هل يمكن النظر إلى الشريعة اليوم باعتبارها أفقاً يتيح إعادة قراءة تجلياتها في ضوء المعارف الحديثة للعلوم الاجتماعية؟ أليست اللحظة التي يلتقي فيها المعيار الديني بالمناهج السوسيولوجية والنفسية والأنثروبولوجية دعوةً لاكتشاف قدرته على توليد معانٍ جديدة للعدالة والحرية، وغيرها من القيم؟ وكيف يمكن للعلوم الاجتماعية أن تحافظ على موضوعيتها وهي تقترب مما يُعدّ مقدساً؟

الشريعة والعلوم الاجتماعية في حوار كوْني

مناسبةُ هذا الحديث مائدة مُستديرة مُتخصصة شهدتها أكاديمية المملكة المغربية مؤخرا حول موضوع “الشريعة اليوم: بين المعايير الإسلامية والعلوم الاجتماعية”، أطرت تصوُّرها العلمي الأستاذة أسماء المرابط بمشاركة الأساتذة: بودوان دوربيه (فرنسا)، وليون بوسكنس (هولاندا)، وعائشة الحجامي ومحمد مواقيت (المغرب)، وتميّزت أشغالها بتقديم أوراق علمية جمعَتْ بين القراءة التاريخية لمسارات التفكير في الشريعة واستحضار أسئلة الواقع الاجتماعي الراهن، وهو ما أفسح المجال لمساءلة موضوع المعايير الدينية وإمكانات الاجتهاد في ظل التحولات المتسارعة للمجتمعات. يتشكل من هذا التلاقي بين المرجعيات الإسلامية وأدوات التحليل الاجتماعي منظور يرى في الشريعة نصاً حياً ومتجدداً، ينهل من جوهره الروحي والأخلاقي، وفي الوقت نفسه يتفاعل مع المجتمع في استيعاب قيم العدالة والمساواة ورعاية الحريات وغيرها من المبادئ الإنسانية. تؤكد هذه الرؤية على أن الشريعة ليست مجرد إطار تقليدي، بقدر ما هي أفق مرن قادر على الحوار مع المتغيرات القيمية والثقافية، حيث تتيح العلوم الاجتماعية قراءة النصوص الدينية من دون أن تفقدها أبعادها الرمزية والروحية، ما يفتح المجال لإنتاج فهم متوازن يجمع بين العمق الأخلاقي والفهم الواقعي للمجتمع.

برز في هذا اللقاء العلمي بجلاء تنوّع المقاربات؛ فبين منْ أكّدَ على الشَّرعية التاريخية للشريعة بوصفها نسقاً قانونياً وأخلاقياً متماسكاً، ومن نظر إليها باعتبارها خطابا مفتوحا على إمكانات التأويل قادر على مواكبة تحولات الاجتماع المعاصر، انفتح النقاش على جدلية الماضي والحاضر وما يتيحه هذا التداخل من آفاق جديدة للتفكير في موقع الشريعة ضمن الزمن الراهن. وبهذا المعنى، تجاوز النقاش ثنائية الجمود والتجديد ليضع الشريعة في قلب المعضلة الفلسفية للمعايير: كيف تنشأ، وكيف تتحول، وكيف تستمر.

على هذا النحو، ليست الشريعة في ضوء العلوم الإسلامية مجرد مجموعة من الأحكام والفرائض، إنها نسق متكامل من القيم والمبادئ التي تنظم حياة الإنسان على الصعيدين الفردي والاجتماعي، وتعبير عن حكمة تراعي مصالح العباد، وتوازن بين الحقوق والواجبات، بين الحرية والالتزام. وفي هذا السياق، تظهر الشريعة بوصفها “علما شاملا” يستمد شرعيته من النصوص، ويفسرها الفقهاء بأساليب عقلية وتجريبية، فتتجسد في منظومة متناسقة من الأحكام التي تهدف إلى تحقيق العدالة، وصون الكرامة الإنسانية، واستقرار المجتمعات، وإرشاد النفوس نحو الخير. من هنا، تصبح دراسة الشريعة في إطار العلوم الإسلامية رحلة معرفية دقيقة، تجمع بين التأصيل الشرعي والتحليل العقلي، وتفتح أفقًا لفهم حيٍّ يتفاعل مع الواقع دون أن يفقد جوهره الروحي والأخلاقي.

