كيف تستعد “بوليساريو” لخسارة معركة “التمثيلية الشرعية” لسكان الصحراء في المحكمة الأوربية؟
لم يكن يوم 21 آذار (مارس) الجاري يوماً سهلاً بالنسبة إلى جبهة البوليساريو الانفصالية، ذلك أن الاستنتاجات التي طرحتها المدعية العامة للمحكمة الأوربية أمام قضاتها الـ 15 بشأن اتفاقيتي الزراعة والصيد البحري المبرمتين بين الاتحاد الأوربي والمغرب، قضت مضجع الجبهة التي راهنت على كسب المعركة القانونية في المحكمة الأوربية، بعدما خسرت معركتي الاستفتاء وحقوق الإنسان في الأمم المتحدة .
ولفهم ما جرى لا بد من العودة إلى 2012 حين انطلقت المعركة القانونية الأولى في المحكمة الأوربية وتواصلت حتى 2018.
وفي 2019، تكررت المعركة القانونية نفسها، وأكدت المحكمة الأوربية صلاحية الاتفاقيتين المتعلقتين بالزراعة والصيد البحري، بيد أنها طالبت آنذاك بإدخال بعض التعديلات البسيطة عليهما حتى تتلاءما مع القوانين الأوربية. إثر ذلك دخل المغرب والاتحاد الأوربي في مباحثات توجت بتوقيع اتفاقيتين جديدتين جرى عرضهما على البرلمان الأوربي الذي صادق عليهما بالإجماع.
وبينما دخلت الاتفاقيتان الجديدتان في 2019 حيز التطبيق، توجهت جبهة البوليساريو الانفصالية كعادتها، وفي السنة ذاتها، إلى المحكمة الأوربية من جديد للطعن فيهما. وبموازاة مع ذلك تقدمت هيئة المزارعين الفرنسيين، التي يوجد في صفوفها بعض الشيوعيين والمناصرين لجبهة البوليساريو الانفصالية، بطلب إلى محكمة فرنسية لمنع دخول المنتوجات المستوردة من الأقاليم الصحراوية المغربية بسبب وضع علامات المنشأ، الأمر الذي دفع المحكمة الفرنسية إلى طرح السؤال على المحكمة الأوربية للنظر في هذه القضية، وإبداء رأيها في مدى تلاؤم اتفاقيتي الزراعة والصيد البحري مع القانون الأوربي، لا سيما في ما يخص وضع علامة المنشأ.
وجدت المحكمة الأوربية نفسها من جديد، على صعيد ابتدائي، أمام ثلاثة طعون: الأول يتعلق بالاتفاقية الزراعية والثاني يتعلق باتفاقية الصيد البحري، والثالث يتعلق باستشارة من محكمة فرنسية.
في 2021 قررت المحكمة الأوربية بشكل مفاجئ يخالف المنطق القانوني ثلاثة أشياء. أولاً، إلغاء الاتفاقية الزراعية، ثانياً، إلغاء اتفاقية الصيد البحري، ثالثاً، منحت جبهة البوليساريو الانفصالية صفة الممثل الوحيد والشرعي لسكان الصحراء .
وتبين أنه في الوقت الذي كانت الدول الأوربية والمغرب يعملان على تطوير العلاقات بينهما وصيانتها وتحصينها، مضت جبهة البوليساريو الانفصالية في مهاجمة الاتفاقيتين قانونياً من أجل تحقيق هدف أساسي هو خلخلة العلاقات الاستراتيجية المغربية الأوربية .
إن الطعون التي تقدمت بها « بوليساريو »، سواء في 2016 أم في 2019، طالبت بأن لا يشمل تطبيق الاتفاقيتين منطقة الصحراء المغربية. هذا مع العلم أن الاتفاقيتين تتعلقان فقط بمنح المنتوجات الزراعية ومنتوجات الصيد البحري القادمة من الصحراء التسعيرة الجمركية التفضيلية ذاتها التي تمنح للمنتوجات القادمة من باقي أنحاء المغرب.
بمعنى أن من ينتج الطماطم والسمك في الصحراء المغربية يستفيد من التسعيرة التفضيلية نفسها عند دخوله السوق الأوربية.
إن المنطق الذي تنطلق منه « بوليساريو »، والذي جعل ملف المغرب قوياً أمام المحكمة الأوربية، وأمام البرلمان الأوربي والدول الأوربية، هو أن الكل يتساءل: لماذا تريد « بوليساريو » حرمان المستثمرين في الصحراء المغربية من الاستفادة من التسعيرة الجمركية التفضيلية كباقي نظرائهم في باقي انحاء المملكة؟ وهو أمر يخلو من المنطق وغير إنساني وغير واقعي أيضاً.
