مؤسسات الريادة مشروع طموح ينتظر التعميم في التربية والتكوين
قال أشرف الطريبق، دكتور في القانون العام إعلامي مهتم بقضايا التربية والتكوين، إن “الأرقام المتعلقة بنتائج روائز TaRL بخصوص المستوى الخامس من التعليم الابتدائي، ونتائج البرنامج الدولي لتقييم التلاميذ (PISA) لسنة 2022، تخيف من يطلع عليها، وتستدعي من الفاعل العمومي التدخل بشكل عاجل والتحرك لإعادة الأمور إلى نصابها دون تسرع”.
وبعدما قدّم الطريبق في مقالة تحليلية بعنوان “مؤسسات الريادة: مشروع طموح ينتظر التعميم”، عددا من التصويبات لمغالطات وردت على لسان بعض الخبراء في التعليم في ردود إعلامية متنوعة، أشار إلى ضرورة “التعبئة من أجل إنجاح مراحل التوسيع التدريجي حتى يكون موسم 20272028 موسم تعميم النموذج بعد تثمين إيجابياته وتصحيح سلبياته”.
نص المقال:
تقديم
تتوالى العديد من التحليلات والقراءات المتعلقة بتقديم الحصيلة المرحلية لنصف الولاية الحكومية في مختلف المحاور التي تم تقديمها سواء في جلسة البرلمان أو في اللقاء التلفزيوني على قنوات القطب العمومي. وقد كان لنصيب قطاع التربية والتكوين حظ وافر من التحليل الإعلامي، خصوصا عند تقديم المعطيات الأولية لنتائج تنزيل مشروع مؤسسات الريادة، ومنها ما ورد في برنامج حواري على أحد المواقع الإلكترونية، تم تخصيص سلسلة لقاءاته لتقييم حصيلة إصلاح التعليم. ومع تقديرنا الكبير لضيوف البرنامج ومقدمه الإعلامي، إلا أنه بعد الاطلاع على الحلقة الثانية تحت عنوان: “مدارس الريادة وجودة التعليم.. أي تقييم؟”، تبين لي تناول العديد من الأفكار المستهلكة والمستندة إلى خلفية مسبقة بشكل سطحي دون تقديم تحليل مقنع ينبني على معطيات ومقارنات علمية على أقل تقدير. نذكر منها:
القول بأن خارطة الطريق ركزت على المستوى الابتدائي دون غيره من المستويات التعليمية وكأن الإصلاح سيكون جزئيا ليس شموليا؛
الدفع بأن الحصيلة الحكومية في قطاع التعليم ركزت على الرفع من أجور الأساتذة، وتناست أن الأستاذ يجب أن يكون محفزا ومكونا؛
رفض فكرة التجريب؟ بحجة أن المقتضيات التي قدمتها خارطة الطريق ليست بجديدة ولا تكلف موارد مالية ضخمة؛
اعتبار أن الدعم التربوي من المهام الأساسية والطبيعية، والطرق البيداغوجية المقترحة داخل مشروع المدرسة الرائدة هي تقليدية وفيها تقييد لحرية الأستاذ واعتباره غير قادر على الإبداع التعليمي في الوضعيات التي تتم في قسمه؛
الدفع بأن تحسن نسب التمكن من التعلمات داخل مدارس الريادة هي مؤشرات حصيلة تقييم المنظومة التعليمية، فيه تغليط للرأي العام على اعتبار أن مشروع المدرسة الرائدة انطلق في 626 مؤسسة ابتدائية فقط، وهي تمثل نسبة قليلة من مجموع المؤسسات التعليمية على المستوى الوطني.
تقييم الوضع قبل انطلاق المشروع النموذجي
قبل تقديم توضيحات أساسية بخصوص ما تقدم، لا بد من العودة إلى نقطة البداية، أي قبل أجرأة خارطة الطريق أو عند المراحل الأولى في بداية إطلاق أوراشها.
فوفق الأرقام التي تضمنتها “خارطة الطريق 20222026″، بناء على نتائج روائز TaRL بخصوص المستوى الخامس من التعليم الابتدائي، فإن نسبة 23% من التلاميذ فقط يستطيعون قراءة نص مكتوب باللغة العربية من 80 كلمة، ونسبة 30% يستطيعون قراءة فقرة بسيطة مكتوبة باللغة الفرنسية من 16 كلمة، ونسبة 13% يستطيعون إنجاز عملية قسمة بسيطة.
وبالرجوع أيضا إلى نتائج البرنامج الدولي لتقييم التلاميذ (PISA) لسنة 2022 الذي يستهدف الأطفال البالغين سن خمسة عشر عاما، نجد أن المغرب حصل على المرتبة 71 في الثقافة الرياضية والمرتبة 79 في الفهم والكتابة والمرتبة 76 في العلوم من بين 81 دولة استهدفها البرنامج، وبشكل عام تراجع 9 مراتب مقارنة بترتيبه في البرنامج نفسه سنة 2018.
