أيمكن للرموز أن تتحول في أسبوع واحد إلى ألغامٍ تنتظر من يخطو عليها؟ وهل يمكن لعبارة مطبوعة على قماشٍ عابر أن تُحدث رجّةً لا تقل عن رجّة وصيةٍ محفوظة في خزائن الزوايا؟ أليس الزمن نفسه، حين يضغط الأحداث في عتبةٍ واحدة، هو من يفضح هشاشة حدودنا بين المقدّس والقانوني، بين العاطفي والإجرائي؟ أم أننا نحن من نُسارع إلى تحويل كل تفصيل إلى اختبار لصلابة الجماعة ولقدرة الدولة على تدبير المعنى؟

ليستْ الصدفُ بريئةً أبداً

ها نحن أمام صدفة من تلك التي لا يجود بها التاريخ إلا نادراً: في أسبوع واحد يتنازع المريدون على مشيخة زاوية صوفية عريقة، ويتشاجر آخرون حول قميص صيفي طائش كتب على صدره ما لم يكتب أحد من قبل. بين منير القادري بودشيش، الذي يُقال إنه صلّى الاستخارة ليتنازل عن مشيخته، وابتسام لشكر، التي لبست قميصاً فيه استخفاف بالصلاة كلّها، نجد أنفسنا في قلب مسرح عجيب، حيث الدين والسلطة والاحتجاج واللباس يتجاورون في فضاء واحد كأنهم ممثلون على خشبة واحدة. ليست الصدف بريئة أبداً. إنها عقل التاريخ حين يقرر أن يسخر من الناس جميعاً، فيجمع بين خبَريْن لا يربط بينهما شيء سوى توقيت زمني مشترك. ما الذي يجمع إذن بين شيخ صوفي متردّد في أن يظل شيخاً، وناشطة حقوقية اختارت أن تكتب على قميصها ما لا يُكتب؟ إنهما وجهان لعملة واحدة: عملة السلطة حين تتقاطع مع المقدّس.

في الزاوية تلبسُ السلطة لبوس الوراثة والبركة والاستخارة. وفي الشارع الافتراضي تلبس السلطة لباس القانون الجنائي والفصل 267. الزاوية تريد أن تُقنع مريديها بأن المشيخة ليست تشريفاً بقدر ما هي تكليف؛ والنيابة العامة تريد أن تُقنعنا بأن الاعتقال ليس عقوبة بقدر ما هو حماية. وفي الحالتين نحن أمام نفس الخِيار: تبرير القرار بتأويل لغوي، وتسويغ الهيمنة عبر جملة مطمئنة. شيخ الزاوية يصدر بياناً لينفيَ خبر التنازل، ثم بعد أيام يؤكده؛ والناشطة تصدر صورة لتثبت خبر التمرّد، كلاهما يتواصل مع الجمهور بلغة الرموز. والمفارقة أن بيان الزاوية كُتب بوَقار ديني، بينما قميص ابتسام كتب بوَقاحة ساخرة. لكن الصدى كان واحداً: ضجَّةٌ لا تنام.

أليس مثيراً أن تصير “الاستخارة” و”القميص” معاً موضوعين وطنيين؟ الأول يستنطق السماء ليحسم نزاع الأرض، والثاني يستفز الأرض كلها بعبارة عن السماء.

في المغرب اليوم، وفي شهر غشت تحديدا، يبدو أننا لا نناقش الاقتصاد ولا التعليم إلا عرضاً، بينما نُخصّص جلسات طويلة لمستقبل الزوايا وحُرية القمصان، كأن المجتمع لا يهدأ إلا حين يتعلق الأمر بالذات الإلهية: إمّا يُستدعى لتبرير انتقال المشيخة، أو يُستدعى لمعاقبة ناشطة شاردة. وفي الحالتين معاً، الله حاضر، لكن حضوره مسيّس ومؤدلج، يخرج من مجال العبادة ليُستعمل بوصفه أداة ضبط اجتماعي. ترفعُ الزاوية شعار “خدمة الدين والوطن تحت إمارة المؤمنين”، بينما خصوم ابتسام لشكر يرفعون شعار “حماية المقدسات”؛ الخطاب واحد، وإن اختلفت المنابر؛ أليسَ كذلك؟

