قُتل تسعة عشر صحفياً في باراغواي خلال ثلاثة عقود تقريباً. شهدت منطقة بيدرو خوان كاباليرو (على الحدود بين باراغواي والبرازيل) مقتل سبعة منهم، وسط انتشار واسع للجريمة والفساد والإفلات من العقاب. تابعت منظمة « قصص محظورة » (Forbidden Stories) العمل على تحقيقاتهم بالتعاون مع شركائه.
في السادس من سبتمبر 2022، لم تتلق غلوريا الاتصال الصباحي المعتاد من شقيقها هومبيرتو، بدا ذلك غريبا بالنسبة لها. ذهبت إلى عملها كالمعتاد وبعد ساعات، وأثناء استراحة العمل، لاحظت غلوريا وجود مكالمتين فائتتين من شقيقها. أرسلت له رسالة باللغة الغوارانية (اللغة الأصلية في باراغواي)، وهي تمازحه: « من تظن نفسك لتتصل بي في ساعات العمل؟ »
في كل صباح كانت غلوريا كورونيل تتلقى اتصالاً من شقيقها هومبيرتو كورونيل، يتبادلان الحديث عبر مكالمة فيديو. كان هومبيرتو يقول لها: « اتصلت فقط لأراكِ. يسعدني أن أراكِ سعيدة ».
غلوريا هي الأكبر بين تسعة أشقاء أصغرهم هومبيرتو البالغ 33 عاماً، و يعمل صحفياً في « راديو أمامباي »، وهي محطة إذاعية محلية حوارية. كانت غلوريا تشعر وكأنها أماً ثانية لشقيقها الأصغر. عاش الأشقاء في عائلة مترابطة على الحدود بين باراغواي والبرازيل، وبالتحديد في مدينة بيدرو خوان كاباليرو، أو « بيدرو خوان » كما تُعرف محلياً.
في المرة التالية التي فتحت فيها غلوريا هاتفها، أصيبت بالصدمة. كان هناك العشرات من المكالمات الفائتة من الإخوة والأقارب والأصدقاء. علمت حينها أن هومبيرتو قُتل. تقول غلوريا وهي تتذكر الحادثة: « لن أنسى ذلك التاريخ أبداً، السادس من أيلول/سبتمبر ».
قُتل هومبيرتو بثماني رصاصات وهو ينزل من مركبته أمام مقر « راديو أمامباي »، ليصبح الصحفي الثامن عشر الذي يُقتل في باراغواي منذ عام 1991. وقد عُثر على ما يقرب من نصفهم سبعة صحفيين قتلى في مدينة بيدرو خوان.
تقع بيدرو خوان على حدود برية مفتوحة مع مدينة بونتا بورا البرازيلية. ويسكنها 127 ألف نسمة، تختلط هناك الإسبانية بالبرتغالية والغوارانية، بينما تتنقل السيارات بين البلدين بحرية تامة دون حواجز أو رقابة. تُشكل المدينة نقطة محورية في شبكات التهريب بما يشمل الأسلحة والسجائر والسيارات والمخدرات من بوليفيا إلى البرازيل ومنها إلى الموانئ الأوروبية، يساعد في ذلك الموقع الاستراتيجي للمدينة.
تشكل بيدرو خوان خطراً على الصحفيين. فهم يُقتلون هناك بمعدل مشابه لما يحدث في أكابولكو بالمكسيك المعروفة بعنف العصابات، والتي غالباً ما يكون الصحفيون فيها أهدافاً مباشرة. وقد اضطر بعض الصحفيين إلى الفرار من البلاد، بينما يُجبر من يبقى على ممارسة الرقابة الذاتية.
