ليست البيعة في المغرب طقسا موروثا فحسب، بل هي جوهر سياسي وروحي يعبر عن تعاقد دائم بين الملك والشعب، تعاقدٍ يستمدّ من الإسلام روحه، ومن التاريخ عمقه، ومن الواقع شرعيته المتجددة. وفي الذكرى السادسة والعشرين لتربع الملك محمد السادس على العرش، يتجدد هذا الميثاق الوطني بوعي سياسي وتاريخي يطبع وجدان المغاربة، ويمنح للمؤسسة الملكية بعدها الفريد الذي تتقاطع فيه المرجعية الدينية مع القيادة السياسية، ويترسخ فيه النموذج المغربي القائم على الاستمرارية في ظل التحولات، والثبات في سياق التحديث.
ولا يُفهم عيد العرش كمناسبة احتفالية فقط، بل كفعل سيادي يُعبّر عن “تجديد البيعة والعهد الشامل بجلالة الملك”، وفق المنطق الذي يجعل من إمارة المؤمنين خلافة رمزية عن الرسول ﷺ، ذات بعد روحي عميق. فالبيعة، كما تمارس في المملكة، ليست مجرد إجراء سياسي، بل هي عقد معنوي يشمل الأمة بأسرها، قوامه الطاعة والولاء من جهة، وحفظ الدين والنفس والعقل والكرامة من جهة ثانية. وتُترجم هذه الرمزية في الطقوس المصاحبة، من المظلة السلطانية ــ التي تُشبه الشجرة في دلالتها ــ إلى هيئة الموكب والمصافحة الفردية، التي تحاكي لحظة المبايعة الكبرى في وجدان الأمة.
وقد عبّر القرآن الكريم عن قدسية البيعة بعبارة جامعة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ (الفتح: 10)، كما رضِي عن المؤمنين حين بايعوا النبي ﷺ تحت الشجرة، فقال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ (الفتح: 18)، وهما آيتان تؤطران رمزية الميثاق الشرعي، الذي يُفهم في السياق المغربي كامتداد تعاقدي ضمن إمارة المؤمنين، يرسي علاقة متوازنة بين القيادة السياسية والشرعية الدينية.
وفي مواجهة بعض الأصوات التي تسعى إلى التشويش على رمزية حفل الولاء وطقوسه، فإن ما يجري في المغرب ليس طقسا طقوسيا أو استعراضيا، بل هو إعلان عن بيعة شرعية موثقة ومكتوبة، عُرفت في المغرب منذ فجر الإسلام، وظلت مرتبطة بثقافة العهد والوفاء، لا بمظاهر الخضوع أو الإذلال.
فالاصطفاف أمام الملك، وتقديم الطاعة، لا يتضمنان ركوعا ولا سجودا، كما أوضح علماء المغرب، لأن الركوع شرطه النية وأركانه معروفة، وحفل الولاء لا يحمل أي دلالة تعبدية، بل يعكس تجسيدا علنيا لعهد مكتوب وموثوق، لا يوجد له نظير في غير المغرب.
وفي قراءة موثوقة لمغزى هذه الطقوس، سبق للفقيه الأديب العلامة الراحل عبد الله اكديرة التأكيد على أن ما يحدث في حفل الولاء لا يتضمن ركوعا ولا سجودا، بل هو “إعلان عن بيعة شرعية مكتوبة موثقة”، مذكّرا بأن وثيقة البيعة التاريخية لا تزال معلقة في ضريح المولى إدريس، دلالة على رسوخها واستمرارها. وأضاف أن المغاربة “هم من اختاروا هذه البيعة، ولم تُفرض عليهم، وهم يحبون ملكهم، كما يبادلهم الملك الحب ذاته، ومن يشكك في ذلك إنما يسعى إلى التشويش على ثوابت الأمة”.
