قانون المالية لسنة 2026 يعكس التوازن الدقيق بين الطموح التنموي والالتزامات الاجتماعية والضغوط الاقتصادية التي تواجه المغرب اليوم. يحمل القانون أملًا في تعزيز الاستثمار وتحريك الاقتصاد، ويصاحبه تحد حقيقي يتعلق بالإصلاحات الجبائية وإعادة هيكلة الدعم، ويضع الحكومة أمام اختبار لقدرتها على تحويل الموارد الكبيرة إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع. قراءة القانون تكشف عن رؤية طموحة للنمو والتنمية، لكنها تواجه تحديات دقيقة تتعلق بحماية الفئات الأكثر هشاشة، وضمان حكامة الإنفاق العمومي، ومراقبة أثر الاقتراض على الاستدامة المالية للدولة.
يمثل حجم الاستثمار العمومي، الذي يقترب من 380 مليار درهم، حجر الزاوية في أي تحليل، ويعكس إرادة الدولة في تحريك الدينامية الاقتصادية وخلق فرص تشغيل مباشرة وغير مباشرة، ويشير إلى رؤية استراتيجية للنهوض بالاقتصاد الوطني. مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل الطرق السريعة، السكك الحديدية، مشاريع المدن الصناعية، والمناطق اللوجستية، بالإضافة إلى الطاقات المتجددة، تبرز كأمثلة على هذا الطموح، لكنها تحمل في طياتها تحديًا مرتبطًا بجودة التنفيذ والمتابعة. التجارب السابقة أظهرت أن التأخير في إنجاز المشاريع وضعف التتبع يقللان من مردودية الاستثمار ويحدان من أثره على الاقتصاد الحقيقي، ما يجعل الإدارة الجيدة والرقابة الصارمة والمتابعة الدقيقة عوامل حاسمة لتحويل هذه الموارد إلى تنمية ملموسة. يعتمد نجاح هذه الاستثمارات على تحقيق التكامل بين التخطيط الاستراتيجي والمردودية الفعلية على المدى القصير والمتوسط، وأي خلل في هذا التوازن قد يضعف أثر القانون على الاقتصاد الوطني ويؤخر مخرجاته المنتظرة.
في الجانب الاجتماعي، يعزز القانون الاعتمادات الموجهة للتعليم والصحة، ما يعكس حرص الدولة على تطوير رأس المال البشري وضمان جودة الخدمات الأساسية. الاستثمار في التعليم يسهم في رفع إنتاجية القوى العاملة وتحسين تنافسية الاقتصاد، بينما تطوير قطاع الصحة ينعكس مباشرة على جودة الحياة ويقلص الفوارق الاجتماعية والجهوية، ما يخلق بيئة مستقرة تدعم النمو على المدى المتوسط والبعيد. هذه السياسات الاجتماعية إذا نفذت بفعالية تصبح رافعة للتنمية الاقتصادية، تحفز القطاع الخاص وتزيد من القدرة التنافسية الوطنية. ومع ذلك، يبقى التنفيذ الفعلي لهذه البرامج تحديًا كبيرًا، فتعزيز البنية التحتية التعليمية وتوفير التكوين المستمر للمعلمين، وتحسين جودة الرعاية الصحية يتطلب مراقبة دقيقة للميزانيات والمشاريع وتطبيق آليات تقييم مستمرة لضمان الوصول إلى النتائج المرجوة.
الإصلاح الجبائي يشكل محورًا أساسيًا في القانون، ويتجه نحو توسيع آليات الاقتطاع عند المصدر في الضريبة على القيمة المضافة وتحسين الرقابة على التحصيل، ما يعكس إدراك الدولة لأهمية تأمين موارد مالية مستدامة. هذه الخطوة تزيد من شفافية الدورة الاقتصادية وتحد من التهرب الضريبي، لكنها تضع أيضًا عبئًا على المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل العمود الفقري للنسيج الاقتصادي الوطني. تطبيق الاقتطاع دون مرحلة انتقالية مدروسة قد يضغط على هذه المقاولات ويحد من قدرتها على الاستثمار والتوسع، ما يستدعي وضع تدابير موازية لدعمها وحماية نشاطها الاقتصادي، وإلا فإن الاقتصاد الوطني قد يواجه آثارًا سلبية على مستوى الإنتاجية وفرص الشغل.
