أسفر اتفاق جديد بين الحكومة الفرنسية وبين ممثلي القوى السياسية في كاليدونيا الجديدة، وُقّع بعد مشاورات مكثفة امتدت لعشرة أيام بضواحي باريس، عن اعتماد نموذج متقدم من الحكم الذاتي داخل السيادة الفرنسية، يتضمن إنشاء جنسية محلية وصلاحيات واسعة في مجالات الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية.
ويأتي هذا الاتفاق، الذي ينتظر تضمينه خلال الأشهر المقبلة في الدستور الفرنسي بعد التصديق عليه باستفتاء محلي، في سياق إقليمي ودولي تتقاطع فيه مجموعة من القضايا ذات الصلة بتسوية النزاعات الترابية وتنظيم العلاقة بين الدولة المركزية والمجالات الجغرافية ذات الخصوصية السياسية أو الثقافية؛ وفي مقدمتها ملف الصحراء المغربية المعروض أمام مجلس الأمن منذ عقود.
يعيد الاتفاق، المُعلن في بلدة بوجيفال، طرح خيار الحكم الذاتي كصيغة تنظيمية قابلة للتطبيق في حالات النزاع، حين يتطلب الأمر الحفاظ على السيادة الوطنية من جهة، وضمان تمثيلية ديمقراطية لمطالب محلية من جهة أخرى. ومن خلال منح كاليدونيا الجديدة صلاحيات تنفيذية وتشريعية موسعة، مع إنشاء جنسية محلية موازية للجنسية الفرنسية، فإن هذا الاتفاق يكرس مقاربة تقوم على مبدأ التوافق داخل الوحدة الترابية، لا الانفصال خارجها.
هذا التصور، وإن جاء في مناخ جيوسياسي مختلف، يتماهى من حيث الجوهر مع المبادرة المغربية المقدّمة إلى الأمم المتحدة سنة 2007، والتي تقوم بدورها على منح الأقاليم الجنوبية للمملكة حكما ذاتيا موسعا في إطار السيادة المغربية، مع نقل اختصاصات تشريعية وتنفيذية وقضائية إلى مؤسسات محلية منتخبة.
وفرنسا، باعتبارها عضوا دائما في مجلس الأمن وفاعلا في ملفات ما بعد الاستعمار، تُعيد من خلال هذا الاتفاق مع كاليدونيا الجديدة التأكيد على مقاربة تعتبر الاندماج المؤسسي أولوية عند معالجة المطالب ذات البعد الانفصالي؛ وهي إشارة غير مباشرة إلى دعم نماذج التسوية التي توازن بين الخصوصية والارتباط السيادي.
ويطرح هذا التوجه الفرنسي أسئلة جديدة حول دور باريس في إعادة توجيه النقاش الدولي حول ملف الصحراء المغربية، خاصة في ظل ما يتطلبه المسار السياسي الأممي من توفير مناخ واقعي للحل، يقوم على الخيارات الممكنة وقابلية التنفيذ. كما من شأن هذه التطورات أن تساهم في بلورة بيئة سياسية دولية أكثر تقاربا مع مضمون المبادرة المغربية، خصوصا في النقاشات التي تعرف تباينا داخل بعض العواصم الأوروبية والإفريقية.
ويظهر الاتفاق بين باريس ونواميا كذلك كيف يمكن لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة وبين المجال الجغرافي المتنازع عليه أن يوفّر أرضية للاستقرار السياسي والاجتماعي، دون المساس بالبنية السيادية للدولة. كما يكتسي طابعا مرجعيا في النقاش الدبلوماسي الدولي، ويُنتظر أن يُستحضر كمثال ضمن ملفات مشابهة؛ بما في ذلك ملف الصحراء المغربية، الذي يراهن على الوصول إلى تسوية قائمة على حل سياسي متوافق عليه، يضمن الاستقرار الإقليمي ويحفظ المصالح المشتركة بين الشركاء المعنيين.
جذور التوتر
عبد الوهاب الكاين، رئيس منظمة “أفريكا ووتش”، سجل أن أرخبيل كاليدونيا الجديدة دخل، منذ شهر ماي الماضي، موجة من العنف الشديد خلّفت قتلى وعشرات الجرحى؛ ما أنذر بعودة محتملة لشبح الحرب الأهلية، في سياق انقسام بين مؤيدين للحكومة الفرنسية وآخرين يدعمون خيار الاستقلال.
ولفت الكاين الانتباه، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أن “هذه التوترات جاءت عقب تعديل دستوري لتثبيت إصلاح انتخابي يسمح بتوسيع قاعدة الناخبين؛ وهو ما قوبل برفض قوي من قبل المنادين بالانفصال عن فرنسا”.
وأضاف المتحدث عينه أن التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وصعوبة الولوج إلى المنافع والمناصب والتعليم العالي، إلى جانب موجات الهجرة غير المقننة إلى الأرخبيل على مدى عقود، شكلت عوامل مركبة لتأجيج الأزمة.
وأشار رئيس منظمة “أفريكا ووتش” إلى أن “ضعف العناية بمكون الكاناك، باعتبارهم السكان الأوائل لكاليدونيا الجديدة، ساهم في تكريس تباينات مجتمعية بين هذا المكون وبين سكان الإقليم من أصل أوروبي أو أعراق مختلطة وفدت من موجات هجرة متعددة”.
أزمة التمثيلية
أكد عبد الوهاب الكاين أن الجمهورية الفرنسية لم تفلح في تذويب تلك الاختلافات أو سد الهوة الاقتصادية الناتجة عن تهميش فئات مقابل أخرى؛ وهو ما تؤكده الإحصائيات التي تكشف تدني المؤشرات التعليمية والاجتماعية لدى شباب الكاناك بالمقارنة مع فئات سكانية أخرى.
وشدد نائب منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية على أن “مشروع مراجعة اللوائح الانتخابية، المجمدة منذ عشرين عاما، يثير مخاوف واسعة لدى ممثلي الكاناك من تراجع نفوذهم السياسي بفعل التسجيل المحتمل لعدد كبير من الوافدين الجدد”.
وسجل الفاعل الصحراوي: “هذا التباين الحاد بين الحكومات الفرنسية المتعاقبة وممثلي سكان كاليدونيا الجديدة لم يتحول إلى خطاب انفصالي جذري؛ بل غلبت لغة التوافق والحوار على الشعارات الانفعالية”، مضيفا: “السكان رفضوا في أكثر من مناسبة مشاريع التقسيم، وفضلوا المطالبة بتوسيع مجالات التدبير المحلي وهامش المناورة السياسية، في ظل النظام السياسي الفرنسي؛ وهو ما يعكس تفضيل الحلول السياسية التوافقية على حساب القراءات القانونية الجامدة المرتبطة بسياقات قديمة”.
وأبرز الكاين أن الاتفاق السياسي الموقع بين السلطات الفرنسية وبين ممثلي سكان الأرخبيل يؤسس لتنظيم مؤسساتي جديد لدولة كاليدونيا الجديدة داخل الكيان الفرنسي، مع تكريس دستوري لضمان احترام مضامينه، لافتا إلى أن “اتفاق بوجيفال يشمل إصلاحات انتخابية ومؤسساتية؛ من بينها تعديل نظام التصويت وتوزيع المقاعد داخل المجالس المحلية، وتحديد العلاقة بين مقاطعات الأرخبيل، إضافة إلى ميثاق لتعزيز المالية العامة ودعم الاقتصاد المحلي، وفق جدول زمني ينتهي مع اعتماد الدستور الجديد في فبراير 2026”.
وأكد نائب منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية أن نجاح هذا الاتفاق لم يكن ليتم لولا توفر إرادة سياسية قوية لدى مختلف الأطراف، وانخراط الفاعلين المدنيين والسياسيين في صياغة حل يراعي الاستقرار والتنمية وحقوق الإنسان، دون اللجوء إلى خيار الانفصال أو تفكيك المشترك الوطني، مسجلا أن “هذا المسار يعكس قناعة متبادلة بحتمية التعايش داخل إطار سياسي جامع، يستوعب التنوع ويوفر أفقا جديدا لتجاوز الصراعات القديمة”.
