لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى “برينستون”
في لقاء طبعه تذكّر مناقب عالم الاجتماع والأكاديمي المغربي الراحل محمد جسوس، استقبلته، أمس الثلاثاء، كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس بالرباط، ونُظّم بشراكة جمعت شعبة علم الاجتماع بالكلية والجمعية المغربية لعلم الاجتماع، قُدّم كتاب جديد معنون بـ”محمد جسوس: من القرويين إلى برينستون… (سيرة ذاتية)”.
موسوعيٌّ رفيعُ الأخلاق
قال عبد الغني منديب، رئيس شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إنه عرف جسوسا “رئيسا لهذه الشعبة لما كنت طالبا في بداية الثمانينيات، أبهرني بموسوعيته، وتعدد اللغات التي يحاضر ويكتب ويقرأ بها، وبأخلاقه العالية، وبدفاعه عن المجتمع الحداثي الذي نصبوا إليه جميعا”، وكانت له قدرة على الإلقاء والخطابة يعجب بها أساتذة آخرون مثل عبد الكبير الخطيبي، وكان موجّها ومرشدا ومشجعا، مع طلبته مؤطَّرين وزملاء جامعيين.
وتابع: “في السنوات الأخيرة ظل يحتفظ بنشاطه وحركيته، في كل البحوث المقدمة ويعقب عليها ويتدخل؛ وما زلنا إلى اليوم نحمله في قلوبنا وذاكرتنا، وهو نموذج في الأخلاق والسلوك، ونعترف بفضله جميعا، وسنظل نحمل ذكراه وأفكاره في قلوبنا، ولا أزال أستشهد به أمام طلبتي في الكثير من المواقف”.
محمد المرجان، رئيس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، ذكر أن جسوسًا قد “ترك فراغا كبيرا على المستويين العلمي والإنساني”، وعرف فيهِ وزملاءَه “الأب والصديق والأستاذ والمرشد والموجه أيضا”، و”الرجل الذي يقع عليه الإجماع، ولا يمكن أن نختلف في حبه وتقديره”.
ثم زاد: “كان له تفاعل مثمر مع الطالب، ينتقل من الأستاذ إلى الأب، بنموذج شبه مفتقد؛ أي العلاقة الإنسانية بين الطالب والأستاذ التي ينكسر فيها الجدار الرابع بلغة المسرحيين”.
ومن بين ما يذكره الشاهد استقبال الأستاذ جسوس اختلاف طلبته بحفاوة، وتأطيره أطاريحهم بعد ذلك، بدل التنقيص من نقدهم له، لانتصاره مثلا للتحليل القطاعي بدل التحليل الطبقي في محطّة سياسية.
عبد الرحيم العطري، أستاذ علم الاجتماع، تحدث عن ضرورة العمل من أجل إعلان “تسمية كرسي باسم محمد جسوس في الموسم الجامعي المقبل؛ ينظم العديد من الندوات والملتقيات”، علما أنه من المقرر أن يسمى أول فوج يتخرّج من أول ماستر في التاريخ المغربي في تخصص الأنثروبولوجيا، سيطلق الموسم المقبل، فوج محمد جسوس.
وتابع: “أتذكر لما كنت صحافيا، أن الراحل جسوس هاتف (سنة 1999) حول مقال نشرته في علم الاجتماع، ودعاني إلى بيته، وشجعني على الاستمرار (…) ثم في مرحلة لاحقة وأنا مستشار في مؤسسة ميدي 1 تي في الإعلامية، اتصل وقال إنه يتابع التدخلات وأن علي زيارته، وكانت نصائحه: عليك أن تغْتَرِف من الثقافة الشعبية، فسَتفيدك كثيرا في حضورك الإعلامي، وعليك الحديث من قلبك لا عقلك، لأن الذين تخاطبهم يهمهم ما يقوله المجتمع المغربي لا أن تقول قال ماكس فيبر وغيره”.