أرقام بالتأكيد تخيف من يطلع عليها، وتستدعي من الفاعل العمومي التدخل بشكل عاجل والتحرك لإعادة الأمور إلى نصابها دون تسرع وأخذا بعين الاعتبار دروس ونتائج تقييم البرامج الإصلاحية السابقة، على رأسها البرنامج الاستعجالي.
صعوبة البدايات عند كل إصلاح
لنطرح سؤالا أساسيا وجوهريا يرتبط بلحظة البداية؛ ماذا لو لم يكن مشروع المدارس الرائدة؟ أكيد سينخرط الجميع في نقاش لا يتوقف حول كيفية رصد الموارد المالية الكافية لتوفير ضروريات التعليم الجيد داخل المؤسسات التعليمية، وكذلك تكوين أعداد وفيرة من أطر التربية والتكوين في مجالات التدريس والإدارة والتأطير التربوي في مختلف التخصصات التي يتطلبها إصلاح التعليم بشكل شمولي.
وفي مثل هذه الظروف القاسية من جفاف وشح الموارد المالية وارتفاع نسب التضخم، وتصاعد الاحتجاجات في صفوف الموظفين العموميين بمختلف أطرهم من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعية، كان من شبه المستحيل أن نرى مشروعا نموذجيا يرفع السقف عاليا بشعار طموح في إطار تزيل الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 20152030: من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، ومضامين القانون الإطار 17.51.
ولا يمكن أن ينكر أحد أن أكبر المتفائلين راهن على فشل التجربة النموذجية في مهدها، بحجة الأزمات الصعبة التي عاشها قطاع التعليم، خصوصا أزمة أساتذة التعاقد والاحتجاجات الفئوية التي قادتها بعض التنسيقيات، مما يظهر بشكل ملموس إكراهات البداية والضغط الكبير الذي تحملته الوزارة المكلفة بالقطاع من أجل تنزيل أوراش الإصلاح.
التجريب لا يعني الارتجال ولا التمييز
إن أغلب التجارب الناجحة في مجال تدبير الشأن العام والإصلاحات العميقة تعتمد أسلوب التجريب والعينة عند تنزيل الإجراءات اللازمة، ويكفي أن نتناول العديد من الأوراش الكبرى على المستوى الوطني من أجل تأكيد ذلك، وعلى سبيل المثال، نذكر نظام المساعدة الطبية “RAMED” الذي انطلق العمل به في نونبر 2008 في إطار تجربة نموذجية شملت جهة تادلةأزيلال، إلى أن تم إعطاء التوجيهات الملكية يوم 13 مارس 2012 لانطلاق عملية تعميمه ليشمل نحو8,5 ملايين نسمة من الفئات الاجتماعية المعوزة.
إن منطق التجريب العلمي يمكن من توفير الظروف المثالية لإنجاح المشروع والوقوف عند نتائجه بشكل دوري متكرر من أجل الوقوف عند العثرات والأخطاء التي يجب أن نتقبلها بشكل واقعي ومسؤول، من أجل تصويبها وأخذ العبر منها.
واختيار العينة للتجريب لا يكون عبثا حتى لا يؤسس على منطق المحاباة والتمييز، بل يتم بناء على معايير واضحة تتمحور حول ثلاثة جوانب رئيسية:
مؤشرات الهدر المدرسي، على اعتبار أن خارطة الطريق وضعت من بين أهدافها الاستراتيجية مواجهة هذه الظاهرة وتخفيض نسبتها؛
المعطيات المرتبطة بالمواصفات المادية والتربوية للمؤسسة، حتى يسهل تنزيل المشروع بكلفة مادية موضوعية ودون عراقيل كبرى على مستوى إنجاز الأشغال الضرورية لتجويد الفضاء التعليمي؛
مبدأ الانخراط الفردي والطوعي لأعضاء الفريق التربوي داخل المؤسسة، مما يعني الانطلاق من الإيمان العميق والقناعة المتكاملة بالمشروع وأبعاده النبيلة.
شمولية مستويات الإصلاح دون اقتصاره على مستوى معين
إن بداية مشروع مؤسسات الريادة بتنزيله على مستوى 626 مدرسة ابتدائية في سنته الأولى، لا يعني بأي حال من الأحوال أنه سيقتصر على مؤسسات التعليم الابتدائي دون غيرها، وأن نتائج الاشتغال على مستوى التعليم الابتدائي لن يمتد أثرها إلى باقي المستويات، فهذافي نظريرأي متسرع لا يصدر عن خبير. إن مركزية إصلاح التعليم الابتدائي لا تناقش، لكن، سبقتها سنوات من العمل الدؤوب من أجل إرساء تعليم أولي ناجح عبر وضع المؤسسة ذات الاختصاص وآليات الحكامة، وتشييد المئات من حجرات التعليم الأولي داخل المؤسسات التعليمية وبرامج لتكوين وتخريج الآلاف من المربيات والمربين.
كما أنه، وبعد الإعلان عن المؤشرات الأولى لمشروع مدرسة الريادة في السنة الأولى وإصدار المذكرة 129×24 التي تستهدف توسيع نموذج الريادة بالسلك الابتدائي بإضافة 2000 مؤسسة ابتدائية برسم الموسم الدراسي 20242025، تم أيضا إصدار المذكرة 138×24 في شأن تنزيل برنامج إعداديات الريادة برسم الموسم الدراسي 20242025، يستهدف أجرأته على مستوى 230 مؤسسة في المستوى الإعدادي تابعة للتعليم العمومي على المستوى الوطني.