في غضون ذلك، تقدمت المفوضية الأوربية بطعن في القرار الابتدائي للمحكمة الأوربية، مع العلم أن القضية تبقى أوربية أوربية والمغرب ليس طرفاً فيها.
صحيح أن هناك اتفاقيات بين المغرب والاتحاد الأوربي، إلا أن المغرب لا دخل له في ما يقع في ردهات المحكمة الأوربية، ومن ثم فإن الاستنتاجات التي طرحتها المدعية العامة للمحكمة، تأتي في إطار الطعن الذي تقدمت به المفوضية.
ويمكن اعتبار هذه الاستنتاجات مؤشراً إلى توجه عام عما سيصدر عن المحكمة من حكم نهائي. فالمدعية العامة عرضت عليها قراءتها للقضية، وهي قراءة جرت العادة أن يأخذ القضاة بها في غالب الأحيان .
يبقى أهم ما جاء في استنتاجات المدعية العامة هو أنها طلبت من القضاة، في مرحلة الاستئناف، إعادة النظر في ما قررته المحكمة ابتدائيا بمنح « بوليساريو » صفة « الممثل الوحيد والشرعي لسكان الصحراء »، وحجتها في ذلك، استنادا إلى القانون الدولي، هي أن « بوليساريو » لم ينتخبها سكان الأقاليم الصحراوية، إضافة إلى أنه لا يوجد في اللوائح الدولية أي قرار للأمم المتحدة يضفي صفة « الممثل الشرعي والوحيد » عليها. والأكثر من ذلك هو أن الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي لم يمنحا الجبهة الانفصالية قط صفة « حركة تحرير » .
ويظهر جلياً من استنتاج المدعية العامة أنه يعبر بصراحة عن كون المحكمة الأوربية ارتكبت خطأ في المرحلة الابتدائيةً حينما منحت « بوليساريو » صفة « الممثل الشرعي والوحيد »، وأن قرارها لا يستند إلى أي شيء في القانون الدولي. وهو ما عده المتابعون لمجريات الأمور انتصاراً كبيرا للمغرب بالنظر إلى أن « بوليساريو » اعتمدت في معاركها القانونية والسياسية على اعتبار نفسها تملك « الشرعية التمثيلية ».
إن « بوليساريو » قد تمثل طرفاً من الصحراويين الموجودين في مخيمات تندوف (جنوب غربي الجزائر). يتعلق الأمر بأقلية مقابل غالبية موجودة في المحافظات الصحراوية المغربية والتي لا علاقة لها بها ولم تصوت عليها قط، ولا يمكن بالتالي القول إن « بوليساريو » تمثلها .
لقد فشلت الجبهة الانفصالية في المعركة السياسية في الأمم المتحدة، وأصبحت مرافعاتها عن تنظيم الاستفتاء في الصحراء من التاريخ، كما فشلت في المعركة الحقوقية التي كانت تروم من خلالها توسيع صلاحية بعثة الأمم المتحدة في الصحراء « مينورسو » لتشمل قضايا حقوق الإنسان، وتجلى ذلك بوضوح في قرارات مجلس الأمن التي اعتبرت أن المكاتب الجهوية للمجلس الوطني المغربي لحقوق الإنسان تقوم بعمل إيجابي في المحافظات الصحراوية المغربية، ومن ثم لم يعد أمام الجبهة الانفصالية سوى خوض معركة قانونية لتثبيت تمثيليتها لسكان الصحراء.
ثمة مسألة مهمة شكلت نقطة تحول في استنتاجات المدعية العامة تكمن في أن هذه الأخيرة حينما طلبت من قضاة المحكمة الأوربية رفض صفة « الممثل الشرعي والوحيد »، فإنها فتحت بذلك الباب أمام ممثلين آخرين لسكان الصحراء. يتعلق الأمر بالمنتخبين الذين لعبوا دوراً أساسياً في تجديد اتفاقيتي الزراعة والصيد البحري في 2019، اذ كان رؤساء جهات الصحراء والمنتخبون يزورون البرلمان الأوربي، ويوضحون لأعضائه ما يقومون به من عمل تنموي، وما تقوم به الدولة المغربية من مجهودات في هذا المجال. هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة سجلا بإيجابية الانتخابات التي جرت في المغرب في الثامن من أيلول (سبتمبر) 2021، وأفضت إلى انتخاب أكثر من ألف منتخب في الصحراء المغربية.
