لم تعد كرة القدم مجرّد لعبة ترفيهية تُمارس على المستطيل الأخضر؛ بل أصبحت صناعة كبرى تدرّ المليارات وتُعزّز صورة الدول ومكانتها في العالم. ففوز الفريق الوطني المغربي للشباب على نظيره الفرنسي وتأهله إلى نهائي كأس العالم أمام الأرجنتين ليس إنجازا رياضيا عابرا؛ بل هو امتداد لمسار رياضي وطني يؤكد أن المغرب بات فاعلا رئيسيا في المشهد الكروي الدولي، بعد أن صنع كبار المنتخب الحدث في مونديال قطر عندما بلغوا نصف النهائي أمام فرنسا نفسها.

لقد جعل ذلك الإنجاز التاريخي من المغرب موضوعا عالميا في محركات البحث ووسائل الإعلام، حيث أصبحت كلمة “المغرب” من أكثر الكلمات تداولا على “غوغل” في تلك الفترة، دلالة على حجم الإشعاع الذي تحقق للمملكة بفضل الرياضة. واليوم، يعيد فريق الشباب كتابة الصفحة نفسها من المجد، مضيفا إلى الرصيد الوطني بُعدا جديدا من الثقة والطموح، خصوصا أن المباراة النهائية ستقام أمام الأرجنتين، بطلة العالم للكبار، في أرض أمريكا اللاتينية؛ وهو ما يمنح الحدث صدى عالميا غير مسبوق.

هذا النجاح الرياضي يعكس رؤية وطنية تعتبر الرياضة رافعة للتنمية ومجالا للاستثمار في المستقبل. فالملاعب الحديثة التي يجري إنشاؤها استعدادا لتنظيم كأس العالم 2030 بشراكة مع إسبانيا والبرتغال ليست مجرد بنيات تحتية؛ بل مشاريع استراتيجية ذات مردودية اقتصادية وسياحية كبيرة. لقد أصبحت كرة القدم اليوم إحدى أدوات “القوة الناعمة” التي تروّج لصورة البلد بأقل التكاليف، وتُسهم في تعزيز الدبلوماسية الثقافية والاقتصادية.

تشير تقارير البنك الدولي إلى أن كرة القدم تساهم بما يقارب 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام في الدول التي جعلت منها صناعة حقيقية. ففي إنجلترا مثلا، تدرّ صناعة كرة القدم أكثر من 11 مليار جنيه إسترليني سنويا وتخلق فرص عمل في الإعلام والسياحة والتسويق. أما في إسبانيا، فإن كرة القدم تمثل حوالي 1,5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بفضل أندية مثل ريال مدريد وبرشلونة التي أصبحت علامات تجارية عالمية. وفي ألمانيا، تجاوزت المداخيل الكروية ثمانية مليارات يورو سنويا بفضل التنظيم والكفاءة في التكوين؛ فيما تحوّلت البرازيل إلى أكبر مصدر للمواهب الكروية في العالم بأكثر من عشرين ألف لاعب محترف خارج البلاد يدرّون عملة صعبة على الاقتصاد الوطني. كما تعد فرنسا نموذجا في استثمار الأكاديميات الرياضية لتكوين لاعبين كبار مثل مبابي وبنزيما، وهو ما جعل كرة القدم فيها قطاعا اقتصاديا قائما بذاته.

أما المغرب، فقد خطا خطوات واسعة في هذا المجال من خلال تطوير البنيات التحتية وإنشاء أكاديمية محمد السادس لكرة القدم التي أصبحت مصنعا للمواهب، إلى جانب الاستثمار في الملاعب والمراكز الجهوية. وبعد مونديال قطر، ارتفعت القيمة السوقية للاعبين المغاربة، وأصبح المغرب قريبا من إدماج كرة القدم ضمن القطاعات المنتجة التي تساهم في النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل.

وإلى جانب بعدها الاقتصادي، أصبحت كرة القدم أيضا جسرا إنسانيا وثقافيا يربط المغرب بجاليته المنتشرة عبر العالم.

فقد اختار العديد من أبناء المهاجرين المغاربة، رغم ولادتهم في الخارج، تمثيل بلدهم الأصلي دفاعا عن رايته، إيمانا منهم بالانتماء والهوية. أسماء مثل حكيم زياش وأشرف حكيمي وإبراهيم دياز وغيرهم تجسد هذا الارتباط العميق بين الوطن وأبنائه في المهجر؛ مما جعل المنتخب المغربي مرآة حقيقية لتعددية المجتمع المغربي وتماسكه عبر القارات. هذا الرابط العاطفي والرمزي عزز صورة المغرب كبلد يحتضن أبناءه أينما وجدوا، ويمنحهم فرصة التعبير عن انتمائهم من خلال الرياضة.

إن كرة القدم، اليوم، ليست مجرد رياضة؛ بل هي مرآة لروح الشعوب، ومختبر لقدرتها على التنظيم والتنافس والابتكار.

والمغرب، من خلال ما حققه منتخبه للكبار وما يحققه شبابه اليوم، يبرهن على أن النجاح الرياضي يمكن أن يتحول إلى مشروع وطني متكامل، يجمع بين الطموح الاقتصادي والدبلوماسي والثقافي. فحين يرفع شباب المغرب الكأس، فهم لا يرفعون فقط رمزا رياضيا؛ بل يرفعون راية وطنٍ آمن بأن طريق النهضة قد يبدأ من ملعب، لكنه يمتد ليصل إلى العالم.

المصدر: هسبريس

شاركها.