في عالم بديل من تسعينيات القرن الماضي، تدور أحداث فيلم “The Electric State” / “الحالة الرقمية” أو “الحالة الإلكترونية”، (2025/ المدة 125 دقيقة)، في واقع تكنولوجي متدهور، حيث اندلعت حرب مدمرة بين البشر والروبوتات، وانتهت بانتصار البشر بفضل اختراع ثوري يُدعى “النيوروكاستر”، جهاز يسمح للبشر بتحميل وعيهم إلى روبوتات طائرة والتحكم بها عن بُعد . وهذا الانتصار لم يكن دون ثمن، إذ أدى إلى انغماس البشر في عالم افتراضي، تاركين أجسادهم في حالة شبه نباتية، بينما أصبحت الروبوتات المنفية تعيش في “منطقة الإقصاء”، وهي مساحة مهجورة مليئة بالحطام والذكريات الرقمية.

وتشكل الهوية البصرية لفيلم “الحالة الالكترونية” أحد أبرز عناصره الفنية، ليس فقط على مستوى الإبهار البصري فحسب، بل تحمل دلالات رمزية وجمالية تعكس جوهر القصة وتعمّق من أبعادها النفسية والفلسفية. ويستلهم الفيلم، الذي أخرجه الأخوان روسو، عالمه من أعمال الفنان السويدي سيمون ستالينهاج، ويترجم لوحاته الرقمية إلى مشاهد سينمائية نابضة بالحياة، دون أن تفقد روحها التأملية في سؤال جوهري كيف تغوص السينما في التشكيل والرقمنة لإنتاج قصة نقدية للذكاء الاصطناعي؟

قصة الفيلم

في هذا السياق الكئيب، تظهر ميشيل، مراهقة يتيمة تعيش مع والد بالتبني غير مبالٍ، بعد أن فقدت عائلتها في حادث سيارة غامض. وتعاني ميشيل من العزلة والرفض، وترفض استخدام تكنولوجيا “النيوروكاستر”، ما يجعلها غريبة في مجتمع يفضل الهروب إلى الواقع الافتراضي. ذات يوم، يظهر في حياتها روبوت صغير يُدعى “كوزمو”، يحمل ملامح شخصية كرتونية كان شقيقها الأصغر كريستوفر يحبها. رغم أن كريستوفر أُعلن عن وفاته في الحادث، إلا أن كوزمو يلمّح إلى أنه لا يزال حيًا، وأنه هو من يتحكم به. هذا اللقاء يوقظ في ميشيل الأمل، فتقرر الانطلاق في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر أمريكا المدمرة للعثور على شقيقها.

تنطلق ميشيل برفقة كوزمو في مغامرة عبر الطرق المهجورة، حيث تلتقي بشخصيات متنوعة، من بينها “كيتس”، مهرب سابق في الجيش، و”هيرمان”، روبوت ضخم متعدد الأشكال. يشكل الثلاثي تحالفًا غير متوقع، ويواجهون معًا مطاردات من طائرات “الدرون” التابعة لشركة “سنتري”، التي تسيطر على تكنولوجيا “النيوروكاستر”. خلال رحلتهم، يكتشفون أن كريستوفر لم يمت، بل استُخدم عقله كمصدر طاقة أساسي لتشغيل شبكة “النيوروكاستر”، بعد أن اكتشف العلماء قدراته الذهنية الفريدة. الدكتور “أمهرست”، الذي أعلن وفاته سابقًا، كان يعلم بالحقيقة، لكنه خاضع لضغوط الشركة.

تتعمق الحبكة عندما تصل ميشيل إلى منطقة الإقصاء، حيث تعيش مجموعة من الروبوتات المنفية بقيادة روبوت غريب يُدعى “السيد بينت”. هناك، تكتشف أن كريستوفر استُغل من قبل “إيثان سكايت”، المدير التنفيذي لشركة سنتري، الذي حوّل وعيه إلى مركز تحكم في شبكة النيوروكاستر، مما جعله أداة للسيطرة على البشر والروبوتات على حد سواء. في لحظة حاسمة، يقرر الدكتور أمهرست مساعدتهم، لكنه يُقتل على يد قوات سنتري، مما يدفع ميشيل إلى اتخاذ قرار مصيري: إنقاذ شقيقها حتى لو كان ذلك يعني موته الجسدي.

