خلال رحلاتي إلى بلدان بعيدة، لم أكن أتوقع أن أجد مغاربة في كل زاوية من هذا العالم الواسع. لم يكونوا فقط في الدول الأوروبية أو أمريكا الشمالية، بل في أصقاع نائية لم تخطر على بال الكثيرين. شباب وشابات، رجال ونساء، بعضهم في أوضاع مستقرة، وآخرون في مهن هامشية أو ظروف هشة، لكن الجامع بينهم جميعًا هو هذا السؤال الوجودي الصامت: لماذا نحن هنا؟
لا تعاني المملكة المغربية من حرب أهلية، ولا من مجاعة أو حصار اقتصادي، ولا حتى من كارثة بيئية أو انهيار مؤسساتي شامل كما هو الحال في دول أخرى تشهد نزيفاً بشرياً. ومع ذلك، فإننا أمام تغريبة مغربية صامتة وغير معلنة، تنخرط فيها كل الفئات الاجتماعية، من الأطر العليا إلى الحرفيين، من العاطلين عن العمل إلى الطلبة، وحتى الأطفال في سن الدراسة.
خلال زيارتي لحي شعبي في كوالالمبور، وجدت شابًا مغربيًا يبيع الشاي بالنعناع للسياح. في ليبروفيل، وجدت بقالاً مغربيًا. وفي غوانزو، تعرفت على تاجر مغربي قال إن الصين أعطته ما لم يستطع وطنه أن يمنحه: الاعتراف بقدراته.
الهجرة المغربية أصبحت شاملة من حيث الامتداد الجغرافي والتركيبة الاجتماعية. فبحسب تقارير رسمية صادرة عن الوزارة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج، فإن عدد المغاربة المهاجرين يُقدّر بأكثر من 5.1 ملايين شخص موزعين على أكثر من 100 دولة، ويشكلون حوالي 15% من سكان المغرب. الغالبية يتركزون في أوروبا، لكن أعدادًا متزايدة تستقر في آسيا وأمريكا وأفريقيا، في هجرة أصبحت أفقية وعالمية.
المثير أن هذه الهجرة لا تخصّ الفئات الهشة فقط. حسب تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين، فإن 600 مهندس مغربي يغادرون البلاد سنويًا، وأكثر من 23% من الأطباء المغاربة يمارسون بالخارج، في وقت تعاني فيه المنظومة الصحية من خصاص مهول في الموارد البشرية. الهجرة هنا ليست بحثًا عن المال فقط، بل عن ظروف عمل لائقة، وعن التقدير المهني.
تحويلات المغاربة في الخارج بلغت في عام 2023 مستوى غير مسبوق، وصل إلى حوالي 115 مليار درهم، أي ما يعادل 11.8 مليار دولار، وهو ما يشكّل نحو 8% من الناتج الداخلي الخام للمغرب. لكن المقلق أن 90% من هذه التحويلات تُستهلك في النفقات الأسرية، والعقار، ولا تُوجّه إلا بنسبة ضعيفة نحو الاستثمار المنتج. إنها تغريبة تدر عملة صعبة، لكنها لا تُسهم في تغيير النموذج الاقتصادي.
الأخطر من ذلك، أن الهجرة غير النظامية بدأت تستقطب حتى الحاصلين على الشهادات العليا. أظهرت أرقام المندوبية السامية للتخطيط أن 70% من الشباب المغربي يرغبون في الهجرة، وأن 55% منهم يفكرون فيها بجدية، خاصة في ظل البطالة التي بلغت 35.8% في أوساط الشباب الحضري. لم تعد المسألة مرتبطة بالجوع أو الخوف، بل بانعدام الأمل والإحساس بالتهميش واللاجدوى.
التشتت المغربي لا يمكن فهمه فقط من خلال النظرة الاجتماعية، بل يجب تحليله من زاوية السياسات العمومية وغياب نموذج تنموي قادر على خلق الأمل. هناك انسداد أفقي وعمودي في الحركية الاجتماعية، وشعور عام بعدم الإنصاف، إضافة إلى ضعف الثقة في المؤسسات. كل ذلك يجعل الهجرة ليست خيارًا اقتصاديًا فقط، بل خيارًا وجوديًا بالنسبة للكثير من الشباب: الرحيل من أجل الشعور بأنهم مرئيون، معترف بهم، أو ببساطة، أحياء.
الغريب في هذه التغريبة الحديثة أنها لا تحظى بسردية وطنية جامعة. لا أحد يروي حكاياتهم. الإعلام لا يتحدث إلا عن الجالية الناجحة في الخارج، بينما يتم التغاضي عن آلاف المغاربة في السجون الأجنبية، أو أولئك العالقين في وضعيات غير قانونية، أو حتى الذين يواجهون العنصرية في دول لا ترحب بهم.
التغريبة المغربية ليست مؤقتة، بل هيكلية. والمثير للقلق أنها لم تعد مرتبطة فقط بالفقر، بل بالطبقات الوسطى التي كان يُفترض أن تكون ركيزة الاستقرار. ومع استمرار اختلال العدالة الاجتماعية، وغياب الأفق، وتهميش الكفاءات، سيبقى السؤال المؤلم حاضرًا: هل يمكن أن يصبح “الهروب” من الوطن هو الحل الوحيد للنجاة الفردية؟
أمام هذه المعضلة، تقع المسؤولية على الدولة لإعادة ربط العلاقة بالمواطن، ليس بالشعارات أو البرامج الظرفية، بل بإعادة بناء الثقة والكرامة والعدالة. فبلد لا يحمي أبناءه من الحاجة إلى الرحيل، بلد مهدد بأن يفقد روحه، لا فقط موارده البشرية.
المصدر: العمق المغربي