للدّوْخة مفاعيل… الجزائر تقصف الإمارات بوابل من الشهداء.

الدولة في الجزائر تعتريها حالة دَوْخة استراتيجية حادّة، ولعلَّها مُزْمِنَة… حواليْها، جنوبًا وغربًا، الدوَل مُنهمِكة في النُّهوض بتحدِّيات التنمية… توَاجِهُ أسئلتَها وتتحمَّل قلَقَها، وتحفِرُ فيها ممراتٍ إلى المستقبل… دولة الجزائر، في المنطقة، الوحيدةُ المسكونة بالماضي… تُعاني أوجاعًا في الذَّاكرة، تحجُب عنها تبصُّر المستقبل… كل أساسات الدّوْلة وثقافتها مشدودة إلى أسطورة المِليون ونصف المِليون شهيد في حرب التّحرير من أجل استقلال الجزائر… وليس من أجل ما هي عليه دولةُ الجزائر اليوم وَهَب الشهداء حياتهم لها…
آخر أعراضِ حالة الدوخة الاستراتيجية للجزائر، ما أطلقته الدَّوْلة من غضْبَة “مضَرية” ضِدَّ دَوْلَة الإمارات العربية بكُلِّيَتِها… من خلال التلفزيون الرَّسمي، ليلةَ الجمعة، 2 ماي، شنَّت الجهة الرسمية الجزائرية على الإمارات العربية غارَة سُبَابٍ بمنسوبٍ عالٍ من الانفعال والوقاحة مع صرَخات من الوَلْوَلَة والوَعيد…
كان ذلك بسبب كلامٍ لمُؤَرِّخٍ جزائري في حوارٍ مع صحفية جزائرية، في برنامج بقناة “سكاي نيوز”، تعرَّض لرأيٍ مُتداوَلٍ، من بين آراء وأطاريح، في الأصول الإنْسية والتَّوْصيفات الأنتروبولوجية للهوية الجزائرية… ضمن الأسئلة المُتَّصِلة بهوِّيات شعوب شمال إفريقيا… المؤرخ كان مُنْفعِلا وهو يُردِّدُ ما هو مَعروف به من آراء، يُعارضه فيها كثيرون ويسانُده آخرون… والأمر كلُّهُ مَحصور في برنامج تلفزي بقناة… الرّجل كان على ثقة من أن ما قاله هو مجرد رأي وممارسة ثقافية… وغاب عنه أن ذلك ليس ممكنا في الدولة الجزائرية… صباح السبت، اعتُقل في الجزائر وتم تقديمه لقاضي التحقيق وهو الآن رهن الاعتقال في انتظار محاكمته بتهم سياسية قد تجر عليه أحكاما بالسجن لسنوات عديدة… ولعله سيلتقي في السجن نفسه بالكاتب بوعلام صنصال المعتقل بسبب آراء تاريخية…
غارةُ الهِجَاء الجزائري للإمارات العربية، حوَّلت كلام المؤرخ في البرنامج التلفزي إلى هجوم إماراتي على الجزائر… موَجِّهُ الغضبة الجزائرية تجاوز حدودَ اعتراض على كلام المؤرخ وعتاب أو حتى غضبة على القناة التلفزية… قصفَ الإمارات العربية “بمجامعها”، ولم يترك في هجائه مَنْفَذًا ولَوْ بَسيطا للتّفاؤل الّذي عَمّ العلاقات الجزائرية الإماراتية بعد المكالمة الهاتفية، يوم 31 مارس الماضي، بين الرئيسيْن الجزائري والإماراتي، والتي تبادلا فيها “تهاني العيد واتّفقا فيها على لقاءٍ قريبٍ بيْنهما”… تفعلُها الدوخة الاستراتيجية… العقل الموَجِّه للدّولة الجزائرية ضيَّع البوْصَلة وتراخَت فيه ألياف النّظر الواضح والدقيق، بحيث ينساق مع الانْفعال إلى حدِّ المرور من وضْع تصفير العدَّاد في العلاقات الجزائرية الإماراتية إلى تحويل مؤشِّر التوتُّر فيها من الصفر إلى 180 درجة… وها قد بدأت في حملة تجيِيشٍ للقبائل ضدّ الإمارات في مَعركة لا تعنيهم ولا تُفيدُهم…
الجزائر اليوم تستنجد بالمليون ونصف المليون شهيد للتّخفيف عليها من ضيق عُزلتها السياسية في مُحيطها الجُغرافي… ليس لديْها في واقعها من مُنْجَزات ترفع مَكانتها ولا مُؤّهِّلات جاذبة إليها… ضيّعت بصَلَفٍ لا مُبَرر سياسي له، علاقاتها، في جنوبها، والذي تعتبره “مجالا حيويا لأمنها القومي”… وحرّضَت بذلك على إنْشاء “تحالُفِ دوَل السّاحِل” النافرة منها… دوختها الاستراتيجية هذه، أجَّجت انْفعالها، وهي الآن تقفز فوْق فَشلها الديبلوماسي إلى التهديد بالقوّة العسكرية… المناورات، بالذخيرة الحية، في الجنوب الشرقي للجزائر، هي نوع من قَرْع طبول الحرب، خاصّة ضدّ مالي… وهي حربٌ إذا قاد “التشنُّج” الجزائرَ إليها ستكون حربا ضدَّ الثلاثي الإفريقي وضدّ الميلشيات الروسية هناك، ولن تقف عند حدود عملية تأديبية لمالي على تنطّعها من “الهيمنة” الجزائرية…