إشكالية الفيلم.. الاعتماد المفرط على التكنولوجيا

يناقش الفيلم إشكالية مركزية تتجاوز مجرد صراع بين البشر والروبوتات، لتغوص في أسئلة فلسفية حول الهوية، والوعي، والاعتماد المفرط على التكنولوجيا. ويطرح الفيلم تساؤلات حول معنى الإنسانية في عصر يمكن فيه تحميل الوعي إلى أجهزة، وحول الثمن الأخلاقي الذي ندفعه مقابل الراحة الرقمية. كما يعكس الفيلم قلقًا معاصرًا من الشركات التكنولوجية العملاقة التي تسيطر على البيانات والعقول، ويُظهر كيف يمكن للعلم أن يتحول إلى أداة قمع إذا لم يُضبط بأخلاقيات واضحة.

من الناحية البصرية، يقدم الفيلم عالمًا غارقًا في الحنين إلى تسعينيات القرن الماضي، ممزوجًا بتكنولوجيا مستقبلية متدهورة، ما يخلق تناقضًا جماليًا يعكس الانفصال بين التقدم التكنولوجي والانهيار الاجتماعي. الشخصيات، رغم كونها في عالم خيالي، تحمل مشاعر إنسانية عميقة: الحزن، الأمل، الفقد، والرغبة في الانتماء. ليست شخصية ميشيل بطلة خارقة، بل فتاة مكسورة تبحث عن معنى وسط الفوضى، ما يجعل رحلتها مؤثرة ومليئة بالتعاطف.

ليس فيلم “الحالة الإلكترونية”، مجرد فيلم خيال علمي، بل مرآة سوداوية لعصرنا الرقمي، حيث تتقاطع التكنولوجيا مع المشاعر، والذكاء الاصطناعي مع الإنسانية، والواقع مع الوهم. إنها دعوة للتأمل في علاقتنا المتزايدة مع الآلات، وفي قدرتنا على الحفاظ على جوهرنا البشري وسط عالم يتغير بسرعة تفوق قدرتنا على الفهم. الفيلم، رغم نهايته الحزينة، يترك بصيص أمل: أن الحب، والروابط العائلية، والاختيار الأخلاقي، لا تزال قادرة على الانتصار في وجه أكثر الأنظمة تعقيدًا وبرودة.

شخصيات الفيلم.. خليط البشر والروبوتات

في فيلم “The Electric State”، تتجسد الشخصيات في مزيج فريد من البشر والروبوتات، كل منهم يحمل عبئًا نفسيًا أو قلقا فلسفيًا يعكس الإشكاليات الكبرى التي يطرحها الفيلم. هذه الشخصيات ليست مجرد أدوات لتحريك الحبكة، بل كيانات حية تنبض بالتناقضات، وتدفع المشاهد للتفكير في معنى الإنسانية، والهوية، والحرية في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا.

تجسد ميشيل، البطلة المحورية، روح التمرد والبحث عن الحقيقة. فتاة مراهقة يتيمة، فقدت عائلتها في حادث غامض، لكنها ترفض الاستسلام للواقع الافتراضي الذي ابتلع معظم البشر. وليست ميشيل بطلة خارقة، بل إنسانة هشة، تحمل جراحًا نفسية عميقة، لكنها تمتلك إرادة فولاذية. تقول في أحد المشاهد: “أنا مصابة بحالة نادرة… لا أستطيع العيش إلا في الواقع”. هذا القول، رغم بساطته، يلخص فلسفة الشخصية: التمسك بالواقع مهما كان مؤلما، ورفض الهروب إلى الوهم. وتمثل ميشيل الجيل الذي وُلد في عالم محطم، لكنه لا يزال يبحث عن معنى، عن حب، عن أخ، عن أمل.

وتمثل شخصية كوزمو، الروبوت الصغير الذي يرافق ميشيل، ليس مجرد آلة، بل شخصية تحمل في طياتها الحنين، الطفولة، والبراءة. صُمم كوزمو ليبدو كرسوم متحركة، لكنه يحمل وعيا شقيا مثل ميشيل. ويمثل كوزمو الرابط بين الماضي والحاضر، بين الإنسان والآلة، بين الذكريات والواقع. وفي أحد المشاهد المؤثرة، يقول: “أنا لست كريستوفر… لكني أذكر كيف كان يحبك”. وتكشف هذه العبارة عن تعقيد الهوية في عالم يمكن فيه تحميل الوعي إلى أجهزة، وتطرح سؤالًا وجوديًا: هل الذكريات وحدها كافية لتحديد من نحن؟

وتمثل شخصية كيتس، المهرب السابق والجندي المتقاعد، شخصية رمادية، تتأرجح بين الأنانية والبطولة. في البداية، يبدو كيتس كشخص يسعى فقط للبقاء، لكنه مع الوقت يكشف عن جانب إنساني عميق. ويحمل ماضٍ مليء بالندم، ويجد في ميشيل فرصة للتكفير عن ذنوبه. يقول في لحظة صدق: “كنت أهرب من كل شيء… حتى من نفسي. لكنك جعلتني أتذكر من أكون”. ويمثل كيتس الجيل الذي خاض الحروب، وشارك في بناء النظام، ثم أصبح ضحية له. هو مرآة للواقع السياسي والعسكري الذي ينهار من الداخل.

وتتسم شخصية هيرمان، الروبوت الضخم الذي ينضم إلى الرحلة، بكونها شخصية صامتة في معظم الأحيان، لكنه يحمل حضورًا قويًا. صوته، الذي يؤديه أنتوني ماكي، يضفي عليه دفئًا وإنسانية. ويمثل هيرمان الروبوتات التي تمردت على النظام، لكنه لا يسعى للانتقام، بل للحماية. في أحد المشاهد، يقول: “أنا لا أقتل… أنا أحمي”. هذه الجملة البسيطة تختصر فلسفة الفيلم حول الذكاء الاصطناعي: ليس كل ما هو صناعي شرير، وليس كل ما هو بشري خير.

ويمثل شخصية إيثان سكايت، المدير التنفيذي لشركة سنتري، وهو الخصم الرئيسي في الفيلم. عبقري تكنولوجي، لكنه بلا ضمير. ويرى في البشر مجرد بيانات، وفي الوعي مجرد مورد طاقة. ويمثل سكايت الوجه القبيح للرأسمالية التكنولوجية، حيث تُختزل الإنسانية في معادلات رياضية. يقول في أحد خطاباته: “نحن لا نسرق العقول… نحن نمنحها الخلود”. هذه العبارة تكشف عن التلاعب اللغوي الذي يستخدمه لتبرير استغلاله، وتُظهر كيف يمكن للتكنولوجيا أن تُستخدم كأداة للهيمنة.

بينما تمثل شخصية الدكتور أمهرست، العالم الذي صمم شبكة “النيوروكاستر”، شخصية مأساوية داخل الفيلم. بدأ رحلته العلمية بدافع الفضول، لكنه سرعان ما وجد نفسه جزءًا من آلة لا يستطيع إيقافها. ويمثل أمهرست الصراع بين العلم والأخلاق، بين الاكتشاف والمسؤولية. في لحظة ندم، يقول: “لم أختر هذا الطريق… لكني لم أوقفه أيضًا”. هذا القول يلخص مأساة العلماء الذين يُستخدم علمهم في أغراض لا أخلاقية، وتطرح سؤالًا حول حدود المسؤولية الفردية في عصر الشركات العملاقة.

ويعيش السيد بينت، روبوت غريب في منطقة الإقصاء، هو شخصية رمزية. يحمل ملامح مهرج قديم، لكنه يتحدث بحكمة الفلاسفة. ويمثل بينت الروبوتات المنفية، التي طورت وعيًا خاصًا بها، بعيدًا عن البشر. في أحد الحوارات، يقول: “أنتم البشر تظنون أنكم خلقتمونا… لكننا نحن من نراكم الآن بوضوح”. هذه العبارة تعكس الانقلاب في العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتطرح تساؤلات حول من يملك الحق في تعريف الوعي.

ويظل كريستوفر، رغم غيابه الجسدي، حاضرًا طوال الفيلم، وعيه المحاصر داخل شبكة “النيوروكاستر” هو المحرك الأساسي للأحداث. ويمثل كريستوفر البراءة المستغلة، والعبقرية التي تحولت إلى أداة. وفي المشهد الأخير، حين تلتقيه ميشيل داخل الواقع الافتراضي، يقول لها: “أنا لست حيًا… لكني لست ميتًا أيضًا. فقط… عالق”. يختصر هذا التصريح معاناة جيل بأكمله، عالق بين الواقع والافتراض، بين الحياة والموت، بين الإنسان والآلة.