ثم قال العطري: “فكر جسوس لا يزال راهنيّا، ونفس قضايا الإصلاح والتغيير التي طرحها لا تزال مطروحة، فقد مارس السياسة بنبل عميق ومتميز، ودعا إلى الانتصار للفكر والعودة للميدان. لقد كان ينتصر للسوسيولوجيا التدخلية، سوسيولوجيا الميدان، مع إيمانه بالعمل المكتبي، وهو علامة فارقة في تاريخ الفكر المغربي عموما، درّست بطريقة مختلفة، ولا تزال حية؛ فلا يزال الكثير من أحبته يحبون الانتصار له، لا انتصارا ذاتَويا، بل موضوعيا، لأنه علمهم حرفة علم الاجتماع، والتمييز بين الانتماء السياسي والعلم”.
سيرة وشهادةٌ
عمر بنعياش، معد ومنسق الكتاب، قال إن إصدار هذه السيرة يصادف الذكرى العاشرة لوفاة محمد جسوس، والذكرى الخمسين لتأسيس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، التي ترأّسها وكان مؤسسا لها مع عبد الكبير الخطيبي وعائشة بلعربي وبول باسكون وعبد الله حمودي وغيرهم.
وأضاف أن الكتاب يكتسي “أهمية خاصة”؛ لأنه يتعلق بـ”شخصية وطنية فريدة في تكوينها، ومنجزاتها، وطرق اشتغالها”، و”فاعل سياسي من نوع خاص، لم يكن فاعلا سياسيا بالمعنى المتداول بل رسولا أو بمثابة رسول السوسيولوجيا عند السياسيين، وأعطاها معنى خاصا”، كما أنه “متفرد في مساره الأكاديمي، وتعدد مصادره الثقافية الموسوعية، وهو رجل موسوعي، يعدّ مؤسسا ومنظما للدرس السوسيولوجي في المغرب، وله أثر تكوين أجيال متعاقبة كاملة”.
ثم زاد: “الساحة الفكرية والثقافية كذلك تفتقد لمثل هذه السير على أهميتها في التعرف على المسارات الفكرية والشخصية لأعضاء من النخبة، وهي سيرة تغني فرعا مهما يسمى سوسيولوجيا النخب”، وهي “حوارات لم يراجعها محمد جسوس؛ فهي مباشرة تماما، شفهية، ولو تقَيَّد بأسئلة محاوِره لا أكثر”.
وتابع قائلا: “كان يقوم مقام الواعظ والناصح والمساعد على الفهم والتفسير بالنسبة للسياسي، وكان يزن كلامه بدقة، رغم أنه كان شفهيا؛ يمارس السياسة باعتبارها “أجرا” بالمعنيين الديني والإنساني لفعل الخير دون طمع في سلطة أو جاه أو مال، وطبعا إخوانه في تجربة المجلس البلدي بالرباط يمكنهم إدلاء شهادات كثيرة عن عملهم معه كاشتراكيين في المجلس”.
وحول عنوان “من القرويين إلى برينستون” كشف معدّ الكتاب أن “جسوس لم يدرس بالقرويين؛ لكن مآله الطبيعي وشبه المحتم كان أن يكون فقيها، وهو في آخر حياته، يحتضر، طلب مني أن أتلو معه آيات قرآنية (…) فقد حفظ القرآن طفلا بالمسيد”، لكن جاءت نقلة قادته خارج مجتمعه الفاسي، وبالتالي للعنوان “قيمة رمزية: من مجتمع تقليدي مغرق في التقليدانية إلى مجتمع منفتح أشد الانفتاح”.
محمد المرجان، رئيس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، ذكر، في مداخلته أيضا، أن الجمعية تسعى إلى تخليد ذكرى الراحل جسوس بجمع الأعمال التي نشرها في مرحلة سابقة، ثم بنشر هذه السيرة الذاتية؛ التي يشرح فيها “دور السوسيولوجي في المجتمع المغربي، وكيف عليه التعامل مع القضايا ذات الحساسيات الكبرى، وحتى في سيرته الذاتية لم يتخلص من دوره كسوسيولوجي”.
