مقاربة قيمية لتدريس التربية البيئية بالتعليم الثانوي بالمغرب
تمثل قيمة الإحسان إحدى القيم الكبرى في المنظومة القرآنية، وقد اكتسبت مركزية خاصة في تشكيل علاقة الإنسان بالعالم من حوله باعتبارها تجسيدا لأحد المقاصد العليا الحاكمة في الشريعة الإسلامية وهو مقصد العمران المادي، بما في ذلك البيئة الطبيعية التي يعيش فيها، فالإحسان كما يقدمه القرآن ليس قيمة تعبدية فحسب، بل مبدأ شامل يميز سلوك الإنسان إزاء الكون في إطار الاستخلاف والعمارة، ويعبر عن وعي أخلاقي يتجاوز الحدّ الأدنى من الواجب إلى أفق العناية والرعاية والمسؤولية، وهذا يتجلى في آيات كثيرة تؤكد ضرورة الإصلاح وحفظ التوازن واجتناب الإفساد في الأرض، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ) (الأعراف:56)، وهي آية تعد إطاراً كلياً يمكن أن تُستنبط منه مبادئ تربوية بيئية مهمة.
وقد ساهمت مؤلفات العديد من الباحثين والمفكرين المسلمين في بلورة منظور يجمع بين القيم والمنهج المعرفي وصولا للممارسة التربوية، وهو ما يظهر في أعمال إسماعيل راجي الفاروقي حول أسلمة المعرفة وربطها بالمقاصد العمرانية للإنسان (الفاروقي، 1982)، وكذلك في الأطروحات التربوية لسيد محمد نقيب العطاس التي أكدت مركزية الرؤية الكونية الإسلامية في توجيه السلوك الإنساني نحو التوازن والإصلاح (العطاس، 1991)، وكذا كتب حسين الخشن (الإسلام والبيئة خطوات نحو فقه بيئي، 2004) و أحمد عبد الرحيم السايح (قضايا البيئة من منظور إسلامي، 2004) وعبد الله محمد السيحبانى (أحكام البيئة فى الفقه الإسلامى، 2017 ) وغيرهم ، حيث يتيح هذا الأساس الفكري فهماً أعمق لقيمة الإحسان بوصفها أصلاً من أصول السلوك التربوي البيئي ومسؤولية الإنسان تجاه الطبيعة.
أما على مستوى المدرسة المغربية، فتُعد التربية البيئية أحد المجالات التي أصبحت مرتبطة عضوياً بتدريس علوم الحياة والأرض، خاصة بعد صدور الإطار المرجعي للتربية البيئية والتنمية المستدامة (وزارة التربية الوطنية، 2014 ) فقد أكد هذا الإطار ضرورة الانتقال من المعرفة البيئية إلى السلوك البيئي المسؤول، وهو ما يتوافق مع النتائج التي توصلت إليها أدبيات التربية البيئية الحديثة التي ترى أن المعرفة ليست كافية وحدها لتغيير السلوك، بل تحتاج إلى قيم دافعة ومهارات عملية (Hungerford & Volk, 1990; Sterling, 2001). لذلك، يأتي إدماج قيمة الإحسان باعتبارها قيمة ناظمة للسلوك البيئي، وكفيلة بتحويل المعرفة العلمية إلى التزام عملي.
إن درس علوم الحياة والأرض في التعليم الثانوي المغربي يتضمن موضوعات تتعلق بالأنظمة البيئية والتوازنات الطبيعية والتغيرات المناخية وتدبير الموارد والتلوث، وكلها موضوعات تهيئ إطاراً مناسباً لبناء وعي بيئي يدمج البعد العلمي بالقيمة الأخلاقية. ويمكن للمدرس، في هذا السياق، أن يعتمد على المقاربة السلوكية باعتبار الإحسان قيمة موجة للسلوك في ربط الظواهر الطبيعية بمقاصد العمران المادي والحفاظ على التوازن البيئي، مما يجعل المتعلم يدرك أن البيئة ليست مجرد موضوع معرفي، بل هي مجال لممارسة القيم والأخلاق.