وعن نجاح التجربة، أكد الكاين أن النموذج الكاليدوني يعكس أيضا تمسك الأطراف المحلية باستقلالية القرار في تدبير نزاع داخلي شائك، بعيدا عن أي ارتهان لقوى أجنبية أو استقواء بها، مذكرا بأن جميع الفرقاء السياسيين قد عبروا عن حرصهم على حماية مصالح السكان المحليين، دون التفريط في خصوصية التجربة أو السماح لأي طرف خارجي بإعادة تشكيل تاريخ الأرخبيل بمعزل عن أبنائه”.
كما اعتبر الكاين أن تجربة كاليدونيا الجديدة تثير تساؤلات مشروعة حول استعداد قادة جبهة “البوليساريو” لاستيعاب دروس هذا المسار التفاوضي، وما يتطلبه من شجاعة في البحث عن حلول جذرية، بعيدا عن التمترس خلف أنظمة فقدت كل مصداقية سياسية، ولم تجد في البوليساريو سوى أداة لتنفيذ أجنداتها.
وشدد على أن “الاتفاق الفرنسي الكاليدوني يشكل فرصة للتفكير في أسباب تعثر النقاش السياسي حول الصحراء المغربية، رغم العرض المغربي الجاد بتمكين الساكنة من حكم ذاتي موسع في إطار السيادة الوطنية”.
وفي هذا السياق، يرى نائب منسقة تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية أن الاتفاق الأخير يفتح الباب لمراجعة التصورات الجامدة بشأن النزاعات الإقليمية، بما يتيح البحث عن حلول تقوم على احترام التعدد والتدبير الذاتي والاندماج السيادي، بدل الانغلاق في مفاهيم متجاوزة عن شرعية التمثيل الواحد ومشاريع التجزئة، التي لم تثبت نجاعتها في ضمان مصالح السكان أو تحقيق التنمية والاستقرار في محيطهم الإقليمي.
تقارب رؤى
قال ددي بيبوط، الباحث في التاريخ المعاصر والحديث، إن تتبع مسارات تسوية النزاعات، سواء كانت مسلحة أم سلمية، يُبرز أن تثبيت شروط الاستقرار والأمن والتعايش السلمي بين مختلف الفرقاء كان دائما ثمرة لمسار سياسي تفاوضي، استطاع من خلاله الأطراف إيصال أصوات من ينوبون عنهم بجرأة ووضوح، دون الحاجة إلى وسطاء، وبناء على تواصل مباشر مع قواعدهم الاجتماعية بهدف تشكيل قناعات تؤسس لحلول قابلة للتطبيق.
وأضاف بيبوط، في تصريح لهسبريس، أن الاتفاق السياسي الموقع بين ممثلي الجمهورية الفرنسية وبين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني في كاليدونيا الجديدة يُفهم في إطار رغبة متبادلة لتقريب وجهات النظر، بدل التشبث بالمواقف الأحادية؛ وهو ما ساهم، حسب تعبيره، في تضييق زاوية الخلاف لصالح اتفاق شامل، رغم ما قد ينطوي عليه من أثمان سياسية واقتصادية في إطار استمرار السيادة الفرنسية.
واعتبر الباحث في التاريخ المعاصر والحديث أن هذا الاتفاق يُشكّل ابتكارا في مسار القانون الدولي وطرق فض النزاعات بالتاريخ المعاصر، لما ينطوي عليه من تنازلات متبادلة مكّنت من الوصول إلى حل نهائي ينهي توترات متواصلة لعقود. كما يستند هذا الحل إلى نظام سياسي يضم صلاحيات واسعة في الخارجية والدفاع والأمن، وإقرار ثنائية الجنسية الفرنسية والكاليدونية، إلى جانب ميثاق للقيم يجمع بين المبادئ الجمهورية الفرنسية وقيم مجتمع الكاناك كمرجعية ثقافية محلية.