التحالُف الثلاثي لدول الساحل، انْتَفض ضدَّ الهيْمنة الفرنسية، وبالتبعية ضد “الحِشَرِية” الجزائرية في أوضاع البلدان الثلاثة… وهو اليوم يرى في المغرب جدارةً ريادية لقَطْرِه، بقاعدة التشارك وبغاية “الترابُح” على “الطريق الأطلسي نحو التنمية الإفريقية”… والتحالُف أصرَّ على إشهار شُكره لملك المغرب على مُبادرته الأطلسية، والتي تؤمِّن لدول التحالف الانْفِلاَت من العُزْلَة الجُغرافية ومن وَضْع الفَريسَة في التربُّص الدولي بالمنطقة وخيراتها، للعبور إلى المُحيط الأطلسي ومعه العبور إلى تنمية جماعية، تفاعلية واقعية ومستدامة…
الاستقبال الملكي، في الرباط، لوزراء خارجية تحالف دوَل الساحل، انطلاقة فعلية للمبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس في أكتوبر من سنة 2023، بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة السلمية لتحرير الأقاليم الصحراوية من الاحتلال الإسباني… موريتانيا، الواقعة جغرافيا بين المغرب ودول الساحل، هي منخرطةٌ في مَشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب، والذي لوَحده قاطرةٌ تنموية إفريقية هامّة، مَوضوعيا مؤهلة، بقيادتها الحالية المتبصرِّة بواقعية لمصالحها، للانْدِماج في “الطّريق الأطلسي للتنمية الإفريقية”، بما يُحرِّرُها من الضغط الجزائري، ويُوسِّع آفاق تطلُّعاتها التنموية…
بهذا الوضع، العزلة الجزائرية ستضيق أكثر، بحيث تتبقى لها تونس وحدها، في شرقها، تتحمَّلها ماليا وسياسيا، وفقط إلى حين، أن تعالج تونس نفسَها من الهبوط الحاد في ضغط دوْرَتها الديمقراطية وتتجاوزَ عبورها الطويل للمطبَّات السياسية…
الدولة الجزائرية هي اليومَ في حالة شرودٍ عن التحوُّلات الاستراتيجية الفاصلة التي تخترق مُحيطها الجغرافي والسياسي… وهو شرودٌ يَحول بينها وبين النظر الواقعي المُميِّز للدولة… هي اليوم في مرحلة ما بين تجديدٍ ذاتي واستمالة النُّخب إليها والتصالُح مع شعبها، وما بين المحافظة على بنيتها التقليدية، العسكرية المَبنى والمعنى، والمتوسِّلة بذاكرة حرب التحرير بالمليون ونصف المليون شهيد، وبالأناشيد الحماسية لتُديمَ المغنمَ لمن يسودُ فيها… قانون “التعبئة العامة” أو تقنين حالة الاستنفار، سيُطلق للجيش يَديْه ورجليه في البلاد ويفرض الالتحام الشعبي بالدولة، أي يحقنها بالنفَس الشعبي قَسْرًا… وهذه علامَةٌ أخرى من علامات الدوخة الاستراتيجية… لأن الالتحامَ القوي والمنتج والدائم بين الدولة وشعبها، هو ذاك الطوَعي، الواعي والَّذي حافزُه الاشتراك في إنتاج الثروة الوطنية، والانتفاع المشترك بها…
الدولة في الجزائر، تسارع الخُطى المسطرية لإقرار قانون “التعبئة العامة”، وهو اليوم في البرلمان… قدّمه وزير العدل “حافظ الأختام” السيد لطفي بوجمعة… نفس الوزير، سيُصَرِّح بأن قانونا تنظيميا سيصدر قريبا، يُلزم المتقدمين لمباريات التوظيف في القطاع العام والمصالح الشبه عمومية، يلزمهم “بشهادة سلبية تثبت عدم تعاطيهم للمخدرات والمؤثرات العقلية”… نفسُ الدولة تريد شعبَها إلى جانبها، وتنادي فيها وعيَه، وتخاطب فيه حماسه الوطني، بينما تعتبر شبابه مُدمني مُخَدِّرَات وحشيش، بالطبيعة والقطع وفي الأصل… إلى أن يتحصّل على شهادة طبية تثبت سلامته من تأثير المخدرات… ومن دوخته الطبيعية… عجبا كيف تعكس الدولة دوختها على شعبها… ولله في دُوَله شؤون.
المصدر: العمق المغربي