وقد أكدت دراسات السلوك البيئي للمتعلم أن التغيير الحقيقي للسلوك يستلزم تفاعلاً بين المعرفة والمهارة والدافعية القيمية (Kollmuss & Agyeman, 2002). وهذا ينسجم مع فكرة الإحسان باعتباره قيمة تحفّز الإنسان على الارتقاء بأدائه البيئي من مستوى الواجب إلى مستوى العناية، وهي مقاربة تتجاوز رد الفعل إلى المبادرة، وهنا يصبح درس العلوم مجالاً تربوياً يسمح بتكوين المتعلم القادر على اتخاذ قرارات مسؤولة في حياته اليومية، كترشيد استهلاك الماء والطاقة، واحترام المساحات الخضراء، وتقليل النفايات، والمشاركة في الأنشطة البيئية المدرسية.
ويظهر أثر الإحسان بصورة أوضح حين تدمج المدرسة تعلم البيئة بالأنشطة العملية، مثل المشاريع البيئية، والدراسات الميدانية، والبرامج التفاعلية التي تجعل المتعلم يعيش التجربة البيئية لا أن يتلقاها نظرياً، فالتربية البيئية التي تعتمد على المشاركة الفعلية تُحدث أثراً إيجابياً أكبر مما يحدثه التعليم النظري وحده، كما تشير إليه دراسات برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP, 2019).، لكن للأسف في الغالب لا تتوفر هذه الفرص في التعليم العمومي بسبب الإكراهات المعروفة من نقص في التمويل واكتظاظ في الأقسام وعراقيل إدراية.
إنّ تفعيل قيمة الإحسان داخل الدرس العلمي يسمح ببناء علاقة جديدة بين المتعلم والبيئة تقوم على الوعي والاستشعار والمسؤولية، وهذا البناء القيمي هو الذي يحوّل المعرفة إلى سلوك. ومن ثَمّ، يغدو درس علوم الحياة والأرض وسيلة لتخريج متعلمين قادرين على ممارسة المواطنة البيئية، وهي مواطنة لا تقتصر على الامتثال للقانون، بل تنبع من اقتناع داخلي بأن حماية البيئة جزء من هويتهم الأخلاقية.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إنّ إدماج قيمة الإحسان في التربية البيئية يشكل مشروعاً تربوياً ينسجم مع المرجعية القيمية للمجتمع المغربي، ويتوافق مع الاتجاهات العالمية في التعليم من أجل التنمية المستدامة، ولعل هذا التكامل بين المرجعية القيمية الإسلامية والمقاربات التربوية الحديثة يشكل إحدى نقاط القوة التي يمكن أن تدعم المدرسة المغربية في مسارها نحو بناء جيل واعٍ، يمتلك القدرة على التعامل الإيجابي مع التحديات البيئية، ويجسد الإحسان في سلوك يومي مسؤول.
* عبد الحي الصالح أستاذ وباحث في التربية والقيم
المراجع
وزارة التربية الوطنية. (2014). الإطار المرجعي للتربية على البيئة والتنمية المستدامة. الرباط: المملكة المغربية.
العطاس، سيد محمد نقيب (1991). مفهوم التربية في الإسلام: إطار لفلسفة تربوية إسلامية. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
الفاروقي، إسماعيل راجي (1982). أسلمة المعرفة. المعهد العالمي للفكر الإسلامي
Hungerford, H., & Volk, T. (1990). Changing Learner Behavior Through Environmental Education. Journal of Environmental Education.
Kollmuss, A., & Agyeman, J. (2002). Mind the Gap. Environmental Education Research.
Sterling, S. (2001). Sustainable Education: Revisioning Learning and Change. Green Books.
برنامج الأمم المتحدة للبيئة (2019). التقرير العالمي للبيئة 6.
المصدر: العمق المغربي