إصلاح الدعم الطاقي يمثل تحديًا آخر، وهدفه تحرير أسعار الطاقة تدريجيًا لضمان استدامة مالية لصندوق المقاصة وتوجيه الموارد نحو برامج اجتماعية أكثر استهدافًا. هذا التحول يؤثر على القدرة الشرائية للأسر، خصوصًا الطبقات المتوسطة والمحدودة الدخل، ويزيد من كلفة النقل والسلع الأساسية، ما يتطلب وجود شبكة حماية اجتماعية فعالة لتخفيف الأثر الاجتماعي. إدارة هذا التوازن بين استدامة المالية العامة وحماية القدرة الشرائية للمواطنين تمثل اختبارًا حقيقيًا للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، ويحتاج التحول إلى خطة مدروسة تراعي تبعاته على مختلف الشرائح الاجتماعية وتوفر آليات تعويضية مناسبة.
الاقتراض العام يمنح الدولة مرونة أكبر لتمويل المشاريع الكبرى، لكنه يحمل أيضًا مخاطر على المدى الطويل إذا لم تُدار الأموال بكفاءة. أي توسع غير محسوب في الاقتراض يزيد من العبء المالي ويحد من قدرة الدولة على التمويل مستقبلاً، لذا فإن متابعة جدوى المشاريع الممولة بالدين العام وقياس تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي يعد أمرًا أساسيًا لضمان استخدام الموارد بشكل فعّال وتحقيق مردود حقيقي على الاقتصاد. كما أن الاعتماد على الاقتراض يتطلب تقييمًا دقيقًا للمخاطر المحتملة على المالية العمومية، خصوصًا في ظل تقلبات الأسواق العالمية وأسعار الفائدة.
فعالية الاستثمار العمومي مرتبطة بجودة الحكامة المصاحبة له، فالمشاريع الكبرى تحتاج إلى متابعة دقيقة لتجنب التأخير وتجاوز الميزانيات وضعف التقييم، وهي عوامل تقلل من مردودية الإنفاق. الإدارة الجيدة والشفافية والمراقبة الدقيقة تحوّل الطموح المالي إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع، وتحمي الموارد العامة من الهدر وتعزز ثقة المواطنين في السياسات العمومية. كل مشروع استثماري يجب أن يصاحبه تقييم دوري لمدى تحقيقه للأهداف الاقتصادية والاجتماعية المرسومة، والاستثمار الضخم بلا تقييم يواجه خطر التضاؤل في الأثر، مما يجعل الحكامة ركيزة لا غنى عنها لضمان نجاح القانون.
على المستوى الكلي، يهدف القانون إلى إعادة التوازن بين الاستثمار والتنمية الاجتماعية والاستدامة المالية. القانون يجمع بين طموح النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكنه يضع الحكومة أمام تحديات دقيقة تتعلق بقدرة الاقتصاد على استيعاب الإصلاحات وفاعلية الأجهزة الإدارية في التنفيذ، وحماية الفئات الضعيفة، وضمان حكامة المشاريع، ومراقبة أثر الاقتراض على المالية العمومية. أي خلل في أي من هذه العناصر قد يؤدي إلى تقليل الأثر المرجو للقانون، وهو ما يجعل المتابعة الدقيقة والمراجعة المستمرة ضرورة حتمية.
في المحصلة، يمثل قانون المالية 2026 وثيقة طموحة تسعى لتحقيق النمو الاقتصادي وتحسين جودة الخدمات الاجتماعية وإصلاح النظام الجبائي، لكنه يختبر قدرة الدولة على إدارة الموارد بكفاءة وتحقيق التوازن بين الطموح الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والاستدامة المالية. قوة القانون تكمن في طموحه وإمكاناته ،بينما المخاطر ترتبط بالقدرة على التنفيذ الفعّال وتحويل الخطط إلى نتائج ملموسة. نجاح هذا القانون يتحدد بمدى تحويل الموارد المخصصة إلى تنمية حقيقية تنعكس على الاقتصاد الوطني وحياة المواطنين، ويؤسس لأسس تنمية مستدامة وفعّالة على المدى المتوسط والبعيد. متابعة الأداء الحكومي ومراقبة النتائج تعد عنصرًا محوريًا لتقييم فعالية القانون، وتجعل قراءة القانون وتحليله أداة حقيقية لفهم إمكانياته ومخاطره وتحديد آليات تحسينه لضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
المصدر: العمق المغربي