عبارة في وصية شيخ وأخرى على قميص

هل نبالغ إن قلنا إننا أمام ازدواجية عجيبة: في مداغ يُوزَّع الذكر والتبريك، وفي المحكمة يُوزَّع الصمت والتقييد؟ ربما يحقّ لنا أن نرى في هذا التزامن علامة؛ علامة على أن المغرب يعيش على حافة جدل أبدي: بين الروحاني والقانوني، بين المريد والناشط. في كلا الحدثين ثمة جسد يُستعمل بوصفه رمزا: جسد الشيخ وهو يجلس على كرسي المشيخة، وجسد الناشطة وهي ترتدي القميص. الجسد حين يلْبِسُ المعنى يُصبح خطيراً: جسدٌ يلبس البركة وجسدٌ يلبسُ السخرية كلاهما يهدّد استقراراً ما. من السهل أن نقول إن ابتسام لشكر أساءت، وإن الشيخ منير تصرّف بحكمة؛ لكن الأصعب أن نرى كيف كلاهما ضحية لمسرح أكبر: مسرح السيطرة على الرموز. ذلك أن المجتمع كل مجتمع في عمقه، لا يخاف من الجوع بقدر ما يخاف من العبارة: عبارة في وصية شيخ، أو عبارة على قميص. إنها سلطة اللغة، سلطة الجملة القصيرة التي تغيّر مصائر جماعات. تُقسِّم الزاوية الأتباع بعبارة “بعد الاستخارة تنازلتُ”، والناشطة تُقسِّم الرأي العام بعبارة “الله……”. وبين هاتين الجملتين يمضي أسبوع واحد كأنه كابوس فلسفي حول علاقة الإنسان بالسماء. الحدثان يكشفان هشاشة المجتمع في مواجهة “الكلمة”. هكذا تصبح الكلمة أثقل من الاقتصاد برمته. فهل نحيا في مجتمع يقتاتُ على تأويل الكلمات أكثر مما يعيش على أكل الخبز؟ ما من شكّ في أن الزاوية تريد أن تحافظ على وحدة الصف، والحقوقيون يريدون أن يحافظوا على حرية التعبير. كلاهما يتحدث عن “الحفاظ”، لكن عن أي شيء نُحافظ بالضبط؟ الزاوية، حين تنفي، تقول إنها “ثابتة على المحجة البيضاء”، والنيابة العامة، حين تتابع، تقول إنها “تطبق القانون”. في النهاية، كلاهما يحرس نصاً: نصٌ ديني وآخر قانوني.

يا للعجبْ.. مغرب هذا الأسبوع موزعٌ بين مناجاة السماء وسبّ السماء، بين عمامة تُثبت نسباً وقميص يُثبت تمرداً. السخرية أن كلا الحدثين ينتهيان بنداء واحد: لا تصدّقوا الإشاعات. الزاوية تقول ذلك، والحقوقيون يقولونه، وحتى السياسيون الذين يتدخلون على “الفيسبوك” يكررونه. لكن هل هناك إشاعة أكبر من حياتنا اليومية نفسها، حيث نتظاهر بأننا مجتمع حديث، بينما نحاكم الكلمات كما لو كانت سيوفاً مسلولة؟

بين تقديس الشيخ وتجريم القميص

ليس تزامن خبر الزاوية وخبر لشكر مجرد صدفة، إنه استعارة وطنية: كيف نحيا بين تقديس الشيخ وتجريم القمصان؟ بهذا المعنى يصبح الأسبوع نفسه درساً في الفلسفة: أن الحقيقة ليست في “المشيخة” ولا في “القميص”، بل في هشاشتنا الجماعية أمام الرموز.

يبدأ الالتقاط الجاد لما جرى حين ننتقل من سطح الخبر إلى عتباته؛ فما أسميته “أسبوع الزاوية والقميص” ليس تزامنًا بريئًا كما أسلفت (وهذا تقدير شخصي يقتضي الدحض)، إنه تمرينٌ دقيق على إدارة الحدود بين المقدّس والقانوني. الحدثان يكشفان كيف تُحوَّل وقائع متفرقة إلى اختبارٍ لمرونة العتبة: متى يُعدّ القول دينيًا ومتى يصير قانونيًا. من هنا، ليست العتبة خطًا فاصلًا، إنها منطقة تفاوض دائم، تدخل إليها مؤسساتٌ وخطاباتٌ وجماعات، محمَّلةً بوسائلها لتوسيع الشرعية أو تضييقها. الزمن نفسه يكشف وظيفته الرمزية: أسبوع واحد يمارس ضغطه على الذاكرة العمومية، فيفرض إيقاعًا على التأويل؛ لذا بدا التزامن مُفاقِمًا للرهان: كل ملف يغذّي الآخر، ويختبر المجتمع في قابلية قنواته المؤسسية على التبريد بدل الإشعال.

في ملف المشيخة استُدعيت تقنيات “الشرعية الطقسية”: وصية، نسب، مقام وذكرٌ يربط الجماعة بمصدرها. في ملف القميص استُدعيت تقنيات الشرعية الإجرائية: محضر، فصل قانوني وبلاغات تُؤطر حدود الكلام. المشترك بين الملفين أن العاطفة لا تُترك سائبة؛ تُصاغ في قالب إجراء. هذا التحويل من شعورٍ مشتبك إلى صيغةٍ قابلة للتداول هو أساسُ السياسة الرمزية: كل طرف يحاول أن يمنح حركته شكلًا محسوبًا لخفض كلفة الصراع ورفع كلفة الخصم.

ها هنا يتواجه القطنُ بالقُطنِ: خِرقة الانتساب الصوفي التي تدخل إلى الجماعة، وقميص يومي يُخرج صاحبه إلى قفص المعنى العام. المادة واحدة، لكن نظام الدلالة مختلف: الأولى تمنح حصانة رمزية بحكم الطقس، والثانية تُجرِّد من الحصانة بحكم الاستفزاز. هنا تعمل أنثروبولوجيا الطهارة والنجاسة بفعالية مذهلة: تتلوّث الأشياء بالعبارات، وتتحول إلى نواقل للقداسة، أو للتدنيس وفق نصٍّ قصير و”مطبوعٍ”.

الاقتصاد السياسي للغضب

تتبدل اليوم خرائط الإسناد: لم تعد الشرعية تُبنى فقط بسلسلة رواة أو نصوص قانونية؛ للخوارزمية أيضًا سندها. الانتشار يتحوّل إلى “إجازة” رقمية، والهاشتاغ إلى “بيعة” بلا طقوس، ومنحنيات التفاعل إلى رأيٍ عامٍّ مُقنن. لا تلغي هذه النقلة الطقس ولا الإجراء، لكنها تضيف طبقةً ثالثة تُربكهما: شرعيةٌ سريعة، متقلبة، لكنها مُحسوسة التأثير على قرارات المؤسسات.

تتجلى البيروقراطية مثل “لاهوت إداري”: تُصاغ القداسة في خطاب النماذج والأرقام المرجعية والختم الأحمر، وتُترجم الإساءة إلى فقرات وعقوباتٍ. حين تُدار المسائل الدينية على نظام التقارير، يُعاد تعريف المقدّس بوصفه ملفًا قابلًا للرفع، ويُعاد تعريف المخالفة بوصفها رقمًا قابلاً للقياس. يريح هذا التعريف الإداري المؤسسات لأنه يُحوّل اللايقين الرمزي إلى يقين إجرائي، بحيث ينشط “الاقتصاد السياسي للغضب”: موجات السخط لا تُستهلك بلا عائد، ذلك أنها تتحول إلى رأس مال رمزي تتغذى منه مؤسسات وأفراد ووسائط. التبرع، التعاطف، النفوذ، المشاهدات، كلها عوائد لمن يحسن الاستثمار في إيقاع الغضب. وعلى هذا الأساس تتساقط براءة الانفعال: نحن أمام سوق رمزية تُسعِّر الكلمات والصور، وتدفع الفاعلين إلى تصعيد أو تهدئة بحسب منطق الربح والخسارة.