المظلة السلطانية، على سبيل المثال، ليست فقط جزءا من البروتوكول، يقول المؤرخ المغربي إبراهيم القادري بودشيش بل هي رمز روحي يُشبه في دلالته “الشجرة” التي بايع تحتها الصحابة رسول الله ﷺ، وتشير إلى الحماية الشرعية والمعنوية التي يمنحها العرش لشعبه. أما الحصان الذي يمتطيه الملك، فهو رمز تاريخي للقوة والعزة، يعيد إلى الأذهان صورة الملوك المجاهدين، بينما المصافحة الفردية، كما بيّن مؤرخو المغرب، تحاكي شكل البيعة كما جرت في التاريخ الإسلامي، وتؤكد على الطابع التشاركي وغير الإكراهي للعهد بين الراعي والرعية.
وقد أكد الملك محمد السادس، في حديث صحافي لمجلة Paris Match الفرنسية سنة 2004، أن “للبروتوكول المغربي خصوصيته، وأنا حريص على المحافظة على دقته وعلى كل قواعده. إنه إرث ثمين من الماضي ..غير أنه يجب على البروتوكول أن يتماشى مع أسلوبي”، ثم تابع قائلاً: “لقد وُلدت وترعرعت ضمن هذه التقاليد البروتوكولية، وهي تمثل جزءاً لا يتجزأ من كياني، وخاصة من حياتي المهنية التي تظل هذه التقاليد مقرونة بها”. هذا التعبير الواضح من الملك محمد السادس يجسد انسجامًا عميقًا بين الوفاء للتقاليد والانفتاح على روح العصر، ويعكس تصورًا حضاريًا للملكية المغربية، التي تحرص على الاستمرارية دون أن تقع في الجمود، وتتجدد من داخل الرموز لا خارجها.
وفي ردّ آخر عميق الدلالة، وجوابًا على سؤال Paris Match، الذي استفسر عن مصدر القوة التي يستمد منها العاهل المغربي طاقته اليومية للنهوض بواجباته، قال الملك محمد السادس: “كما قال والدي، جلالة المغفور له، أنا في خدمة المغاربة دون أن أكون عبدًا لأحد، وهذا أمر استأثر بتفكيري كثيرًا. فأنا لست في ملك نفسي… أنا هنا لكي أضطلع بمهمة، وآمل أن أتمكن يومًا من القول إنني وفيت بالعقد، ألا وهو البيعة التي تربطني بشعبي، وأنني بذلت ما في وسعي. وهذا ما يحفزني كل يوم”.
هذا الجواب يلخص المفهوم الأخلاقي والسياسي للبيعة في المغرب: الملك ليس حاكمًا فوق الأمة، بل مسؤول داخلها، راعٍ لعهدها، وحاملٌ لأمانتها. فالعقد البيعي، في هذا التصور، ليس مجرّد تقليد، بل التزام متبادل يتجدد كل يوم في الوجدان والعمل والرسالة.
ومن خلال هذه الرؤية، يتأكد أن البيعة ليست ممارسة رمزية فقط، بل أساس أخلاقي وشرعي لقيادة الدولة. وقد جسدت الخطابات الملكية، وفي مقدمتها خطاب الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، هذه الرؤية، بالدعوة إلى تحقيق الإنصاف المجالي، وترسيخ العدالة الاجتماعية، وتطوير أدوات الحكامة، وهو ما يعكس إدراكا عميقا للبيعة كمسؤولية متبادلة، لا مجرد ولاء من طرف واحد.
وإذا كانت بعض الملكيات الحديثة قد تخلت عن رموزها في سياق العلمنة أو التغريب، فإن الملكية المغربية، بثباتها على تقاليدها وطقوسها، أثبتت أن الحداثة لا تعني القطيعة، وأن الوفاء للرمز لا يمنع من التجديد والتطوير. فكلّ تلك الطقوس، من الموكب إلى المظلة، لا تُفهم إلا في ضوء سياق ثقافي وحضاري مغربي أصيل، يربط الماضي بالحاضر، والرمزي بالمؤسساتي.
وهكذا، فإن الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش لا تُقرأ خارج هذا السياق: سياق الدولة التي تجدد مشروعها من داخل إرثها، والمجتمع الذي يجد في ملكه ضامن استقراره وكرامة عيشه.
البيعة هنا ليست شعارا، بل ممارسة. ليست عقدا ماضويا، بل وعد مستمر، يُكتب كل عام، وينعقد في الوجدان قبل أن يُترجم في طقوس حفل الولاء.
المصدر: هسبريس