كتاب يعتني بجدوى التربية على القيم
تعزز المشهد التربوي بعمل جديد جدير بالقراءة، يرى النور من خلال إصدار حديث، مطلع شهر مارس الجاري، للإعلامية والشاعرة والكاتبة المغربية رجاء قيباش، عن مطبعة وراقة بلال، فاس، والموسوم بـ”المدخل الديدكتيكي للتربية على القيم في المنظومة التربوية المغربية.. دراسة في الحصيلة والجدوى”. ويعتبر هذا العمل خامس إصدارات المؤلِّفة، التي تجمع بين الكتابة الشعرية والنثرية، حيث صدر لها على التوالي ديوان صرخة قلب محتضر (2016م)، ديوان نبض من غياهب الصمت (2018م)، ونمارق، قصة حياة (2020م)، وتباريح الوباء: أوراق سوسيولوجية (2021م).
الكتاب قيد القراءة قاربتْه الباحثة من زاوية سوسيولوجية، بحُكْم تخصصها الأكاديمي، ويمكن اعتباره ثمرة لخبرات مهنية طويلة في مجال التدريس، جاوزت فيه العقدين من الزمن، ومسار أكاديمي جامعي في مجال السوسيولوجيا والتربية، وامتلاك تجارب غنية ومتنوعة، تملكتها من خلال نشر مقالات علمية رصينة محكمة، وإسهامات ومشاركات في ندوات تُعنى بالبحث في حقول التربية.
بين دفتي الكتاب 289 صفحة، من الحجم المتوسط، موزعة على بابين؛ باب أول يضم مدخلا عاما، تطرقت فيه الباحثة للسياق العام والدواعي والمقاربة، وباب ثان خصته للإطار النظري للبحث، وفيه أربعة فصول؛ فصل للدراسات السابقة، وفصل للتأصيل النظري لمفهوم القيم في التراث السوسيولوجي، وفصل ثالث وسمته بالمنظومة القيمية والمنظومة التربوية بالمغرب أية علاقة؟ وفصل رابع أخير عنونته بالتربية على القيم ومهنة التعليم. أما الباب الثالث فمتعلق بالبحث الميداني التطبيقي، ثم خاتمة فمراجع وملاحق وفهرس.
إذا تصفحنا الكتاب وتأملناه وجدنا أن الباحثة تبنت منهجا وصفيا تحليليا لمقاربة البحث، ونلمس بشكل جلي، ونحن نقلب الصفحات، خصوبةً في التحليل، وعمقاً في التناول، وبعدا في النظر، حيث استهلت المؤلَّف بمقدمةٍ ضمنتها دعوةً صريحة، بإعادة النظر في الطرق المتبعة في المدرسة، وضرورة حتمية للانتقال من التلقين وشحن الذاكرة بالمعارف، إلى طرق جديدة ومبتكرة، واستراتيجيات من شأنها تشجيع المتعلمين على تنمية قدراتهم الذاتية، وإتاحة الفرص أمامهم للإبداع والابتكار، وصقل حسهم النقدي، وتفعيل الذكاء، وضمان انخراطهم الفاعل والجاد في مجتمع المعرفة والتواصل. وحاولت الباحثة منذ البداية الكشف عن الإشكالية، حيث جاء في الصفحة 22 أن الإشكالية الأساسية لهذا البحث ترتبط بإحدى القضايا التربوية المتجددة والمتجلية في التربية على القيم بالمؤسسات التربوية، وأن الدراسة في جوهرها ستركز أساسا على واقع التربية القيمية بالمغرب، وتسليط الضوء على دور الأستاذ في الحد من أسباب الفجوة القائمة بين منظومة القيم في الوثائق الرسمية؛ من مناهج وكتب مدرسية… وتجلياتها عند الأفراد والجماعات.
تكمن أهمية الكتاب في أنه يرصد بعين السوسيولوجي، وفق رؤية أكاديمية خبيرة، وظيفة المدرسة في إعادة إنتاج القيم المتفق عليها في العقد الاجتماعي الناظم للعلاقات بين الأفراد والجماعات. وبحسب رأي المؤلفة، فإن التبدلات والبراديغمات القيمية تؤثر بدون منازع على أساليب ونظريات وتقنيات قيام المدرسة بوظيفتها القيمية المنشودة.
يراهن الكتاب في مجمله على رصد وتتبع التطورات التي طبعت العلاقة بين منظومة القيم والمنظومة التربوية بالمغرب، والعلاقة بينهما، في استحضار واع، وتشخيص رصين ودقيق، لواقع التربية على القيم بالمغرب، وإيلاء أهمية فُضلى لدور الأستاذ الحاسم والمحوري في عملية النقل الديدكتيكي للقيم، وتنزيلها بشكل سليم غير مُخِل داخل الفصول الدراسية، والممارسات الصفية من جهة، ونقلها من جيل لآخر من جهة ثانية. وقد نبهت الباحثة إلى التحدي الجسيم الذي يواجهه الأستاذ أثناء قيامه بذلك، والمتمثل حسب رأيها في “الإشكالية القيمية” وذلك من خلال النظر إلى عمق التحولات التي يعيشها العالم بشكل عام، والمجتمع المغربي بشكل خاص.
واللافت للانتباه أن الباحثة في بسط موضوعها استندت إلى دراسات وأبحاث علمية سابقة وحديثة، ومراجع باللغتين العربية والفرنسية، ومقالات علمية رصينة، ووثائق تربوية، وتقارير ودلائل وأطر مرجعية، وآراء خبراء في التربية من خلال مقابلات علمية.. كل هذا أضفى على البحث طابع المصداقية، وسمة الموثوقية على بسط موضوعها وطرح آرائها النقدية، وهذا ملمح من ملامح الهاجس العلمي الذي يسكنها، والإخراج الأكاديمي المعهود في أعمالها، وإنجازاتها التي تتسم بالجدة والفرادة.
إن إلماع الباحثة إلى توضيح مفهوم القيم كما تبلور في التراث السوسيولوجي، والاعتكاف على دراسة طبيعة العلاقات القائمة بين المنظومة القيمية والمنظومة التربوية بالمغرب، اعتمادا على الأطر المرجعية الناظمة لها، لَينطوي على وعي منها بأهمية مساءلة التربية على القيم بالمغرب من خلال تشخيص سليم ودقيق للعلاقة بين المدارسة والممارسة، لضمان إرساء أمثل لمنظومة قيمية كفيلة ببناء مجتمع متراص ومطمئن.
من الخلاصات المتوصل إليها في هذا البحث القيّم؛ التوصل إلى شبه إجماع بين الباحثين على أن مفهوم القيم من أكثر مفاهيم العلوم الاجتماعية تعقيدا، لارتباطه بالعديد من المفاهيم الأخرى، والقيم إحدى الركائز الأساسية في الارتقاء بجودة التربية والتعليم، واليوم نحن في حاجة ماسة لمدرسة جذابة، متفردة، منفتحة متجددة، قادرة على تكوين جيل مواطن، مبدع، يفيد ويستفيد داخل مجتمعه، مزود بذخيرة قيمية لتحصين نفسه من مخاطر “الأوبئة الثقافية” و”الحروب الأخلاقية”، حسب تعبير الباحثة، التي ستواجهه في مواقف حياتية في واقعه المعيش، باعتبارها قيما ومهارات حياتية، كونها تحتوي على معايير السلوك. ومن الاستنتاجات التي توصلت إليها الباحثة أن القيم حاضرة وبشكل قوي في الإطار التربوي العام لكل المجتمعات، وأنها أساس ضمني لكل نموذج تنموي، ويبقى موضوعها مؤرقا لكل المهتمين بالمجال التربوي، ودعت إلى ضرورة تحويل الخطاب القيمي في الوثائق الرسمية إلى قناعات فكرية وممارسات سلوكية يومية في المنظومة التربوية بالمغرب، واعتماد مقاربة تشاركية لمساعدة المتعلم على الاختيار، وتجاوز العوائق، ومساعدته على معالجة المشاكل، ولن يتأتى ذلك إلا بوجود مدرس مثقف، مفكر، اجتماعي، إنساني، متواصل، وتجديد الإصلاح في رأيها يقتضي اعتماد مناهج تأخذ بعين الاعتبار التربية على القيم كرافعة أساسية للتنمية، ومدخل استراتيجي لتأهيل الرسمال البشري واللامادي، ومما لا شك فيه أن التربية القيمية بوصلة توجه الفكر والسلوك الفردي والجماعي، وهي مسؤولية مجتمع برمته بمختلف مكوناته ومؤسساته.
المصدر: هسبريس