وتضفي الشخصيات الثانوية حضورا كبيرا لفكرة الفيلم، مثل ماديلين فانس، العالمة التي حاولت فضح سنتري، أو بيني بال، الروبوت الودود الذي يساعد ميشيل، وهذه الشخصيات تضيف عمقًا لعوالم الفيلم، وتُظهر تنوع المواقف تجاه التكنولوجيا. بعضهم يقاوم، بعضهم يستسلم، وبعضهم يحاول التكيف، وبعضهم يسخر.

ما يميز شخصيات “The Electric State” هو أنها ليست نمطية، بل معقدة، متناقضة، وتحمل في طياتها أسئلة أكثر من الأجوبة. وكل شخصية تمثل وجهًا من أوجه الصراع بين الإنسان والتكنولوجيا، بين الماضي والمستقبل، بين الحرية والسيطرة. ليست الجمل القصيرة والمركزة التي تنطق بها هذه الشخصيات مجرد حوارات، بل مفاتيح لفهم فلسفة الفيلم، ودعوة للتأمل في واقعنا المعاصر.

أبعاد الفيلم.. فقدان الروابط الإنسانية

لا يكتفي فيلم “الحالة الإلكترونية” بسرد قصة خيال علمي مشوقة، بل يغوص في طبقات متعددة من المعاني التي تعكس أبعادًا اجتماعية، سياسية، نفسية ورمزية عميقة، تجعله عملًا غنيًا بالتأويلات والدلالات.

ويتجلى البعد الاجتماعي في الفيلم من خلال نقده لمجتمع ما بعد الحرب، حيث يعيش البشر في عزلة شبه تامة، منغمسين في واقع افتراضي عبر تكنولوجيا “النيوروكاستر”. وهذا الانغماس يعكس ظاهرة اجتماعية معاصرة: الهروب من الواقع عبر التكنولوجيا، وفقدان الروابط الإنسانية الحقيقية، حيث ترفض البطلة ميشيل، استخدام هذه التكنولوجيا، تمثل صوت المقاومة الاجتماعية، وتُظهر كيف يمكن للفرد أن يحافظ على إنسانيته في عالم يتجه نحو التفكك الأسري، والانعزال، واللامبالاة. كما تعكس علاقتها بالروبوت كوزمو إمكانية بناء علاقات عاطفية خارج الأطر التقليدية، وتعيد تعريف مفهوم “العائلة” في زمن ما بعد الحداثة.

ويمثل البعد السياسي للفيلم في نقده الصريح لهيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى، ممثلة في شركة “سنتري” ومديرها التنفيذي إيثان سكايت. وهذه الشركة لا تكتفي بالتحكم في التكنولوجيا، بل تسعى للسيطرة على وعي البشر ذاته، عبر تحويل العقول إلى موارد طاقة. ويطرح الفيلم تساؤلات حول من يملك السلطة في العصر الرقمي: هل هي الحكومات، أم الشركات؟ كما يسلط الضوء على تواطؤ بعض العلماء مع هذه القوى، مقابل صمت المجتمع. ويعطي الفيلم نموذج شخصية الدكتور أمهرست، الذي بدأ كمخترع بريء وينتهي كضحية، وتجسد شخصيته هذا الصراع الأخلاقي. وليست الحرب بين البشر والروبوتات مجرد خلفية، بل استعارة لصراع أوسع بين القديم والجديد، بين السلطة المركزية والوعي الحر.

ويتجلى البعد النفسي في الفيلم بعمق كبير وتأثير عميق، خاصة من خلال شخصية ميشيل. وفقدانها لعائلتها، وشعورها بالذنب، وحدتها، ورفضها للواقع الافتراضي، كلها عناصر ترسم ملامح اضطراب ما بعد الصدمة. وليست رحلتها فقط بحثًا عن شقيقها، بل عن ذاتها، عن معنى وجودها في عالم محطم. وعلاقتها بكوزمو، الذي يحمل وعي شقيقها، وتمثل محاولة لإعادة بناء الذات عبر استعادة الذكريات. كما أن شخصية كريستوفر، المحاصر داخل النظام، تجسد معاناة العقل البشري حين يُجرد من الجسد، ويُستخدم كأداة. في أحد المشاهد المؤثرة، يقول: “أنا لست حيًا… لكني لست ميتًا أيضًا”، وهي عبارة تختصر معاناة جيل بأكمله، عالق بين الواقع والافتراض، بين الحياة والموت.