تتنقل المعاني جغرافيًا من مداغ، حيث الرأسمال الروحي، إلى المدن الإدارية والإعلامية، حيث الرأسمال الإجرائي والاتصالي. ليست هذه الرحلة انتقالًا في المكان فحسب، إنها إعادة تسعير للرمز: ما يُقال هناك بوصفه “سرا عائليًا” يُقال هنا بوصفه “شأنًا عامًا”.

لغة الملفين تُرتّب النتائج قبل أن تبدأ المرافعات: “استخارة” يفترض معها حُسن النية، و”إساءة” يُفترض معها قصدٌ مؤكَّد. الكلمات هنا ليست محايدة؛ إنها آليات شحن أخلاقي تسبق إجراءات التحقيق. لذلك يُصبح الاشتغال على الألفاظ جزءًا من الصراع على مآلات الوقائع.

وإذا كانت الكلمات تصنع الاستباق، فإن الالتباس يصنع المساحة الرمادية التي تُدار فيها السياسة الدقيقة: في ملف المشيخة تُترك الشكوك بين النفي والترويج لقياس حرارة الصفّ الداخلي ومعايرة الخطوة التالية، وفي ملف القميص تُترك نيةُ القصد موضع اجتهاد لفتح هامش تأويل قانوني وسياسي؛ الالتباس هنا ليس عجزًا، إنه أداة إدارة.

من هذا المنظور ينفتح سؤال الأهلية: من يملك حقَّ الكلام باسم الإله أو عليه؟ الزاوية تستند إلى تراتبية للمعرفة الروحية تُفوِّض النطق، والناشطة تستند إلى تراتبية للحقوق تُفوِّض الاعتراض. كلتاهما تطلب منصة أعلى من الرأس العام، وكلتاهما تصطدم بحدود السيادة المشتركة على المعنى حين يغادر الخاص إلى العام. بين “المسرح الطقسي” الذي ينقل المشيخة، و”المسرح الإجرائي” الذي يحرك المتابعة، تظهر الدولة بوصفها ضابطة إيقاع: تُطمئن هذه الفئة بأن النص محفوظ، وتطمئن تلك بأن القانون جارٍ.

الضبط العاطفي استراتيجية مفضلة

لعلكم تعلمون أن الخصوصي يتسرّب إلى العلن بسهولة: أسرار الأسرة الروحية لا تبقى في “الخلوة”، وآراء الأفراد لا تبقى في الدائرة الحميمية. الهندسة الجديدة للفضيحة تجعل كل جهازٍ محمول همسة قابلةً للأرشفة. لذلك يكتب هذا التحوّل شروطًا جديدة للمسؤولية: الكلام لم يعد عابرًا، بيد أنه يغدو مقيمًا في ذاكرة قابلة للاستدعاء. تعمل ثنائية الحلال/الحرام على الأشياء كما تعمل على الأفعال. العبارة المطبوعة على قميص تُقرأ بوصفها فعلا مستقلا، والجسد يتحوّل وسيطًا للمعنى العامّ. وعلى هذا الأساس يُعالج المجتمع القلق من خلال طريقين: تطهير رمزي يطلب محو العلامة، أو تضخيم تأملي يطلب تحويلها إلى درسٍ أخلاقي. كلاهما يشي بالخوف من عدوى الرموز. وعلى هذا النحو يغدو الضبط العاطفي استراتيجية مفضلة: الزاوية تثمّنُ قلق المريدين بلغة الثبات والصفاء، والنيابة تُسكن قلق جماعات أخرى بلغة التطبيق والحماية. التسكين لا يَحلّ الخلافات، يجمّدها في صورةٍ قابلةٍ للقبول إلى أن تهدأ حرارة التداول.

هكذا يمكن رؤية المشهد بمنطق حوكمة الشركات: مجلس عائلي يقرر الخلافة، مريدون مساهمون صغار لا يصوّتون فعليًا، لكنهم يُحسَبون في التقييم. على الضفة الأخرى، ملف قضائي يُدار بمنطق المخاطر وسمعة المؤسسة، حيث تُقاس الأرباح بالتكلفة الأمنية والأخلاقية؛ وعلى هذا تتشابه أدوات الإدارة رغم اختلاف القيم المعلنة.

