعوبات سواء من داخل المخزن أو من خارجه؛ مثل تحريض القوى الأجنبية والمتعاونين معها، كأصحاب الحمايات والامتيازات والقبائل، على الثورة على السلطة المركزية، وكذا إفشال حركة الطلبة القادمين من أوروبا بأفكار حديثة قصد، تغيير مفاهيم وأساليب قديمة من خرافات ومعتقدات بالية. فلم يكن من صالح المستوردين وسماسرة الأسلحة والحاجيات التي يتطلبها الجيش والسوق المغربي أن تصنع هذه الحاجيات في المغرب وتصبح في متناول الكل وبأثمان مناسبة.
لذلك، عملوا كل ما في وسعهم من أجل إجهاض هذه الخطوة الجريئة، فجندوا لها الفقهاء المتشددين والمتعصب ينضد كل ما هو محدث، من خلال إغرائهم والإغداق عليهم بالمنحات والعطاءات حتى يتصدوا لكل خطوة إصلاحية يقوم بها السلطان.
لقد استمر العمل في هذا المصنع إلى حدود سنة 1912، حين تم حل الجيش المغربي من قبل المستعمر الفرنسي؛ فقد كان المعمل يتوفر على معمل للحدادة وبمشغل للنجارة والعربات، وكل ذلك بآلات حديثة مثل مطرقة آلية ومخاريط مختلفة لإصلاح الأسلحة.. ورغم ذلك لم يكن ينتج أكثر من خمس بندقيات في اليوم. ثم تحول إلى مصنع للزرابي لاحقا. لقد مر قرابة قرن ونصف القرن من الزمن على إنشاء هذه المؤسسة العسكرية. ولم يبق من وجودها إلا الاسم؛ لكن بوابتها باب المكينة ستبقى دائما شاهدا بارزا على محاولة الإصلاح والتجديد التي عرفها المغرب على يد السلطان الحسن الأول ورمزا لأمل المغرب في النهوض ثانية واستعادة دوره القيادي والحضاري الذي قام به لقرون عديدة في الغرب الإسلامي.
المصدر: هسبريس