من هنا، تتبدى أهمية موضوع الشريعة اليوم في كونه يتجاوز حدود النقاشات التقليدية بين الفقهاء أو المؤرخين، ليصبحَ مدار نظر فلسفي يختبر إمكانيات تجديد الفكر الإسلامي في ضوء التحولات التي يشهدها العالم المعاصر. ليس السؤال عن الشريعة في الزمن الراهن مجرد استعادة لمقولات قديمة حول النصوص ومصادرها، إنه بالأحرى بحث في معنى الشرعية نفسها داخل منظومة اجتماعية كونية تحكمها آليات جديدة: من حقوق الإنسان إلى الاقتصاد الرقمي، ومن العلوم العصبية إلى تحولات البيئة. وهذا ما يجعل الحوار بين الشريعة والعلوم الاجتماعية ضرورياً من زاوية التعايش، وإنتاج فهم جديد لمفهوم المعيار ذاته.

الشريعة، في أصلها، نسقٌ من القيم والمبَادئ والقوانين المستمدة من الوحي، ولكنها أيضاً تأويل بشري امتدّ على مدى قرون متلاحقة. أما العلوم الاجتماعية، فهي منظومات تفسيرية وتحليلية تسعى إلى فهم السلوك الإنساني في سياقاته المختلفة. وعلى هذا، يطرح الْتقاء المجالين سؤالاً جوهريا: هل يمكن اعتبار الشريعة مجرد نظام معياري ديني، أم أنَّ لها طاقة تأويلية تسمح بفتحها على مناهج السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية؟

ما من شكّ في أن العلوم الاجتماعية تسهم في كشف الطابع الإنساني لتأويل النصوص، وإبراز الأبعاد التاريخية للمواقف الفقهية، وتوضيح علاقات القوة التي شكلت معايير الشرع عبر القرون؛ فهي تعيد وضع الشريعة ضمن شبكة من العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تجعلها في حركة مستمرة، لا مجرد نص ثابت متعالٍ على الزمان. يتجلى ها هنا سؤال فلسفي ليس بالإمكان تجاوزه: إلى أي مدى يؤثر هذا التداخل بين الفقه وأصوله والعلوم المصاحبة كالحديث والعقيدة والتاريخ الإسلامي واللغة العربية في البُعد الروحي للشريعة بوصفها مرجعية دينية؟ أم أنه يفتح إمكاناً لإعادة قراءتها على نحو يزاوج بين المطلق والمتغير، بين الوحي والتاريخ، بين النص والعلم؟ أليس الأجدر أن يُنظر إلى الشريعة لا باعتبارها منظومة منغلقة، وإنما أفقا مفتوحا يُمكّنها من الانخراط في النقاشات الكبرى حول العدالة الاجتماعية، والمساواة بين الجنسين، والحريات الفردية، ومصير الإنسان في عالم يتسارع على أكثر من صعيد؟

الشريعة اليوم: أي موقع لها في زمن التحولات الكبرى؟

من هذا المنطلق، كان النقاش الذي احتضنه اللقاء حول “الشريعة اليوم: بين المعايير الإسلامية والعلوم الاجتماعية” ممتلكا في عمومه لأفق فلسفي يخصُّ معنى “المعايير” كما أشرت إلى ذلك سابقا. فإذا كان القانون الوضعي في المجتمعات الحديثة يقوم على التوافق المجتمعي والعقلنة الإجرائية، فإن الشريعة تحمل بُعداً تأسيسياً يستمد سلطته من الوحي. والتساؤل عن إمكانية الجمع بين المصدرين يعكس الرغبة في ابتكار صيغة جديدة لفهم المشترك الإنساني.

