اخبار المغرب

في مباهج العقل الصوفي

إن التوحد مع الحق لا يكون بأداة عقلية محضة، وإنما بأداة عقلية بصائرية. فالعقل المتعارف عليه لا يمنحنا إلا إمكانية معرفةِ الأشياء، وتنظيمِ فعالياتنا، وبناءِ قوتنا. أمَّا ما عدا ذلك فإنه يعجز عنه، ولا يدركه، وإذا حَاوَلَ فإنه يقع في مأزق الوهم. وعلى كلٍّ فإنه لا يصح النظرُ إلى الصوفية على أنها نقيضُ للعقل، فهي علمُ من العلوم له ميدانه الخاص، وأهدافه الخاصة، ولا علمَ ينشأ وينمو خارج نطاق العقل، ولكن أي عقل نقصد؟ فالعقلُ عقول، ولذا لا يجوز أن يؤخذ علمُ الصوفية كنقيض للعلوم العقلية أو النظرية، بل هو يتمفصل معها ضِمْنَ مجالٍ معرفي واحد، دون أن يَنسَى جوهره الذي هو الحب.

اضطرابُه حُبُّ ومعراجُ:

فالحب الإلهي هو جوهرُ الصوفية، والخاصية المركزية الأولى عندهم، ومضمونُ معارفهم: فطريقهم هو طريق الحب، ولعل من أدق تعريفات هذا الطريق هو أنه طريق إلى الحق المطلق مُحرِّكُهُ الحب. وهذا الأمر يشمل كل الصوفيات التي اتخذت هذا الطريق وسلكَتْهُ في جميع الأديان، فالمحبة عند الصوفية هي أهم أحوال العارف وأسمَى صفاته، وهي من الأصول المهمة في مباني التصوف، وقد أجمعت المصادر على أن رابعة العدوية (ت:581 هـ/108 م) هي أول من صدَعَ بنظرية في الحب الإلهي، استمدتها من القرآن الكريم والسنة النبوية، وفتحت بها بابًا جديدا في تاريخ الحياة الروحية في الإسلام، حيث استعملت من غير تهيب كلمة (الحب) في علاقتها بالله، في الوقت الذي كانت فيه طوائف كثيرة تُنكر أن الله يُحِبُّ ويُحَبُّ على الحقيقة تبعًا لمفهومهم وتصوُّرهَم لمعنى الأُلوهة والصلة بين الله والعالم، مع أن القرآن يقول: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يُحببكم الله) ويقول: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه).

فالصوفية لم يستبشعوا شيئا من معاني الحب ولوازمه عند كلامهم عن حبهم لله أو حب الله لهم، بل اعتبروا ذلك الحب حقيقة لا مجازا، لأنهم اختُصُّوا بها وعرفوها وجرَّبوها، وشعروا بلذاتها. فـ “حقيقة المحبة أن تهب كلَّك لمن أحببت، فلا يَبقى لك منك شيءُ (…….) وسُميت المحبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب” فالمحبة هي المحور الذي تدور عليه الحياة الصوفية والهدف الذي تتجه إليه، لأن فيها تتحد إرادةُ المحب والمحبوب، ويمَّحِي الفرق بين الجبر والاختيار، حيث الوحدة الشهودية هي غاية هذا الحب الذي أساسه الجمال. فمحبة الله تقتضي رؤية الجمال أينما كان، وحيثما كان، ولذا نجد الصوفية هم أشد الناس هياما برؤية الجمال في كل موجود له صورة الجمال، لأن علامة الحب الإلهي عندهم هي حب جميع الكائنات في كل الحضرات المعنوية والحسية والخيالية، وهذا يعني أنهم لا يكفيهم أن يتحققوا بمقام الجمال للحب والله ، بل لا بد أن يحبوا الجمال في كل مظهر من مظاهر الوجود، فحبهم الجمال لا يقتصر على صورة بعينها دون أخرى، لأن كل مظاهر الوجود هي مظاهر جمالية بالأصالة، لأنها مظاهر تجلى اللهُ فيها بجماله من اسمه الجميل، أما القبح فهو عارض في العالم، والعارضُ حُكمُه الارتفاع. ومن هذا الوجه تتوثقُ علاقة الحب بالجمال لسببين:

أولهما: أن الحب هو علة وجود العالم.