إن الطرح الذي قدمته المدعية العامة يصيب جبهة البوليساريو الانفصالية في مقتل، لأنه سيجردها من سلاحها الأساسي أي ادعاء « الشرعية التمثيلية »، وسيفتح الباب أمام المكونات الأخرى للمجتمع الصحراوي المتمثلة في الشيوخ (مؤسسات تقليدية) والمنتخبين والمجتمع المدني، لمأسسة حضورهم في أي حوار سياسي يتعلق بالصحراء.
وهذا ليس من باب الصدفة، ذلك أن المدعية العامة استشهدت في استنتاجاتها بأن رؤساء الجهات شاركوا في الموائد المستديرة التي نظمها المبعوث الشخصي السابق للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء، هورست كوهلر، وتعذر على خليفته ستافان دي ميستورا تنظيمها حتى الآن.
وكما طالبت المدعية العامة من القضاة إلغاء مسألة التمثيلية لسكان الصحراء، طلبت منهم أيضاً إلغاء قرار الغاء الاتفاقية الزراعية باعتبار أنها مطابقة للقانون الأوربي، وتستجيب لمبدأ أساسي في لوائح الأمم المتحدة، بالنسبة إلى الأراضي التي لا تتمتع بحكم ذاتي، يكمن في ضرورة استفادة السكان، بمعنى أنه حينما يكون هناك إشكال سياسي حول أراض لا تتمتع بالحكم الذاتي، وفي انتظار إيجاد حل سياسي له، يجب تطوير هذه المناطق والسماح لها بالاستفادة من الاستثمار والتنمية والتجارة وغيرها من المجالات.
فالاتفاقية الزراعية تبقى مجرد رسوم جمركية تفضيلية تستفيد منها أقاليم المغرب الصحراوية مثلما تستفيد منها باقي أنحاء البلاد، وهي مفيدة للسكان لأنها تجعل المقاولات تخلق مناصب الشغل، كما تخلق تنافسية مما يكون له انعكاس إيجابي على الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
ومن هنا، أوصت المدعية العامة بإلغاء حكم المحكمة الأوربية الابتدائي والحفاظ على صلاحية الاتفاقية الزراعية بين المغرب والاتحاد الأوربي، وبذلك يتم التأكد من شرعية وصلاحية الاتفاقية الزراعية ومدى انطباقها على منطقة الصحراء المغربية .
هناك أيضا نقطة مهمة ينبغي الإشارة اليها، وتتعلق باتفاقية الصيد البحري، ذلك أن المدعية العامة طالبت بتكييفها مع القانون الأوربي. بيد أن ذلك ليس له تأثير على أرض الواقع نظرا إلى أن هذه الاتفاقية توقف العمل بها منذ منتصف ليلة الاثنين 17 تموز(يوليو) 2023 .
وصرح آنذاك كل من وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة، ورئيس المفوضية الأوربية جوزيب بوريل، بأن الرباط وبروكسيل بدأتا مباحثات لإخراج اتفاقية صيد بحري عصرية جديدة تروم تحقيق تنمية مستدامة والحفاظ على الثروات السمكية والعمل على تأقلم هذه الاتفاقية الجديدة مع المستجدات التكنولوجية .
إن الاتفاقية الموقوف العمل بها لا تعني في الحقيقة إلا إسبانيا، لأن أغلب إلبواخر التي تصطاد في الصحراء هي بواخر قادمة من ميناء بارباطي (جنوب أسبانيا). وهذا لا يعد اشكالاً لا للاتحاد الأوربي ولا للمغرب. فهذا الأخير يصدر أسماكه إلى أوربا بمقتضى الرسوم الجمركية التفضيلية، وغير معني بقرار المحكمة الأوربية. لأن المعني بقرار هذه الأخيرة هي رخص الصيد التي تعطيها الرباط للبواخر الإسبانية .
ومن يزور أسواق أوربا اليوم يجد الأسماك المغربية القادمة من جميع شواطئه متوافرة، إذ يجري تسويقها بشكل عادي .
وتبعاً لكل هذه المعطيات، إلى جانب معطيات أخرى تقنية صرفة لا مجال لذكرها هنا، وتهم المنشأ وملاءمة قانون المستهلك الأوربي، وفي انتظار أن تتوضح الأمور، ينتظر الجميع الصيف المقبل، موعد صدور القرار النهائي للمحكمة الأوربية، وهو قرار في الغالب، سيصب في خانة ما استنتجته المدعية العامة للمحكمة الأوربية من تحاليل ومعطيات.
المصدر: اليوم 24