تتصارع سيادتان على النّص: قاعدة “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص سابق” تفرض منطقًا يحمي الأفراد من نهَم التأويل الجزائي، وقاعدة “لا ولاية إلا بوصية” تفرض منطقًا يحمي الجماعة من تفكك المرجعية. في الحالتين، النصّ يسبق الواقع ويؤطّره، ويُعاد ترتيب الوقائع لتناسبه. تمنح هذه السيادة الاستقرار، لكنها تحمل خطر تثبيت الغموض حين يُترك النصُّ فوق نقد محتملٍ.

في ضوء ما سلف، تُستخدم الشخصيات الحدّية بوصفها حوافَ اختبار: شيخٌ يختبر مرونة تراتبية قديمة في زمن شفاف، وناشطةٌ تختبر مرونة حرية التعبير في مجتمعٍ له حساسية متوارثة تجاه المقدّس. الحدّية تُنتج ضوضاءً تُغطي على القضايا الاجتماعية الأثقل، لكنها تُظهر بوضوح أين تُرسم الخطوط الحمراء وكيف تتحرك.

آه …. الجندري مرة أخرى؟ ربما نعم … ربما …

لا يغيب البعد الجندري، وإن لم يُصرَّح به مباشرة: سلطة ذكورية تمسك بخيوط الجماعة، تحدد رموزها وتوزع القول فيها، في مقابل جسد أنثوي يُحمَّل أثقال تمرّد فردي ويُطالَب بتسديد ثمن جماعي. المسألة إذن ليست حرية شخصية فحسب، بقدر ما هي رهانٌ لسؤال أعمق: من يملك الجسد باعتباره فضاءً للمعنى العام، ومن يرسم حدود توظيفه الرمزي؟ في المشهد الإعلامي يتخذ الصمت شكل نصّ موازٍ: محاولة اتصال بلا جواب تتحول إلى حدث، وجملة مقتضبة من فاعل سياسي تكتسب سلطة معيارية. وما إن يظهر الفراغ حتى يملأه الخيال الجمعي بتأويلاته، لتغدو الثغرات نفسها مسرحًا لسطو المعاني وتحوّلاتها.

الأرشيف مزدوج: وصايا تُحفظ في خزائن الزوايا بوصفها ذاكرة رسمية، ولقطات شاشة تُحفظ في سحابة المنصّات بوصفها ذاكرة شعبية. ها هنا تتساوى قوّة الاستدعاء: الماضي يقاتل الحاضر بأدلته، والحاضر يثبّت نفسه بأثرٍ رقمي لا يمحوه الزمن بسهولة. يخلق هذا التكافؤ توترات حول من يملك حق كتابة الذاكرة. تُحسَب المخاطر بمنطق الضرر الأدنى، لكن بلغتين مختلفتين. في الزاوية، كلفة الانقسام تُقاس بتماسك الصفّ وبصورة الطريقة أمام العموم. في القضاء، تُقاس كلفة التساهل أو التشدد بالسلم الأهلي وبثقة الجمهور في عدالة النص. كلاهما يستخدم حسابات براغماتية تجعل القرار في جوهره إدارةً للاحتمال لا إعلانًا للحقيقة النهائية.

حراسة الحدود الرمزية وظيفة بالغة الأهمية: الزاوية تحرس من الداخل عبر الانضباط الطقسي، والدولة تحرس من الخارج عبر الإجراء، والجماهير الرقمية تكمّل الفراغ عبر التنمر والنبذ والوسم.

بهذا المعنى تتأرجح الأخلاق العامة بين مفهومَيْ “الإساءة” و”الضرر”. ليس كل من يشعر بالإهانة يُنتج ضررًا يقاس، وليس كل ما لا يُقاس يخلو من أثرٍ على العيش المشترك. لأجل ذلك نحتاج إلى أخلاقياتٍ تُميّز بين الجرح الشعوري الذي يُعالج بالحوار والردّ، وبين التحريض الذي يهدد سلامة الأفراد؛ ومن دون هذا التمييز تتحول المحاكم إلى مسارح للمشاعر.