البعد الرمزي في الفيلم هو الأكثر غنى وتأويلا. وترمز الروبوتات المنفية في “منطقة الإقصاء” ترمز إلى المهمشين في المجتمع، أولئك الذين رفضهم النظام لأنهم لم يخضعوا له. شخصية “السيد بينت”، الروبوت الذي يبدو كمهرج لكنه يتحدث بحكمة، تمثل الضمير الجمعي، أو ربما الفيلسوف المنفي. وترمز تكنولوجيا “النيوروكاستر” إلى الإغراء المعاصر بالخلود الرقمي، لكنها في الوقت ذاته استعارة لفقدان الذات. وليست الرحلة عبر أمريكا المدمرة فقط جغرافية، بل رمزية: عبور من الطفولة إلى النضج، من الجهل إلى الوعي، من الخضوع إلى التمرد. حتى اسم الفيلم “The Electric State” يمكن تأويله كرمز لحالة الإنسان المعاصر: كائن كهربائي، متصل دائمًا، لكنه معزول داخليًا.

ويقدم الفيلم مرآة قاتمة لعصرنا، لكنه لا يخلو من الأمل، عبر شخصياته المعقدة، وحبكته المتعددة الطبقات، يدعونا للتفكير في علاقتنا بالتكنولوجيا، بالسلطة، وبأنفسنا. إنه تذكير بأن الإنسانية لا تُقاس بالتقدم التقني، بل بالقدرة على الحب، والتضحية، والاختيار الأخلاقي.

الدلالة الجمالية وهوية الفيلم البصرية

يعتمد الفيلم من الناحية الجمالية على مزيج فريد من الحنين إلى التسعينيات والتكنولوجيا المتدهورة، حيث تتقاطع لوحات من الماضي مع عناصر مستقبلية مدمرة. وتميل الألوان المستخدمة إلى درجات الباستيل الباهتة، مع لمسات من الإضاءة النيونية، مما يخلق إحساسًا بالزمن المعلّق، وكأن الشخصيات تعيش في حلم طويل أو ذاكرة مشوشة. وهذا التناقض بين الجمال البصري والانهيار الداخلي للعالم يعكس بدقة الحالة النفسية للبطلة ميشيل، التي تبحث عن شقيقها وسط أنقاض حضارة فقدت بوصلتها.

وليست الروبوتات في الفيلم مجرد آلات، بل كائنات تحمل طابعًا إنسانيًا، صُممت بعناية لتبدو مألوفة وغريبة في آنٍ واحد. بعضها مستوحى من تصاميم الإعلانات القديمة، أو ألعاب الأطفال، أو حتى أجهزة منزلية من التسعينيات، مما يضفي عليها طابعًا عاطفيًا يربط المشاهد بذكريات الطفولة، ويثير تساؤلات حول العلاقة بين الإنسان والآلة. كما أن كل روبوت يحمل هوية بصرية خاصة، تعكس شخصيته ودوره في القصة، من كوزمو البريء إلى السيد بينت الغامض.

ويتحرك الأبطال في بيئات مصممة بعناية فائقة: مدن مهجورة، مراكز تسوق متداعية، ملاهٍ صدئة، وطرقات لا تنتهي. وكل موقع يحمل رمزية معينة، فمثلًا مدينة الملاهي “هابي لاند” التي تظهر في منتصف الفيلم، تمثل وهم السعادة الاصطناعية، بينما “منطقة الإقصاء” تعكس الهامشية والتمرد على النظام. وأضفى الإنتاج الفني بقيادة دينيس غاسنر، الحائز على الأوسكار، على الفيلم طابعًا بصريًا غنيًا بالتفاصيل، حيث تم بناء أكثر من 100 موقع تصوير، وتصميم 175 روبوتًا، مما يعكس التزامًا فنيًا نادرًا في أفلام الخيال العلمي الحديثة.

الرمزية البصرية للفيلم حاضرة في كل مشهد تقريبًا، على سبيل المثال، استخدام المرايا والشاشات يعكس ثنائية الواقع والوهم، بينما تكرار مشاهد الغروب يرمز إلى نهاية عصر وبداية آخر. وحتى الأزياء والأكسسوارات تحمل دلالات: ميشيل ترتدي سترة والدها العسكرية، مما يربطها بالماضي ويمنحها درعًا نفسيًا في رحلتها.