وواصل: “يحلل المجتمع في نطاق العلاقات التي كان يكتسبها في تفاعله الدائم مع الأفراد والطلبة والأساتذة”، ويتحدث عن محطات، هي: “تربيته كيف تمّت في مدينةٍ عتيقة هي فاس، ثم الانتقال إلى حضارة أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية ومعرفته تحديات أخرى، ليرجع إلى المغرب ويجد أن ما تركه قد تغيرت فيه أشياء؛ وحاول الجمع بين هذه المكونات الثلاثة للوصول لنوع من التنظير السوسيولوجي لم يتخلّ عنه في سيرته الذاتية”.
ثم أردف قائلا: “لقد كان مهموما بمعرفة عمق المجتمع وقضاياه، والفئات المرشحة لقيادة مصيره مستقبلا”، و”للسيرة قيمة معرفية وأخلاقية، فلا نبحث عن أستاذ بدرجة أولى؛ بل الأخلاق المصاحبة له، فهو الآن نموذج مفتقد لارتباط وظيفة التعليم بآليات وسلوكيات معينة اليوم، ونحن نبحث في جسوس عن الجانب الإنساني في الأستاذ، ندخل داره التي كانت دارنا أيضا كطلبة، وهي علاقات لم تعد مفتوحة إلى هذه الدرجة”.
لكن، لم يعرف المتدخل “لِمَ سكت جسوس عن الحياة السياسية داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، علما أنه لعب دورا مهما جدا في الحزب، وهذا ربما يعود إلى ذكاء المحاوِر المتفادي للأسئلة المحرجة”، والمهم أنه ترك سيرة “كشفت عن جانب صغير جدا من حياته كإنسان، تجمع بين مجرى الحياة ونجاحه (…) ولو ظلت جوانب عديدة مسكوتا عنها، لعل جسوس تحاشى القول في تفاصيلها”.
وتأسف المرجان لذلك؛ لأن هذه السيرة “كان بوسعها أن تصبح مرجعا أساسيا للتحقيب لحقبة مهمة لحزب عتيد بالمغرب هو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، علما أن جسوس “قد أحس بالغبن في مرحلة معينة من حياته أنا شاهد عليها شخصيا”، ولو أنه “كان رجلا محايدا في العملية التعليمية لم يكترث نهائيا للزبونية الحزبية، بل كان يقول: “كانديرو الأجر”. ولم يكن يشتغل بمنطق التعاطف الحزبي في الجامعة”، ثم أجمل قائلا: “لم يكن رجلا بسيطا، بل رجلا فوق العادة”.
جمال فزة، أستاذ علم الاجتماع الذي لم يكوّنه جسوس، قدّم بدوره ملاحظاته على الكتاب الجديد، مع تبريره حضوره بين الطلبة السابقين لعالم الاجتماع الراحل، رغم مرضه، قائلا: “هذه ندوة تذكر بالوصل. وسمعت يوما أساتذة يقولون: يجب قتل الأب. وهو أمر وجدته غريبا، لا ينتمي إلى ثقافتنا، فقررت كلما كانت مناسبة وصل أن آتي، مهما تكن حالتي الصحية”.
ومن بين ملاحظات فزة أن هذا الكتاب “شهادة، لا سيرة ذاتية؛ فهو تجميع للحوارات. أما السيرة الذاتية فتتطلب مجهودا أكثر. هذه شهادة على العصر، وتتجاوز شهادة شخص (على مساره) إلى شهادة على المجتمع”، كما قدّم فرضية مغايرة لجواب الراحل محمد جسوس عن سبب رفض دخوله جامعة محمد الخامس من طرف العميد محمد عزيز الحبابي.
المصدر: هسبريس