صدر حديثًا ضمن منشورات أكاديمية التراث عن مطبعة اقرأ، كتاب جديد للباحث المغربي عبد الله لحسايني، تحت عنوان: “جراوة، المدينة القديمة لبركان.. دراسة تاريخية في هوية حاضرة مغربية غيّبتها الخرائط”. ويأتي هذا العمل في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى إعادة قراءة التاريخ المحلي في ضوء المعطيات الجغرافية والأنثروبولوجية، بعيدًا عن التكرار المتداول أو إسقاطات المركز.
يحاول الكاتب أن يجيب عن سؤال ظلّ يراوده لسنوات: لماذا اختفت جراوة من الخرائط؟ ولماذا لم يُعترف بها في السرديات المتداولة كجذر من جذور مدينة بركان المعاصرة؟ ومن هنا تنطلق رحلة التنقيب في هذا العمل، مستعرضًا النصوص القديمة، محايثًا للمصادر المغربية والأندلسية، متقاطعًا مع الجغرافيا واللسانيات، ومعززًا بالأسانيد التاريخية بدون أن يقع في أسر السرد الأكاديمي الجاف.
جراوة: من مدينة حاضرة إلى أثر في الذاكرة
يرى المؤلف أن مدينة جراوة لم تكن موقعًا هامشيًا كما يصورها البعض، بل كانت مركزًا مأهولًا ومؤثرًا في الشرق المغربي خلال العهد الإدريسي، بل وأحد روافد المشروع الوحدوي المغربي آنذاك، إذ لم يكن الانتماء السياسي للمشرق يحظى بذلك الزخم الذي رسّخته النماذج المركزية لاحقًا.
اعتمد لحسايني في عمله على مراجع أساسية مثل البكري وابن عذاري وابن خلدون، مع قراءة نقدية لبعض ما ورد في هذه الكتب، دون أن يغفل عن استحضار المسكوت عنه في الوثائق الاستعمارية، وفي ذلك إشارة ذكية إلى الفجوة بين المعرفة المحلية والتمثلات التي فرضها واقع ما بعد الحماية.
بين النص والمجال: أطروحة في التوطين التاريخي
ما يميز الكتاب أنه لا يكتفي بالتحقيق التاريخي، بل يُقْدم على ما يشبه “إعادة توطين” جراوة في حيزها الجغرافي الطبيعي، بالاعتماد على تقاطعات التضاريس، وتوزيع القبائل، ومسارات الماء، والعمران المتبقي من فترات مختلفة. ويذهب المؤلف إلى القول بأن ما يسمى اليوم مدينة بركان هو استمرار عمراني وزمني لجراوة، حتى وإن تغيّر الاسم وتبدلت البنى الإدارية.
ويبدو أن هدف العمل، كما يصرح الكاتب في المقدمة، ليس فقط استعادة ذكرى مدينة، بل استرجاع حقها في الحضور الثقافي والمعرفي، وردّ الاعتبار لجزء من التاريخ المغربي الذي تم طمسه لصالح روايات سياسية أو إيديولوجية.
دعوة لإعادة التفكير في الهوية المحلية
يحمل هذا الكتاب بعدًا رمزيًا يتجاوز حدود التوثيق، ليطرح سؤالًا جوهريًا عن علاقة المدن بهوياتها العميقة: هل تكفي الخرائط لتثبيت المكان أم إن الذاكرة الشعبية، والنصوص المهملة، وآثار العمران، هي من تصنع الحقيقة التاريخية؟ وهل يمكن لمدينة أن تبني نفسها دون أن تعرف من أين أتت؟
في هذا السياق، يشكل الكتاب نداءً إلى الباحثين والمؤسسات الرسمية من أجل إعادة النظر في تواريخ المدن المغربية، خصوصًا تلك الواقعة على هوامش السرد المتداول، وتوسيع دائرة الاهتمام بالمجال القروي والهامشي الذي طالما اعتُبر خارج التاريخ.
المصدر: هسبريس