ثانيهما: أن الجمال هو الصورة التي ظهر عليها العالم.

واندغام الصورة في العِلَّةِ يتطلب الرحلةَ، والرحلة لا تكون إلا روحية. وهذا هو ما يسمَّى بالمعراج الروحي الذي هو أخصُّ خصائص الصوفية، وهو محاكاة للمعراج النبوي الذي هو الأصل الكبيرُ الذي بُنيتْ عليه الصوفية، وأُسِّسَ عمادُها المتينُ، وله تسميات كثيرة، من قبيل: السفر والطريق والرحلة والسير والسلوك والإسراء. والغاية منه القرب من الله عن طريق حالة خاصة يُدركونه فيها إدراكا ذوقيا مباشرًا، فهو ينطوي على جوهر الحياة الصوفية بجانبيها المختلفين المتمايزين والمتكاملين: الجانب العملي والجانب العرفاني (جانب المجاهدة والتخلية والتحلية والتجلية والكشف والإشراق).

فالنشاط الصوفي من هذه الوجهة هو نشاط روحي، ولكنه ليس واحدًا من ضروب النشاط العقلي المعروفة، وإنما هو شيء فوق الوعي العقلي، يُمكن ان نسميَه تحديدًا بالوعي المتعالي. فبآلية المعراج الصوفي ينتقل الصوفي من عالم الظاهر إلى عالم الحقيقة، أو من عالم الأرض إلى عالم السماء (من عالم الشهادة إلى عالم الغيب)، وأساسُ هذا التصور يكمن في أن الله هو الحقيقة الوجودية المطلقة، وهو أصلُ كل موجود ومصدرُه، والصوفي حينما يطلبه بالصعود إليه إنما يطلب أصلَه، ولكن هذا لا يَتأَتَّى له إلا إذا تحولت نفسُه عن صفاتها، وتخلصت من أدرانها وكُدُورَاتِهَا، وتحررت من قيودها، فكل عروج يعرجه رهين بالخطوات الجديدة التي يخطوها في طريق التصفية والتطهير.

فـ”الله هو عينُ الوجود” المفارقُ، وعينُ كل موجود من حيث حقيقة وجوده، لا من حيث شَيْئيتُه، بمعنى أن وحدة الوجود الصوفية ما هي إلا وحدة الشهود التي هي وحدة روحية لا مادية، عكس الوحدة المادية الاندماجية في الفكر الغربي، لأنها لا تتعلق إلا بحقيقة الله الأزلية السرمدية اللانهائية، ولا شأن لها بالمخلوق العدمي. فالواحد الحق ليس الخَلْقَ، والخلق ليس الحق، وليس ثمة حلول للحق في الخلق، ولا امتزاج بين الطبيعتين الحق والخلق. فالخلق عدمُ، والله هو الحق السرمدي للخَلْق العدمي، والوهم الوجودي مَرده إلى خلط الحق مع غير الحق، وهذا الخلط مرده إلى الجهل. وهذا هو ما عبَّر عنه ابن عربي بقوله: إن الصوفي “إذا عرج في معارج الحقائق، وحصَّل ضربًا من مكاشفات اتحاد الرقائق والدقائق، وصَحَا بعدما سَكِرَ، ونُشِرَ بعدما قُبِر، لا بد من ملازمة الأدب وتَبايُنِ الرُّتب ومعرفَةِ النِّسَب، الوقوف عند العلة والسبب”.

إن هذا التوهج العشقي الصوفي الممتدَّ على مساحات الذوق الفردي والتجربة الخاصة ليس انفلاتة اعتباطية، ولا فورة استيهامية، وإنما هو رؤية بصيرة بالأصل، منشدَّةُ إليه، محكومةُ به. ولذلك حُدِّدَت لها مَعالمُ وضوابطُ تؤطِّرُها في إطار المشهد الروحي المطلق.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *