كوكا كولا: سموم في “عبوات البهجة”.. تحقيق يكشف خفايا اللذة القاتلة

من منا لم ينسق وراء تلك الرغبة الملحة في احتساء مشروب كوكا كولا البارد، بمذاقه السكري الذي يوقظ الحواس، ولونه البني الغامق الذي يوحي “بلذة لا تقاوم”؟ إنه المشروب الذي يرافق الموائد، ويغزو رفوف المتاجر، ويرتبط في أذهان الملايين بالمتعة والانتعاش، لكن خلف هذا السحر المغرق في اللذة، تختبئ حقائق صادمة تهدد صحة المستهلكين.
تقارير وتحقيقات متزايدة تكشف عن وجود مخاطر خفية في هذه الزجاجات الفاتنة، من شظايا بلاستيكية قد تتسلل إلى أحشائك دون أن تدري، إلى مستويات مرتفعة من مادة الكلورات، التي يمكن أن تؤثر على عمل الغدة الدرقية وتضعف جهاز المناعة، بل إن المخاوف تتزايد حول احتمال احتواء بعض المنتجات على قطع معدنية، وكأن المصنع لا يكتفي بإغراق الأجساد في السكر والمواد الكيميائية، بل قد يضيف إليها عناصر تهدد سلامتها مباشرة، فما الذي تخفيه كوكا كولا عن مستهلكيها؟ وما حجم الأضرار الصحية التي يمكن أن تتسبب فيها؟
فضيحة بحجم 28 مليون زجاجة
لم يكن صباح 23 من أكتوبر المنصرم كغيره بالنسبة لعشاق مشروبات كوكاكولا في النمسا، بعد انفجار “فضيحة مدوية”، تمثلت في استدعاء ملايين الزجاجات البلاستيكية بعد اكتشاف احتمال احتوائها على قطع معدنية.
وفي بيان صادم، أعلنت شركة كوكاكولا HBC النمسا عن استدعاء عاجل 28 مليون زجاجة، بعد أن كشفت تحقيقات داخلية عن خلل تقني في خطوط الإنتاج قد يكون سمح بتسلل أجزاء معدنية دقيقة إلى بعض المنتجات، هذا الاستدعاء الذي وصفته الشركة بـ”الاحترازي”، شمل علامات تجارية شهيرة مثل سبرايت، كوكاكولا، ميزو ميكس، وفانتا، وبالتحديد الزجاجات التي تحمل تاريخ انتهاء صلاحية بين 4 فبراير و12 أبريل 2025.
وفي محاولة لتبرير “الكارثة”، صرحت كوكاكولا HBC بأن نسبة الزجاجات المتأثرة “محدودة جدا”، لكنها لم تستطع استبعاد الخطر الصحي المحتمل، ما دفعها للتوصية بعدم استهلاك هذه المنتجات نهائيا، غير أن هذا البيان الذي حاول بث الطمأنينة لم يكن كافيا لاحتواء الصدمة، خاصة أن الحديث هنا لا يدور عن مجرد خلل بسيط، بل عن احتمال ابتلاع قطع معدنية قد تعرض حياة المستهلكين للخطر.
كوكاكولا في قلب عاصفة كيميائية
ولم تكد الشركة تلملم تداعيات هذه “الفضيحة” حتى تلقت ضربة جديدة في نهاية يناير الماضي، بعد إعلانها عن سحب واسع النطاق لعدد من منتجاتها في أوروبا، وذلك بعد اكتشاف مستويات مرتفعة من مادة الكلورات، وهي مادة كيميائية ثانوية ناتجة عن استخدام الكلور في تعقيم المياه.
عملية السحب هذه لم تكن محدودة، بل شملت منتجات من علامات تجارية شهيرة مثل كوكاكولا، فانتا، سبرايت، تروبيكو، وفيوز تي، بما في ذلك النسخ الخفيفة والخالية من السكر لهذه المشروبات.
وبحسب تقارير إعلامية، فإن عمليات السحب تمت في كل من بلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا، مع الإشارة إلى أن المنتجات المخزنة في عبوات معدنية وزجاجية كانت الأكثر تأثرا.
وفي هذا الإطار أكد مسؤولو الشركة في بلجيكا أن الكميات المتضررة كانت “كبيرة”، لكنهم أوضحوا أن معظم هذه المنتجات لم يتم بيعها وتمت إزالتها من الأسواق، وفي المقابل، أكد الفرع الفرنسي للشركة أن التحليل الذي أجرته جهات مستقلة أشار إلى أن احتمال وجود خطر على المستهلكين منخفض للغاية، موضحة أن هذه التحاليل تهدف إلى ضمان سلامة المنتجات والتأكد من عدم وجود أي مخاطر صحية على المستهلكين.
خطر غير مرئي
وفي سياق تصاعد القلق العالمي حول التلوث البلاستيكي، كشفت منظمة Agir pour l’Environnement في تحقيق حديث عن وجود كميات مقلقة من الجزيئات الدقيقة والنانوية من البلاستيك داخل مشروبات كوكاكولا، كما أن الكشف عن وجود الجزيئات البلاستيكية في هذه المشروبات لم يكن مجرد صدفة، بل نتيجة تحليل دقيق شمل عدة عينات، حيث تم قياس تركيز هذه الجزيئات بعد عدد معين من فتحات الزجاجة، مما يعكس تأثير الاستخدام المتكرر على تفكك المواد البلاستيكية المكونة للعبوة.
فيما يخص كوكاكولا الأصلية، أظهر التحليل وجود 4 جزيئات دقيقة لكل لتر بعد الفتح الأول، لكن هذا الرقم ارتفع بشكل ملحوظ إلى 28 جزيئا لكل لتر بعد 10 فتحات، ليصل إلى 44 جزيئا لكل لتر بعد 20 فتحة.
الجزيئات الجزيئات المكتشفة لم تكن من نوع واحد، بل تنوعت بين ستة أنواع مختلفة، أبرزها بولي إيثيلين (PE)، بولي تيريفثاليت الإيثيلين (PET)، بولي كلوريد الفينيل (PVC)، إضافة إلى بولياميد (PA)، بولي بروبلين (PP)، وبولي يوريثين (PU)، والمثير أن وجود PVC، الذي يستخدم عادة في الأنابيب والبناء، قد تم رصده في المشروبات بعد الفتح الأول، بينما أظهرت الفتحات المتكررة تنوعا أكبر في البلاستيك الموجود داخل السائل، ما يعكس تفككا متزايدا للمكونات البلاستيكية داخل الزجاجات.
إضافة إلى الجزيئات الدقيقة، رصد التحليل أيضا وجود الجزيئات النانوية، التي يقل حجمها عن 100 نانومتر، وهي أكثر خطورة لأنها قادرة على التسلل إلى الخلايا البشرية، حيث أظهرت البيانات أن متوسط حجم هذه الجزيئات في كوكاكولا الأصلية ارتفع من 207.8 نانومتر بعد الفتح الأول إلى 518.0 نانومتر بعد 20 فتحة، وتشير هذه الزيادة إلى أن التعرض المتكرر للمشروب يزيد من احتمال تناول جزيئات نانوية ذات تأثيرات غير معروفة على الصحة البشرية.
كلما فتحت القنينة زاد الخطر
ورغم الاعتقاد السائد بأن التخزين في درجات حرارة مرتفعة قد يكون العامل الأساسي في تسرب الجزيئات البلاستيكية إلى المشروب، أظهرت الدراسة أن التأثير الأكبر كان لعدد مرات فتح الزجاجة، حيث ازدادت الجزيئات البلاستيكية مع كل فتح وإغلاق، ما يثير تساؤلات حول تصميم العبوات البلاستيكية ومدى سلامتها عند الاستخدام المتكرر.
وحسب نتائج التحقيق، كانت غالبية الجزيئات المكتشفة أصغر من 500 ميكرومتر، وهو حجم يجعلها غير مرئية للعين المجردة، لكنها كبيرة بما يكفي لتدخل إلى الجسم عبر الجهاز الهضمي، علاوة على ذلك فإن الغالبية العظمى من هذه الجزيئات، بنسبة تتراوح بين 93% و100%، كانت أقل من 100 ميكرومتر، مما يعني أنها صغيرة جدا لدرجة تجعلها قادرة على اختراق أنسجة الجسم بسهولة أكبر، لكن ما يرفع مستوى اليقظة هو أن الفتح المتكرر للزجاجات أدى إلى زيادة نسبة الجزيئات التي يقل حجمها عن 50 ميكرومتر، هذا يعني أنه كلما تم فتح الزجاجة أكثر، كلما تفتتت المزيد من الجزيئات البلاستيكية إلى أحجام أصغر.
مطالب بفتح تحقيق
الدراسة أكدت أن الجزيئات الدقيقة من البلاستيك لم تعد مجرد مشكلة بيئية بحتة، بل أصبحت تهديدا متزايدا لصحة الإنسان، إذ أن الجزيئات التي يتعرض لها الإنسان سواء عن طريق البلع، الاستنشاق، وأحيانا التلامس الجلدي، والتي تقدر سنويا بين 39,000 و52,000 جزيء دقيق، فإن رحلتها لا تتوقف عند الجهاز الهضمي أو الرئتين، بل تتمكن من اختراق الأغشية المخاطية، والانتقال إلى مجرى الدم، والتراكم في أعضاء حيوية مثل الكبد والقولون والمشيمة وحتى السائل المنوي.
ورغم أن الدراسات لم تتوصل بعد إلى إجابات قاطعة حول تأثير هذه الجزيئات على صحة الإنسان، إلا أن الأدلة المتزايدة تشير إلى وجود مخاطر أهمها التسمم الخلوي والجيني، بالإضافة إلى التسبب في الالتهابات والموت الخلوي المبرمج، مع إمكانية التسبب في الاضطرابات الإنجابية، ناهيك عن أمراض تتعلق بأمراض الجهاز الهضمي والقلب.
وبناء على هذه الاكتشافات الحصرية، قامت عملت “Agir pour l’Environnement” على بتقديم شكوى إلى الوكالة الوطنية للأمن الصحي (ANSES) وإدارة مكافحة الغش (DGCCRF) لتقوم بفتح تحقيق سريع.
كوكتيل من السموم
أحدث التقارير الصادرة عن منظمة “دافعوا عن صحتنا” (Defend Our Health) ليست هي الأخرى سوى حلقة أخرى ضمن هذا المسلسل، إذ أظهرت اختبارات مخبرية وجود مستويات قابلة للكشف من الأنتيمون، المادة السامة، في جميع زجاجات كوكاكولا التي تم تحليلها.
واختبرت منظمة “دافعوا عن صحتنا” غير الربحية 20 عينة فردية من المشروبات الشعبية المعبأة في زجاجات بلاستيكية ووجدت مستويات قابلة للكشف من مادة كيميائية سامة تسمى الأنتيمون في كل عينة، وكانت ست منها مشروبات تحمل علامة كوكاكولا، وفي اختبارات متابعة أجريت في أوائل عام 2023، تم اكتشاف الأنتيمون في جميع الزجاجات الثمانية لمشروبات كوكاكولا التي تم اختبارها.
التقرير يؤكد أن التعرض المزمن لهذه المادة يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بالسرطان، وأمراض الكبد، وأمراض القلب والسكري، والأدهى من ذلك أن الأطفال معرضون لمستويات أعلى بمرتين من تلك التي يتعرض لها البالغون، مما يجعل هذه القضية فضيحة صحية بكل المقاييس.
اكتشاف مثل هذه الملوثات ليس وليد اليوم، حيث كشفت دراسة حكومية في الهند تلوث مشروبات كوكاكولا بمواد سامة، وفقا لما نقلته الصحيفة الهندية “بيزنس ستاندرد” قبل 9 سنوات، حيث أظهرت التحاليل المخبرية وجود معادن ثقيلة مثل الأنتيمون والرصاص والكروم والكادميوم، بالإضافة إلى مركب DEHP (ثنائي 2إيثيل هكسيل الفثالات) في عينات من المشروب الغازي الشهير.
وبحسب الدراسة التي أجريت تحت إشراف مجلس الاستشارات التقنية للأدوية، تم العثور على 0.006 ملغ/لتر من الأنتيمون، و0.009 ملغ/لتر من الرصاص، و0.011 ملغ/لتر من الكادميوم، و0.026 ملغ/لتر من الكروم، و0.026 ملغ/لتر من DEHP في عينات مشروب كوكاكولا، وأشارت الدراسة إلى أن هذه الملوثات تسربت إلى المشروبات نتيجة استخدام زجاجات بلاستيكية مصنوعة من مادة البولي إيثيلين تيرفثالات (PET).
وحسب المصدر ذاته فإن تقرير صادر عن مركز العلوم والبيئة (CSE) كشف سنة 2003 أن 12 علامة تجارية من المشروبات الغازية التي تنتجها كوكاكولا تحتوي على مستويات من المبيدات الحشرية تفوق الحد المسموح به بعدة أضعاف.
كوكا كولا أمام القضاء
الأضرار شملت الجانب البيئي أيضا حيث تواجه شركة كوكاكولا إلى جانب بيبسي دعوى قضائية رفعتها مقاطعة لوس أنجلوس تتهمها بلعب دور رئيسي في أزمة التلوث البلاستيكي، والترويج لمعلومات مضللة حول قابلية إعادة تدوير عبواتها، وإخفاء التأثيرات البيئية والصحية المرتبطة باستخدام البلاستيك.
الدعوى، المرفوعة أمام المحكمة العليا للمقاطعة، تؤكد أن كوكاكولا خدعت المستهلكين بإيهامهم بأن عبواتها البلاستيكية “قابلة لإعادة التدوير”، في حين أن معظمها ينتهي في مكبات النفايات أو المحيطات، حيث تتفكك إلى جزيئات بلاستيكية دقيقة تهدد الصحة العامة.
كما واجهت شركة كوكاكولا، إلى جانب شركات أخرى دعوى قضائية بتهمة خداع المستهلكين بشأن استدامة عبواتها البلاستيكية، إذ أن المنظمة الأوروبية للمستهلكين (BEUC)، بدعم من ClientEarth وECOS، تتهم هذه الشركات بالترويج لمزاعم كاذبة حول أن عبواتها “قابلة لإعادة التدوير بنسبة 100%”، بينما الحقيقة أن البلاستيك يتحلل مع كل عملية إعادة تدوير، مما يجعله غير مستدام على المدى الطويل.
الأمر لا يتوقف حسب المصدر ذاته عند الخداع التسويقي، بل يتعداه إلى خطر صحي حقيقي، فالبلاستيك المستخدم يحتوي على مواد كيميائية سامة، مثل البيسفينولات والفثالات، التي تؤثر على الهرمونات البشرية وتسبب مشكلات صحية خطيرة، بما في ذلك السرطان واضطرابات الخصوبة.
جدير بالذكر أن كوكاكولا أعلنت عن انخفاض ملحوظ في إيراداتها خلال الربع الثالث من 2024، في ظل تأثرها بتباطؤ الأسواق الناشئة، خاصة مع حملات المقاطعة التي شنتتها العديد من الشعوب عبر العالم ضد هذا المنتج بعد دعمه للاحتلال الإسرائيلي الذي ارتكب إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني.
هذه المعطيات ساهما في تراجع الإيرادات الصافية بنسبة 1% لتصل إلى 11.9 مليار دولار، بينما شهد هامش التشغيل هبوطا حادا من 27.4% إلى 21.2%، في دلالة واضحة على تراجع الأداء، والملاحظ أيضا انخفاض الأرباح للسهم بنسبة 7%، حيث سجلت 0.66 دولار فقط، وعلى الرغم من النمو في أسواق مثل الفلبين والبرازيل واليابان، إلا أن أسواق رئيسية مثل تركيا والصين والمكسيك شهدت تباطؤًا حادًا، مما يثير تساؤلات حول استدامة استراتيجية الشركة وقدرتها على التكيف مع تحديات الأسواق العالمية المتقلبة.
المصدر: العمق المغربي