الحماية مطلوبة حين يتهدّد أمن الأفراد

الأسبوع نفسه يعلّم: بلاغ الجماعة والطريقة ليس مجرد خبر، إنه آلة تحويل؛ يدخل فيها حدثٌ ويخرج منها رأيٌ عامٌّ مطمئن أو مرتبك على نحوٍ محسوب. نص البلاغ مرآة؛ على أن فهمها يقتضي قراءة هندسة الجملة: من يخاطَب؟ بأية أفعال أداء؟ وبأي وعدٍ بالاستقرار؟

في المقابل، تظهر مفارقة “الحماية” بوصفها غطاء أبويّا: تُحجب قرارات بدعوى حماية الأفراد أو حماية الوحدة، فيعاد إنتاج الوصاية على الحق في الكلام والحق في المعرفة. الحماية مطلوبة حين يتهدّد أمن الأفراد، لكنها تصير إشكالية حين تُستخدم لإغلاق النقاش العام واحتكار إدارة المعنى.

وهذا الأسبوع تجسدت السيادة على المعنى في صورة مفاتيح: مفتاح زاوية يفتح باب القداسة، ومفتاح زنزانة يغلق باب المخالفة. من يحمل المفاتيح يعرف الاستثناء ويطبّق القاعدة. وتتجاور المفاتيح في يدٍ واحدة أو في أيادٍ متعاونة، فتُعاد صياغة الحدود بين الروحي والمدني وفق لحظة التوازن.

لا أقترح فكرة “ميثاق للرموز” من أجل ترفٍ نظري، وإنما لحاجة عملية: كيف نختلف حول المقدّس دون تجريم الذوق أو تسليع الوراثة الروحية؟ يقتضي الميثاق خطوطًا حمراء قليلة وواضحة، وإجراءات شفافية كثيرة: توثيقٌ علني لمسارات القرار، تدرّج في الردود يفضّل البيان على الإكراه، وإتاحة مساحاتٍ مدنية للجدل المؤسس بدل ترك السجال لشراسة المنصّات وكائنات الأنترنيت.

في خلفية كل ذلك يكمن شكل جديد من السيادة: ليس إعلان حالة الطوارئ الأمنية، وإنما الطوارئ الدلالية؛ ذلك أن صاحب السيادة هو من يقرر متى يكون هذا القول استثنائيًا يستدعي تعليقًا للقاعدة أو تسريعًا للإجراء. ومن دون رقابة معرفية ومدنية على هذا التعيين، تصبح الاستثناءات قاعدةً مقنَّعة، ويتكلّس المجال العمومي.

بهذا الأفق، لا تنتهي خلاصة الأسبوع إلى زيادة في الإيمان ولا إلى إضافة مواد في القانون، وإنما إلى حاجةٍ لمناعة مدنية ضد فرط التأويل وانفعال الإدارة. المطلوب، إذن، شفافية تُخفف الغموض المقصود، وتحرِّرُ القضاء من أثقال المشاعر، وتربية عمومية على التمييز بين رمزٍ يُخالف ذائقة الأغلبية ورمزٍ يهدد السلامة. عندها فقط نكون قد حوّلنا التزامن المربك إلى معرفةٍ بالذات، وجعلنا من العتبة مساحةً للعبور لا ساحةً للافتراس.

في نهاية هذا المسار، يظل السؤال الأعمق معلقًا: هل نحن بصدد مجتمع يتعلم فن التوازن بين القداسة والإجراء، أم أننا نعيد إنتاج وصاية جديدة على الكلام والرموز بأدوات معاصرة؟ إن ما حدث لا يقدّم إجابة نهائية، لكنه يفتح المجال للتأمل في هشاشة معاييرنا وفي حاجتنا إلى ميثاق يضمن ألا يُستباح المقدّس ولا تُستنزف الحريات باسم حمايةٍ قد تتحول، إن طالت، إلى قيدٍ أبدي.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

المصدر: هسبريس

شاركها.