في واحدة من أكثر المبادرات العسكرية طموحًا في تاريخ الولايات المتحدة، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد أيام من بدء ولايته الثانية، أمرًا تنفيذيًا يهدف إلى إنشاء نظام دفاعي شامل ضد “أي هجوم جوي أجنبي على الوطن”، وفق تعبير الوثيقة. المشروع، الذي حمل اسم “القبة الذهبية”، يطمح إلى حماية البلاد من ترسانة الصين وروسيا وكوريا الشمالية، بما يشمل صواريخ باليستية عابرة للقارات، وأسلحة تفوق سرعة الصوت، وطائرات مسيّرة وصواريخ كروز.
لكن الحلم السياسي يصطدم بحقائق تكنولوجية ومالية شائكة: فبناء شبكة متعددة الطبقات من الدفاعات تمتد من الأرض إلى الفضاء يتطلب ابتكار تكنولوجيا غير متوفرة حتى الآن، وتمويلًا قد يتجاوز تريليون دولار، وفق تقديرات وكالة “بلومبرغ”، أي أكثر من خمسة أضعاف الميزانية التي رصدها ترامب للمشروع، والبالغة 175 مليار دولار.
الجزء الأكثر تكلفة وتعقيدًا في “القبة الذهبية” يتمثل في “الطبقة الفضائية” المخصصة لاعتراض الصواريخ خلال الطور الابتدائي لإطلاقها، فيما يعرف بمرحلة “الدفع المعزز”. هذه الطبقة ستعتمد على مئات، وربما آلاف، من الأقمار الاصطناعية المسلحة، القادرة على تتبع واعتراض الصواريخ في المدار. هذه التكنولوجيا لم تُطوّر بعد، وتتطلب سنوات من البحث والتصنيع والإطلاق إلى الفضاء.
تحليل “بلومبرغ” شمل أكثر من 20 منظومة دفاعية، جوية وبرية وبحرية، من بينها أنظمة مثل “ثاد”، “باتريوت”، “آيجيس”، وصواريخ “إس إم3″، إلى جانب أقمار مراقبة “أوبير” (OPIR) التي تطورها شركات مثل “لوكهيد مارتن” و”نورثروب غرومان”. التقديرات الكاملة أظهرت أن مشروعًا بحجم “القبة الذهبية”القادر على التعامل مع هجوم جوي شامل من الدول الثلاثقد يكلف نحو 1.1 تريليون دولار.
حتى النسخة المصغرة من المشروع، والمخصصة للتصدي لهجوم كامل من روسيا فقط، تُقدّر كلفتها بنحو 844 مليار دولار.
مخاوف الخبراء لا تتوقف عند الجانب المالي، بل تمتد إلى التبعات الجيوسياسية. فتعزيز قدرات الدفاع الجوي بهذا الشكل قد يدفع خصوم واشنطن، خصوصًا روسيا والصين، إلى تسريع تطوير أسلحة هجومية أكثر تقدمًا، ما يقوّض فرص التفاوض على الحد من التسلح النووي، ويعيد تشكيل ملامح سباق تسلح عالمي جديد.
وقد سبق للولايات المتحدة أن طرحت مشاريع دفاعية مشابهة في عهدَي رونالد ريغان وجورج بوش الأب، لكن تم التخلي عنها بسبب التكاليف الهائلة، وصعوبة التنفيذ، وتراجع الدعم السياسي.
أكثر من ألف شركة أمريكية، من بينها “سبيس إكس”، و”بالانتير”، و”لوكهيد مارتن”، تم اختيارها لتقديم مقترحات تتعلق بالبنية التحتية للمشروع. وتم بالفعل تخصيص عقود أولية بقيمة 25 مليار دولار ضمن قانون “الفاتورة الجميلة الواحدة” الذي تم تمريره في الكونغرس الصيف الماضي.
كما ألمح ترامب إلى احتمال إشراك كندا في المشروع مقابل مساهمة تبلغ 61 مليار دولار، وهو ما يعادل 5% من الكلفة الإجمالية المتوقعة. إلا أنه لم يُحسم بعد ما إذا كانت مشاركة كندية سترفع من الكلفة الإجمالية.
بحسب الجدول الزمني الرسمي، من المفترض إنجاز المشروع قبل مغادرة ترامب للبيت الأبيض في يناير 2029، وهو ما يراه العديد من المحللين غير واقعي، خاصة في ظل غياب التصميم النهائي، وعدم جاهزية التكنولوجيا المطلوبة، وتعقيد التعاقدات الصناعية.
ويقول تود هاريسون، الباحث في معهد “أمريكان إنتربرايز”، إن “الاسم والمفهوم والبرنامج قد لا ينجو أصلًا بعد هذه الإدارة”، في إشارة إلى احتمال أن يُلغى المشروع في حال تغيّر المشهد السياسي في واشنطن.
رغم أن فكرة “القبة الذهبية” تستلهم نظام “القبة الحديدية” الإسرائيلي، إلا أن الفارق في النطاق والتكنولوجيا المطلوبين يجعل من المشروع الأمريكي مهمة غير مسبوقة في تاريخ الصناعات العسكرية. وإن نجح، فسيمثل تحولًا استراتيجيًا عميقًا في مفهوم الدفاع القومي الأمريكي، ونقلة نحو عسكرة الفضاء باسم الأمن.
ويرى مراقبون أنه في ظل تضخم الكلفة وغموض التفاصيل، يبقى السؤال الأساسي معلقًا: هل تستطيع أمريكا تحمل فاتورة الحماية الكاملة من السماء؟ أم أن القبة الذهبية ستبقى مجرد وهم سياسي باهظ الثمن؟
المصدر: هسبريس