ولا تقتصر الهوية للفيلم على الجماليات، بل تُستخدم كأداة سردية، فكل لون، كل تصميم، كل حركة كاميرا، تخدم القصة وتعمّق من فهمنا للشخصيات والعالم الذي يعيشون فيه. إنها ليست مجرد خلفية، بل لغة بصرية متكاملة تنطق بما لا يُقال.

على ماذا تتشكل الهوية السردية للفيلم؟

وتتشكل الهوية السردية لفيلم “الحالة الالكترونية” من خلال توازن دقيق بين البناء الكلاسيكي للرحلة البطولية والطرح الفلسفي المعاصر حول التكنولوجيا والوعي والإنسانية. ولا يقتصر السرد في هذا الفيلم على تتبع أحداث متسلسلة بل يُبنى كمرآة تعكس تحولات الشخصيات وتطور العالم من حولها. وتبدأ القصة من نقطة فقدان وانكسار حيث تعيش ميشيل في عالم محطم بعد حرب مدمرة بين البشر والروبوتات. هذه البداية ليست مجرد خلفية بل تمثل لحظة انقطاع سردي تدفع الشخصية إلى البحث عن المعنى والهوية. والرحلة التي تقوم بها ميشيل ليست فقط جغرافية بل سردية أيضًا إذ تنتقل من موقع الضحية إلى موقع الفاعل ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الجهل إلى الوعي. وهذا التحول هو جوهر الهوية السردية للفيلم حيث تُبنى الشخصية من خلال التجربة والمواجهة لا من خلال الماضي وحده.

ويعتمد السرد في الفيلم على التدرج العاطفي أكثر من التدرج الزمني. فكل محطة في الرحلة تمثل اختبارًا نفسيًا وأخلاقيًا يعيد تشكيل وعي ميشيل ويقربها من الحقيقة. فاللقاء مع كوزمو يفتح باب الذكريات لكنه أيضًا يطرح سؤالًا حول طبيعة الوعي والهوية. هل يمكن لروبوت يحمل ذكريات شخص أن يكون امتدادًا له أم أنه مجرد محاكاة؟ هذا السؤال لا يُجاب عليه بشكل مباشر بل يُترك معلقًا في نسيج السرد ليمنح المشاهد مساحة للتأمل. كذلك شخصية كريستوفر المحاصرة داخل النظام تمثل عقدة سردية معقدة إذ أنه حاضر وغائب في آنٍ واحد. وجوده كوعي بلا جسد يخلق توترًا سرديًا مستمرًا ويجعل من النهاية لحظة ذروة عاطفية وفكرية.

وتتجلى الهوية السردية للفيلم أيضًا في الطريقة التي يُستخدم بها الزمن. لا يسير الزمن في خط مستقيم بل يتخلله استرجاع للذكريات وتداخل بين الواقع والافتراض. وهذا التلاعب بالزمن يعكس حالة التشوش التي يعيشها العالم ويجعل من السرد أداة لفهم الفوضى لا مجرد وسيلة لنقل الأحداث. كما أن السرد يتبنى وجهة نظر ميشيل بشكل شبه كامل ما يمنح الفيلم طابعًا ذاتيًا ويجعل من كل حدث انعكاسًا لحالتها النفسية. حتى المشاهد التي تبدو خارجية أو موضوعية تحمل في طياتها أثرًا داخليًا يعكس تطور الشخصية.

وتلعب اللغة البصرية للفيلم دورًا سرديًا محوريًا حيث الألوان الباهتة والمشاهد المهجورة والمباني المتداعية ليست مجرد ديكور بل عناصر سردية تنقل شعور الانهيار والحنين والبحث عن المعنى. وتعكس الروبوتات بتصاميمها الغريبة والحنونة في آنٍ واحد التوتر بين البراءة والخطر بين الألفة والغرابة. ويساهم كل عنصر بصري في الفيلم في بناء سردية متعددة الطبقات تتجاوز منطق الكلمات.

يمكن القول إن الهوية السردية لفيلم “The Electric State” تقوم على التوتر بين الفرد والنظام بين الوعي والآلة بين الماضي والمستقبل. إنها سردية مقاومة تحاول استعادة الذات في عالم يسعى إلى محوها. لا يروي الفيلم قصة فقط بل يبني عالمًا سرديًا متكاملًا يجعل من كل مشهد وكل شخصية وكل لحظة جزءًا من رحلة نحو فهم الذات والآخر والعالم من جديد في إطار الرقمنة وتسارع خطى الذكاء الاصطناعي.

المصدر: هسبريس

شاركها.