أطلقت منظمة « قصص محظورة » مطلع عام 2024 تحالف باراغواي (Alianza Paraguay) بالشراكة مع « مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد » (OCCRP)، وخمسة شركاء آخرين في أميركا اللاتينية وأوروبا. تتمثل مهمة المنظمة في استكمال عمل الصحفيين الذين قُتلوا أو سُجنوا أو اختُطفوا بسبب عملهم. يسعى التحالف إلى مواصلة عمل الصحفيين الذين تم إسكاتهم في باراغواي، والتحقيق في كيفية تحول البلد الواقع في أميركا الجنوبية إلى منطقة خطرة على الصحافة وملاذ للأنشطة الإجرامية بكافة أشكالها بفعل الفساد وسوء الإدارة.
يعتمد تحقيقنا، الذي استمر أشهراً عدة وأُعلن عنه اليوم، على عشرات المقابلات، وتغطية ميدانية، ووثائق حصل عليها فريقنا الاستقصائي. تشير الوثائق إلى أن كبار المدعين العامين في باراغواي المسؤولين عن التحقيق في الجريمة المنظمة فشلوا في التحقيق بقضايا الإفلات من العقاب المنتشرة في البلاد. كشف التحقيق عن أن مكتب الادعاء العام تجاهل بشكل متكرر طلبات من دول مجاورة للتحقيق في أنشطة إجرامية أو تسليم مطلوبين معروفين بتورطهم في تهريب المخدرات. وفي ظل هذا الإفلات من العقاب، تقول عائلات الضحايا والمدافعون عن حقوق الصحفيين إن التحقيقات في قضايا قتل الصحفيين قد توقفت.
يقول دانتي ليغويزامون، الذي قُتل والده في بيدرو خوان، إن مكتب الادعاء العام في باراغواي فشل مراراً في الاستجابة حتى لأبسط الطلبات، مثل ترجمة الوثائق، ما يشير إلى تردده في التعامل مع القضايا المرتبطة بالجريمة المنظمة. أما الدكتور كميلو كانتينو فأكد أنه منذ مقتل شقيقته الصحفية ياميلا كانتينو في عام 2002 قرب الحدود الأرجنتينية، لم يتواصل معهم مكتب الادعاء العام في باراغواي ولو مرة واحدة، بل و فَقد الملف الورقي الخاص بالقضية، بحسب زعمه.
وفي حالة أخرى، تقول سينتيا غونزاليس إن مكتب الادعاء لم يستدعها للاستجواب لنحو عام كامل بعد اغتيال زوجها لورينسو « ليو » فيراس، الذي أُطلق عليه النار أمام عينيها في عام 2020.
في عام 2022، دانت محكمة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان الدولة الباراغوايانية لفشلها في التحقيق في اغتيال الصحفي سانتياغو ليغويزامون زافان عام 1991، وهو مراسل جريء كان يغطي الجريمة المنظمة في مدينة بيدرو خوان.
(لم يرد مكتب المدعي العام في جمهورية باراغواي على أسئلتنا, بل قدم بياناً عامًا يلخص وضع عدد من قضايا مقتل الصحفيين. كما لم ترد الشرطة الوطنية أو المدعون الحاليون أو المدعون السابقون الذين ورد ذكرهم في هذا التقرير على طلباتنا المتكررة للتعليق).
أخذنا على عاتقنا استكمال عمل فيراس وزميله كانديدو فيغيريدو رويز. كان فيغيريدو يغطي قضايا الجريمة المنظمة على الحدود لنحو ثلاثة عقود، ما تسبب بتعرضه لمحاولات اغتيال متكررة وتهديدات دائمة لحياته. لهذا السبب، حصل فيغيريدو على حماية الشرطة على مدار الساعة. كان يعمل مع فيراس على تحقيق حول تهريب الأسلحة عندما تم اغتيال فيراس. اضطر فيغيريدو إلى مغادرة البلاد حفاظاً على سلامته. تحدثت منظمة « قصص محظورة » معه من منفاه في الولايات المتحدة، وتابعت عمله في تتبع شبكات تهريب الأسلحة.
