تتميز جامعات النخبة في الولايات المتحدة الأمريكية بقيمة علمية كبيرة ومكانة ثقافية لا ينافسها فيها أحد من الجامعات في الدول الأخرى، باستثناء جامعتي أوكسفورد وكامبريدج البريطانيتين. وتوفر هذه الجامعات لطلابها فرصا أكاديمية ومهنية مهمة للغاية، وهو ما جعلها قبلة للطلاب من مختلف دول العالم.
في هذه السنة، تجاوز عدد الطلاب الأجانب حاجز المليون ومئة ألف طالب وطالبة، جاء أكثر من 55% منهم من الهند والصين، وهي دول تركز على الجوانب العلمية في مسارها التنموي، من خلال تشجيع طلبتها على التحصيل العلمي في الجامعات الأمريكية، حتى يساهموا في تطوير بلدانهم الأصلية.
ولمعرفة قيمة الجامعات الأمريكية، يكفي أن نذكر أن نحو 150 من خريجي جامعة هارفارد حصلوا على جائزة نوبل في تخصصات متعددة، كما تخرج منها ثمانية رؤساء أمريكيين، وعدد كبير من أفراد النخبة السياسية والاقتصادية والفكرية التي تهيمن على الوعي الأمريكي الحديث. وتتوفر الجامعة على وقف مالي يفوق 50 مليار دولار، وهو ما يعادل ضعف ميزانية دولة مثل تونس! وتأتي هذه الأموال من التبرعات، والدعم الحكومي، ورسوم الدراسة، والأنشطة الرياضية، وغيرها.
وما ينطبق على هارفارد ينطبق أيضا على جامعات أخرى مثل ستانفورد وييل وكولومبيا وغيرها.
لكن لماذا يغضب ترامب وحركته “اجعلوا أمريكا عظيمة مجددا” من الجامعات الكبرى؟ ولماذا تبالغ التيارات اليمينية في خصومتها مع هذه المؤسسات التي تعتبر من أهم عوامل تقدم الولايات المتحدة؟
السبب الظاهري لهذا الغضب هو المظاهرات والاعتصامات التي شهدتها عدد من الجامعات الأمريكية مؤخرا بسبب ما يحدث في غزة، حيث اعتبر ترامب وبعض أعضاء إدارته أن الجامعات الكبرى لم تتخذ الموقف اللازم لمواجهة ما وصفوه بـ”معاداة السامية” و”العداء لليهود”. ومن الجدير بالذكر أن عددًا من رؤساء هذه الجامعات يعتنقون الديانة اليهودية، من بينهم رئيس جامعة هارفارد، ورئيس جامعة MIT، ورئيس جامعة نورث ويسترن وغيرها.
لكن المظاهرات الطلابية ليست أمرا جديدا، فقد اعتاد الطلبة التعبير عن مواقفهم من القضايا الكبرى، كما حدث في احتجاجات سنة 1968 ضد حرب فيتنام، حيث احتل طلاب جامعة كولومبيا مباني إدارية لأكثر من أسبوع، ما دفع الأمن إلى التدخل وأدى إلى إصابة أكثر من مئة شخص واعتقال أكثر من 700.
وفي نهاية المطاف، رضخت الجامعة لمطالب الطلبة وقطعت شراكتها مع مركز لصناعة الأسلحة.
ولذلك ينظر إلى الطلبة غالبا كقادة للتغيير في أغلب دول العالم، إن لم يكن جلها.
أما السبب الحقيقي لغضب ترامب والتيار المحافظ من الجامعات الكبرى، فيعود إلى توجهاتها الليبرالية؛ فبالنظر إلى نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة، يتضح أن أغلب الطلبة يصوتون لمرشحي الحزب الديمقراطي. فعلى سبيل المثال، في الانتخابات التي فاز فيها ترامب بفارق كبير، لم يحصل إلا على 46% من أصوات الطلبة، في حين تفوقت عليه كاميلا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس في تصويت الطلبة خلال انتخابات نونبر 2024، رغم ضعفها السياسي.
ويعتقد كثير من اليمينيين أن ضغط ترامب على الجامعات يهدف إلى “إعادة التوازن الأيديولوجي”، أي تقليص نفوذ الأفكار الليبرالية واليسارية داخل هذه المؤسسات.
وفي هذا السياق، صرح الناشط اليميني المحافظ كريستوفر فو قائلا: “علينا أن نعيدهم إلى الوراء جيلا أو جيلين، حتى يتم تفكيك التقاليد التقدمية السائدة في الجامعات”.
وللمضي قدما في هذا التوجه، استخدم ترامب سلاح التمويل، إذ ربط الدعم الحكومي بشروط، أبرزها إلغاء “برامج التنوع والإنصاف والشمول”، وهي برامج تحرص الجامعات والمؤسسات على أساسها على تمثيل الأقليات، والمثليين، والمتحولين جنسيا، وتوفير بيئة آمنة خالية من التمييز. لكن هذا الأمر يغضب شريحة كبيرة من المحافظين الذين يرون أن هذه السياسات تضر بمبدأ تكافؤ الفرص، وبالبيض تحديدا، وتهدد وحدة المجتمع الأمريكي، بل وتهدف إلى تكريس خطاب يحمل الولايات المتحدة مسؤولية تاريخها المظلم في ما يخص العبودية والتمييز.
نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، ذهب إلى أبعد من ذلك، حين قال في محاضرة سنة 2021 إن “الجامعة هي العدو لأنها تعبر عن أفكار ليبرالية متطرفة”. وهناك أيضا مطالب أخرى مثل منع تغطية وجوه الطلبة المتظاهرين من أجل غزة، وتوسيع مفهوم “معاداة السامية”، وغيرها من السياسات المثيرة للجدل.
من جهتهم، عبر مسؤولو الجامعات عن غضبهم، ولجؤوا إلى القضاء، وحققوا انتصارات قانونية في عدد من القضايا، من بينها حكم قاضٍ فدرالي بعدم قانونية قرار ترامب بمنع تسجيل الطلبة الأجانب في جامعة هارفارد. وبدأت تصريحات قوية تصدر عن رؤساء الجامعات، من بينهم رئيس جامعة كولومبيا السابق سي بولينجر، الذي كتب: “لم أشهد في حياتي هذا المستوى من التدخل الحكومي في القرارات الأكاديمية”.
ولم تستسلم الجامعات، بل تقاوم بشتى الوسائل. فقد أرسل رئيس جامعة هارفارد رسالة إلى الأساتذة والموظفين والطلبة، جاء فيها: “هارفارد لن تتنازل عن استقلالها أو تتخلى عن حقوقها الدستورية”، مضيفا أن “ما يطلب منا يعد تدخلا مباشرا في الشؤون الفكرية”.
خلاصة القول: الصراع بين تيار ترامب والجامعات الكبرى لن يفرز منتصرا واضحا، بل إن البحث العلمي سيتضرر، وقد تتأثر سمعة البيت الأبيض في الأوساط الأكاديمية داخل وخارج الولايات المتحدة. وعلى الجامعات أن تتعايش مع هذه الضغوط خلال السنوات الثلاث والنصف المقبلة، إلى أن يأتي رئيس جديد، وغالبا حتى إن كان من التيار اليميني فلن يكون بنفس الحدة في معاداة الجامعات، التي كانت دائما أساس التقدم المذهل في عدد من القطاعات الأمريكية.
المصدر: العمق المغربي