من هنا، تتجلى أهمية النظر إلى الشريعة بوصفها مشروعاً حضارياً ينظر إلى الإنسان في كليته، ويتجاوز الاقتصار على الأوامر والنواهي، وهذا خيار يتقاطع مع العلوم الاجتماعية التي تجعل من الإنسان، في تعقيداته وسياقاته، موضوعاً مركزياً لدراستها. ومع ذلك يظل التحدي قائماً: كيف نوفّق بين منطق الكلية الذي تحمله الشريعة ومنطق النسبية الذي تعتمده العلوم الاجتماعية؟

ظل هذا السؤال عالقا بذهني وأنا أتابع عروض اللقاء، لأن أغلب المشاركين اهتموا بفهم حضور الشريعة في السياق المعاصر وفق ما يتطلبه الوعي بحدودها وحدود العلوم الاجتماعية في آن. فإذا كانت الشريعة تقدم رؤية معيارية تتجاوز الواقع لتؤطره، فإن العلوم الاجتماعية تقدم فهماً للواقع كما هو، بأبعاده وتناقضاته. بهذا المعنى، يظهر أن الشريعة ليست مجرد “قانون ديني”، ذلك أنها تتجلى في العديد من الأبحاث المعاصرة بوصفها “خطابا أخلاقيا وفلسفيا” يستبطن تصورات للعدالة وللعلاقة بين الفرد والجماعة. كما أن العلوم الاجتماعية تظل مناهج وصفية حاملة لرُؤى ضمنية حول الإنسان والسلطة والحرية. لقد أشار المتدخلون إلى أن الشريعة، بما تحمله من طابع معياري في العديد من قواعدها، تظل قابلة لإعادة القراءة عبر الاجتهاد. والاجتهاد، في عمقه، ليس سوى أداة لتأويل النصوص وفق حاجات الإنسان المتغيرة. وهو بهذا المعنى يفتح الباب أمام العلوم الاجتماعية لتكون شريكاً في صياغة معايير جديدة تستجيب لرهانات الحاضر.

لقد أبرز اللقاء أن التوتر بين المعيارية الدينية والتحليل الاجتماعي لا يُختزل في صراع بين “التقليد والحداثة”، لأنه قد يكون تعبيرا عن جدلية أعمق: جدلية الإنسان الباحث عن المعنى في عالم متعدد المرجعيات. من هنا فإن حضور الشريعة في السجال العالمي حول القيم لا يمكن أن يتم إلا من خلال حوار نقدي مع العلوم التي تدرس الإنسان ومجتمعه. على أن الطابع الفلسفي لهذا النقاش يظهر في إعادة التفكير في مفهوم المعيار ذاته كما أوضحت سالفا. فالمعيار في الشريعة يرتبط بفكرة المطلق، بينما المعيار في العلوم الاجتماعية يرتبط بالنسبية التاريخية والثقافية. والبحث عن جسر بينهما هو بحث عن إمكان صياغة فلسفة مِعْيارية جديدة لا تنْفي المُطلق ولا تلغي النسبي. بهذا المعنى، يصبح موضوع الشريعة اليوم موضوعاً كونيّاً بامتياز. فالتساؤل عن إمكان التعايش بين المعايير الدينية والعلوم الاجتماعية لا يخص المسلمين وحدهم، ذلك أنه يندرج ضمن النقاش العالمي حول العلاقة بين الدين والعقل، بين الإيمان والعلم، بين القيمة والواقعة.

حضور الشريعة في النقاشات المعاصرة

أنتجت الشريعة في صورتها التاريخية منظومات قانونية ساهمت في تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية، لكنها لم تكن بمنأى عن تأثير البنى الاجتماعية نفسها. فالقانون الشرعي لم يكن مجرد تنزيل من فوق، كان تفاعلاً مستمراً مع أعراف الناس وتجاربهم. وهذا ما يجعل العلوم الاجتماعية أداة كاشفة لإمكانات القراءة الجديدة. في المقابل، تظل العلوم الاجتماعية بحاجة إلى وعي نقدي بحدودها، إذ لا يمكنها اختزال الدين في مجرد ظاهرة اجتماعية. فالدين، ومنه الشريعة، يحمل بعداً رمزياً وروحياً يتجاوز أدوات الوصف والتحليل. من هنا فإن الحوار بين الطرفين يتطلب تواضعاً متبادلاً: تواضع الفقيه أمام التاريخ، وتواضع السوسيولوجي أمام الغيْب.