وبالمقارنة مع مسار البحث عن حل سياسي لقضية الصحراء المغربية، أكد بيبوط أن “التفاوض المفضي إلى حل عملي يستجيب لتطلعات الساكنة يشكل نموذجا متقدما في تدبير النزاعات، سواء كانت دولية أم داخلية، ويُجنّب المجتمعات ويلات الحروب ويخلق شروطا للعيش الكريم والتنمية المستدامة”.
واستدرك المتحدث ذاته بأن المقارنة بين ما جرى في بوجيفال بضواحي باريس وما شهدته لقاءات ومبادرات الأمم المتحدة حول الصحراء المغربية يجب أن تتم باستحضار السياقات المختلفة ومدى توفر إرادة الأطراف لحل نهائي ينهي حالة التشرذم التي تقوّض كرامة السكان وتحرمهم من شروط العيش الكريم.
وأبرز الخبير السياسي أن قضية الصحراء المغربية أصبحت رهينة لإرادات خارجية ليست أطرافا أصيلة في النزاع؛ لكنها تسعى إلى تقاسم النفوذ، في مقابل طرف مغربي سعى، منذ خمسينيات القرن الماضي، إلى استكمال وحدته الترابية تدريجيا.
ولفت ددي بيبوط إلى أن “هذا الوضع أدى إلى تعقيد الحل وإبقاء آلاف الصحراويين في مخيمات تفتقر إلى وضع قانوني واضح أو حماية دولية حقيقية، وسط ظروف صعبة في صحراء لحمادة”.
بيبوط قال أيضا إن مشاريع التقسيم التي تبنتها أنظمة، مثل نظام القذافي في ليبيا والجزائر، ذات الخلفية العسكرية ساهمت في بروز جبهة “البوليساريو” إقليميا ودوليا، في إطار محاولات متكررة لتقسيم المغرب وإضعاف استقراره، عبر توظيف قراءات متصلبة للقرار الأممي 1514، بما يتناقض مع سياق إنهاء الاستعمار، ويكرس ازدواجية المعايير في حالات مماثلة، كملف منطقة القبايل.
وواصل الباحث في التاريخ المعاصر والحديث تصريحه قائلا إن المغرب اعتمد، في مواجهة هذه التعقيدات، مسارا تدريجيا وواقعيا لحل أزماته الترابية، عبر توقيع اتفاقات ثنائية، في ظل صعوبة مواجهة المصالح الاستعمارية دفعة واحدة. وقد عبّرت المملكة، منذ البداية، عن استعدادها للتوصل إلى حل يضمن مصالح المواطنين الصحراويين، لولا تدخل أطراف خارجية تسعى إلى تقويض الاستقرار الذي تحقق على أرض الواقع.
واعتبر ددي بيبوط أن مقترح الحكم الذاتي المغربي لا يختلف في جوهره عن الاتفاق بين فرنسا وبين كاليدونيا الجديدة، من حيث النوايا السياسية والإرادة المشتركة؛ غير أن الفارق يكمن في تحرّر الحالة الكاليدونية من التأثيرات الخارجية، ما أتاح للسكان التعبير عن اختياراتهم في إطار مؤسساتي واضح، بينما لا يزال سكان الأقاليم الصحراوية عرضة لمحاولات الاستغلال والاختراق.
وشدد الباحث، في ختام حديثه لهسبريس، على أن إنهاء النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية يستوجب إرادة دولية لحسم التدخلات الهادفة إلى تقسيم الدول واستغلال الشعوب، مسجلا أن “الاتفاق الفرنسي الكاليدوني يمكن أن يشكل محفزا لدول أخرى لدعم المبادرات السياسية الواقعية، التي تضع الاستقرار والسلم في مقدمة الأولويات وتُعلي من شأن الوحدة الترابية مهما بلغت حدة الخلافات”.
المصدر: هسبريس