مقدمة

يُعدّ موضوع القيم الكونية من القضايا التي تستعيد حضورها في الفكر الإسلامي المعاصر، خصوصًا في ظل التحولات الحضارية الكبرى التي يشهدها العالم، والتغير الشامل لنظرة العالم للقيم الغربية التي فضحها تواطؤ الحضارة الغربية ومشاركتها في الإبادة الجماعية في فلسطين تسليحا وتمويلا وتبريرا، وما رافقها من اختلال في منظومات المرجعيات وأحقية أي منها بأن تكون كونية تسود على غيرها من المرجعيات والقيم. فالقرآن الكريم، بصفته كتاب هداية وبيان، يقدم رؤية شمولية للإنسان والعالم والحياة، تنبني على منظومة من القيم الكونية التي توجه السلوك الإنساني نحو تحقيق التوازن بين الروح والمادة، والعقل والوحي، والفرد والمجتمع.

وتتأكد أهمية هذا الموضوع في سياق الحاجة إلى تجديد الرؤية القيمية الإسلامية بما يتناسب مع متطلبات العصر، دون التفريط في الثوابت المرجعية التي تؤطر النظر والعمل. إن الحديث عن القيم الكونية لا يعني اختزال القيم في بعدها الأخلاقي الفردي، بل النظر إليها باعتبارها بنية كلية تؤسس للمعرفة والعمران والتواصل الإنساني (العلواني، 1991).

مفهوم القيم الكونية في ضوء الرؤية القرآنية

إن القيم في التصور القرآني ليست مجرد مبادئ سلوكية، وإنما هي تعبير عن “قانون كوني” يُحكم حركة الوجود ويحقق الانسجام بين الخالق والمخلوق. يقول الله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ (غافر: 85). فالقيمة في المنظور القرآني ترتبط بالحق والعدل والإحسان والرحمة، وهي قيم تتجاوز الانتماءات الدينية والثقافية لتؤسس لمنظور إنساني شامل، يربط الوجود بالغائية والتكامل (الصمدي، 2019).
ويبرز في القرآن الكريم أن القيم ليست معطى نظريًا جامدًا، بل هي “سنن فاعلة في الكون”، تعكس وحدة الخلق ووحدة المقصد، ومن ثم فإن الكونية في القيم لا تعني النسبية، بل الاتساع والشمول القائم على العدل والمساواة والتعارف الإنساني، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، إنّ القيمة الكونية، بهذا المعنى، هي المبدأ الذي يضبط علاقة الإنسان بالعالم، ويعيد إليه وظيفته في “الاستخلاف والإعمار”، لا في السيطرة والتدمير (أبو سليمان، 1993).

البعد المعرفي للقيم في القرآن الكريم

يظهر استقراء النصوص القرآنية أن القيم ليست تابعة للمعرفة، بل هي أصل معرفي سابق عليها، إذ تُحدد مقاصد العلم وغاياته. فالعلم في القرآن مرتبط بالهداية، والقيمة معيار لسلامة المعرفة. يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31)، وهذا يعني أن الفعل المعرفي في الإسلام ليس محايدًا، بل موجَّه بالقيمة نحو تحقيق الخير والإصلاح. ويؤكد الفكر الإسلامي المعاصر، من خلال مشاريع المعهد العالمي للفكر الإسلامي مثلا، أن أحد مظاهر الأزمة الحضارية الحديثة يتمثل في انفصال المعرفة عن القيمة، حيث تحوّل العلم إلى أداة تقنية بلا غاية إنسانية. لذلك دعا طه جابر العلواني إلى إعادة تأسيس العلاقة بين “العلم والقيم والوحي” من خلال مشروع “إسلامية المعرفة”، الذي يجعل القيمة مركز المنظومة الفكرية والمعرفية (العلواني، 1991).

مركزية القيم في الرؤية القرآنية للإنسان والكون

الإنسان في القرآن ليس مجرد كائن بيولوجي، بل هو ذات أخلاقية مسؤولة، مُكرّمة بالعقل والاختيار، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70). وهذا التكريم الإلهي هو أساس القيمة الإنسانية التي تُعلي من شأن الحرية والعدل والكرامة، وهي قيم لا تُفهم إلا في سياق التكليف والاستخلاف.
وفي هذا الإطار، يبرز الدكتور خالد الصمدي المشرف على إعداد موسوعة “منظومة القيم الكونية في القرآن الكريم” أن القيم القرآنية ليست منفصلة عن القيم الكونية، بل هي بنية حاكمة ومحددة لها، إذ يدعو إلى ما يسميه بـ”التكامل القيمي والمعرفي في القرآن”، حيث تُستنبط القيم من السنن الكونية والآيات الآفاقية (الصمدي، 2020). ويرى أن الفكر الإسلامي المعاصر يحتاج إلى إعادة بناء مناهجه على ضوء هذه القيم الكونية التي تضمن توازنه الإنساني والحضاري.

نحو تكامل معرفي قيمي

يتجه الفكر الإسلامي المعاصر نحو تجاوز الثنائية بين المعرفة والقيمة، والعقل والوحي، من خلال مشروع “التكامل المعرفي والقيمي” الذي يتبناه عدد من المفكرين المسلمين المعاصرين، فالقيمة ليست مجرد عنصر أخلاقي، بل هي “بوصلة معرفية” توجه النظر والعمل. لذلك فإن بناء أي مشروع حضاري لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تأسس على منظومة قيمية تعيد الاعتبار للإنسان كغاية، وللوحي كمرجع، وللعقل كأداة للفهم والإبداع (برزنجي، 2009). ويرى خالد الصمدي أن هذا التكامل يتيح تأسيس علم إنساني أصيل، يوازن بين الاكتشاف العلمي والتزكية الأخلاقية، ويجعل القيم القرآنية منطلقًا لتجديد الفكر التربوي والاجتماعي، بحيث يصبح الإنسان محورًا للمعرفة والتنمية (الصمدي، 2021).

إن القيم الكونية في القرآن تمثل الأساس المعرفي لأي مشروع حضاري إنساني. وفي هذا السياق، يؤكد  عبد الحميد أبو سليمان (1993) أن التجديد الحضاري لا يمكن أن يتحقق إلا باستعادة البعد القيمي في الثقافة الإسلامية، وبناء مؤسسات علمية وتربوية تُترجم هذه القيم إلى سلوك وممارسة.

خاتمة

إن القيم الكونية في القرآن الكريم ليست مجرد مفاهيم تجريدية، بل هي منظومة وجودية ومعرفية شاملة، تضبط علاقة الإنسان بالله وبالعالم وبالإنسان الآخر. ومن ثم، فهي تمثل نواة لأي مشروع حضاري يسعى إلى تحقيق التوازن بين العلم والإيمان، والعقل والروح، والمصلحة والمبدأ، بعيدا عن جشع الحضارة الغربية التي تحولت لرأسمالية متوحشة حتى أكل الغني الفقير والقوي الضعيف وصارت النيوليبرالية عقيدة عوضت بقيمها الاستهلاكية كل القيم الدينية والإنسانية التي بناها الإنسان عبر تاريخه الطويل على الأرض.

إن الحاجة اليوم ملحّة إلى إعادة بناء الفكر التربوي والمعرفي في ضوء هذه القيم الكونية، حتى يستعيد الإنسان المعاصر إنسانيته، والعلم أخلاقيته، والحضارة وجهها الإنساني المشرق.

 

المصدر: العمق المغربي

شاركها.