وبالعودة إلى دعائم تحقيق أهداف خارطة الطريق، سنجدها ركزت بالإضافة إلى تعميم التعليم الأولي وتجويده، وضمان تمكن المتعلمين بالسلك الابتدائي من تعلماتهم الأساس، وتتبع ومواكبة الفوارق بين المتعلمين، على الاشتغال على تنويع المسارات الدراسية بالسلك الثانوي قصد محاربة الهدر والانقطاع المدرسيين، وتعزيز الدعم الاجتماعي، لتهيئة الظروف اللازمة لعملية التمدرس بالعالم القروي. إذن نحن أمام مشروع نموذجي متكامل الأركان، يستهدف أماكن الخلل بشكل مباشر مستحضرا مخاطر التنزيل وعدم إغفال الجوانب الأخرى المؤثرة، في مقاربة نظمية، وهذا ما سيتضح في العنصر الموالي كذلك.
إطار التربية والتكوين في مركز الإصلاح
إن إخراج نظام أساسي جديد بعد 20 سنة، وبغض النظر عن الاتفاق حول استيفائه لجل المطالب الوظيفية لأطر التربية والتكوين، فإنه عنصر رئيسي ومركزي في عملية الإصلاح، وقد كان لا بد من تقديم تنازلات عدة من قبل كل الأطراف التي شاركت في الاجتماعات التشاورية من أجل رفع حالة الاحتقان والتخفيف من حدة الإضرابات وطي الملفات العالقة، مما سيسهم في إعطاء الثقة لإجراءات تنزيل خارطة الطريق وحشد المزيد من التعبئة حولها.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال مطالب نساء ورجال التعليم في الزيادات والتعويضات المالية، فهذا حيف وإساءة في حقهم، بل إن أطر قطاع التعليم رفعوا شعار الكرامة أولا والعدالة الأجرية ثانيا وثالثا سن ثقافة الاعتراف عبر آلية التحفيز، ويبقى مجرد طي ملف أساتذة التعاقد بشكل نهائي عبر آلية المرسوم خطوة كان يعتبرها المتتبعون شبه مستحيلة بالنظر إلى تصلب الآراء بين الأطراف المشاركة في الحوار القطاعي.
ومن السابق لأوانه استعجال الانتقادات اللاذعة لنص حديث الإصدار، فالثغرات الحقيقية تظهر عند التنزيل والأجرأة، وكما توفرت للوزارة الوصية على القطاع شجاعة سحب المرسوم وإدخال تعديلات عليه وإعادة نشره، فإنها من خلال أجرأته وتنفيذ مقتضياته قادرة على تصويب الأمور وتفادي التمييز بين الفئات المنتمية للنظام الأساسي من حيث الحقوق والواجبات.
جميعا من أجل تعميم مؤسسات الريادة
إن الدينامية الجديدة التي أطلقها نموذج مؤسسات الريادة والآراء التي قدمها الأساتذة والأستاذات العاملون في المدارس المستهدفة بالمشروع بخصوص فعالية الأساليب البيداغوجية الجديدة، مع تسجيل تحسن كبير في مستوى التلاميذ والتقييم الأولي لأثر برنامج الدعم والمعالجة بهذه المؤسسات الذي كشف عن تحسن نتائج التلاميذ أربع مرات بالنسبة للرياضيات وثلاث مرات بالنسبة للفرنسية ومرتين بالنسبة للغة العربية، كلها مؤشرات يجب أن تدفع الجميع إلى ضرورة التعبئة من أجل إنجاح مراحل التوسيع التدريجي حتى يكون موسم 20272028 موسم تعميم النموذج بعد تثمين إيجابياته وتصحيح سلبياته، وإلا سنجد أنفسنا جميعا نكرر النقاش ذاته الذي مللنا سماعه منذ سنوات اللجان الملكية ومناظرات إصلاح التعليم، المتضمن للكثير من المزايدات السياسية والخطابات التربوية المفتقدة لروح العمل، وشجاعة الإقدام في قضية يتوهم فيها بعض الناس أنها مسؤولية طرف دونآخر، بينما هي قضية وطن.
وحسبنا أن نتذكر خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده في أولى سنوات تربعه على عرش المملكة بتاريخ 30 يوليوز 1999 عندما قال: “تشغل قضية التعليم حيزا كبيرا من اهتماماتنا الآنية والمستقبلية لما تكتسيه من أهمية قصوى، ولما لها من أثر في تكوين الأجيال وإعدادها لخوض غمار الحياة والمساهمة في بناء الوطن بكفاءة واقتدار وبروح التفاني والإخلاص والتطلع إلى القرن الحادي والعشرين بممكنات العصر العلمية ومستجداته التقنية وما تفتحه من آفاق عريضة للاندماج في العالمية”.
المصدر: هسبريس