كما استكملت منظمة « قصص محظورة » وشركاؤها عمل صحفيين محليين في التحقيق في نشاط منظمة تهريب المخدرات البرازيلية المعروفة باسم « القيادة الأولى للعاصمة » (Primeiro Comando Capital PCC)، وكشفوا كيف أن مدعين عامين في باراغواي تأخروا أو رفضوا التحقيق في قضايا فساد على مستوى عالٍ، من بينها قضية رشوة مسؤولين من زعيم في المنظمة يُعرف بلقب « مينوتور ».
وأخيراً، أجرى اتحادنا تحقيقاً حول ولاليو « لالو » غوميز باتيستا، وهو سياسي باراغواياني، قُتل أثناء عملنا على التقرير، في مداهمة مفاجئة نفذتها السلطات الباراغوايانية. وبعد أشهر من الحادثة، كشف الفحص الجنائي لهاتفه عن مخطط مزعوم للتلاعب بالقضاء والتستر السياسي، تورط فيه نواب ومدعون عامون وقضاة.
يتحدث الصحفيون المحليون عن خوفهم المستمر من التغطية الصحفية على الحدود. أنيبال غوميز كاباليرو، وهو صحفي مخضرم من مدينة بيدرو خوان كاباليرو عمل إلى جانب الصحفي الراحل سانتياغو ليغويزامون. تحدث كاباليرو إلينا عن المخاطر التي تكتنف العمل الصحفي في تلك المنطقة » [أن تكون صحفيًا هنا] يشبه أن تعيش على خيط قد ينقطع في أي لحظة ».
لم يُقتل أي صحفي في باراغواي منذ عام 2023، بحسب لجنة حماية الصحفيين. ومع ذلك ما تزال المخاطر كبيرة بالنسبة للصحفيين الاستقصائيين، كما يؤكد خوسيه « بيبي » كوستا، مدير منظمة Mesa de Seguridad Para los Periodistas » وهي منظمة لحماية الصحفيين.
يقول كوستا إنه لم يتم التعرف على من يقف خلف الجريمة في نحو تسعة من كل عشرة حالات قتل صحفيين في باراغواي. وتشير الإحصاءات التي جمعتها منظمته غير الربحية إلى وقوع أكثر من 400 اعتداء على صحفيين هناك منذ عام 1991.
ويضيف كوستا في مقابلة مع « قصص محظورة »: « العمل الصحفي محفوف بالمخاطر، خاصة على الحدود مع البرازيل. عدد متزايد من الصحفيين باتوا مجبرين على العمل بحذر وفرض رقابة ذاتية على أنفسهم، لتجنب التعرض للهجوم أو الاعتداء أو التهديد. »
تحتل باراغواي حالياً المرتبة 84 من أصل 180 دولة في التصنيف السنوي لحرية الصحافة الصادر عن منظمة « مراسلون بلا حدود »، وهي مرتبة متدنية مقارنة بجارتها البرازيل والدول الأخرى في أميركا اللاتينية.
ومع ذلك، يواصل الصحفيون قول الحقيقة في وجه السلطة، رغم المخاطر الكبيرة التي يواجهونها. هذا ما تتذكره غلوريا كورونيل عن شقيقها هومبيرتو. تقول: « كان دائماً يتحدث عن الأمور غير القانونية التي كانت تحدث ». وتضيف: « كنت أحذره من أن ذلك خطر، لكنه كان يرد بأن الناس بحاجة إلى أن يعرفوا ما يجري، وأنهم بحاجة إلى معرفة الحقيقة ».
فينياس روكيرت « قصص محظورة » بالتعاون مع (مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد) OCCRP
سننشر تباعا في « اليوم 24 » القصص الثلاث ضمن مشروع « تحالف باراغواي »، الذي يحقق في كيفية تحول البلد الواقع في أميركا الجنوبية إلى منطقة خطرة على الصحافة، وملاذ للنشاطات الإجرامية بأنواعها كافة بسبب الفساد وسوء الإدارة.
المصدر: اليوم 24