من هنا يكتسي البعد الفلسفي لموضوع “الشريعة اليوم: بين المعايير الإسلامية والعلوم الاجتماعية ” أهميته، فالشريعة قانون، وتصوُّر للعالم، والعلوم الاجتماعية علم، وإطار نقدي لفهم تصورات الإنسان. لا يقتضي الأمر اليوم إقصاء طرف لصالح آخر، وإنما صياغة نمط من التَّفكير المزدوج: تفْكير ينطلقُ من النّصوص الدينية بوصفها “مرجعية للمعنى”، ومن العلوم الاجتماعية بوصفها “مرجعية للفهم”؛ وهذا النمط هو ما يمكن أن يمنح الفكر الإسلامي قدرة جديدة على التفاعل مع الحَداثة ومستجدات روح العصر. في ضوء ما سلف، يكمن التحدي الأكبر في صياغة خطاب معرفي لا يسقط في “التوفيقية السّطحية”، بقدر ما يُبلور رؤية فكرية تجعل من الشريعة والعلوم الاجتماعية حقلين متكاملين. فالتكامل لا يعني التّطابق، وإنما الاعتراف بالاختلاف وإدماجه في أفق مشترك.

وفق هذا التصور، تُطرح الشريعة اليوم باعتبارها فضاءً تأويلياً قادراً على احتضان الأسئلة الكبرى التي يثيرها العالم المعاصر. إنها بذلك أفق حواري يتيح للمجتمعات إمكانية التفاعل مع التعددية القيمية والفكرية من موقع يستند إلى مرجعياتها الخاصة دون انغلاق. وفي هذا السياق، تبدو العلوم الاجتماعية مدعوة إلى أن تتخطى دورها الوصفي لتشارك في بناء رؤية أخلاقية كونية، تتقاطع مع ما تفتحه الشريعة من إمكانات لتجديد المعنى. وعليه، فإن النقاش الراهن حول الشريعة لا ينحصر فيما يُسمى أحياناً بـ”الحداثة الإسلامية”، بقدر ما يتعلق أساساً بكيفية تمكّن المجتمعات الإسلامية من مواكبة تحولات العصر واستيعاب مكتسبات العلوم الحديثة مع الحفاظ على النواة الأخلاقية والروحية التي تمنحها خصوصيتها واستمراريتها. فكما كان الاجتهاد في الماضي وسيلة لتجديد الشريعة وتفعيلها في سياقات متغيرة، يمكن له اليوم أن ينفتح على أدوات العلوم الاجتماعية ليُنتج مقاربات جديدة تتيح للنص الديني قدرة أوسع على التفاعل مع حاجات العصر وأسئلته. غير أن هذا الأفق، على رحابته، يكشف في الآن ذاته عن حدود التوتر التي لا يمكن تجاوزها بالكامل. فبين المطلق والنسبي، بين الوحي والعلم، بين المثال والواقع، تظل هناك مسافة قائمة، لكن هذه المسافة لا ينبغي أن نتصوّرها باعتبارها عائقا معرفيا، وإنما النظر إليها بوصفها حيزا خصبا للتفكير والإبداع في سؤال القيم ومعناها داخل عالم سريع التّحول. من هنا تتجلى إمكانات بلورة مشروع حضاري متجدد يسعى إلى المزاوجة بين الإيمان والعقل، وبين البعد الغيبي والحسّ التاريخي.

الشريعة في زمن التَّسَارع

أفلا يكون اللقاء بين الشريعة والعلوم الاجتماعية هو الامتحان الأعمق لجدلية الإنسان بين الإيمان والمعرفة؟ أليس سؤال الشريعة في راهنيته سؤالا عن الكيفية التي تُصاغ بها معايير الوجود في عالم لم يعُد يعترف بالفواصل الصارمة بين المطلق والنسبي؟ أيمكن النظر إلى هذا الحوار بوصفه صراعاً بين خطابين متعارضين، وتمريناً فلسفياً على ابتكار لغة ثالثة تتَسع للمقدس والإنساني معاً؟ وهل يمكن أن يغدو الحوار بين الشريعة والعلوم الاجتماعية مختبراً فكرياً يعيد تعريف العلاقة بين النص والمجتمع، أم أن السؤال الأعمق يظل متجهاً إلى إمكان ابتكار لغة معرفية جديدة تسمح للمعايير الدينية بالانفتاح على تحولات الواقع من غير أن تفقد نواتها الروحية التي تمنحها خصوصيتها واستمراريتها؟

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

المصدر: هسبريس

شاركها.