رحل عبد الوهاب المسيري في الثالث من يوليوز 2008، لكن أثره لم يرحل، فالرجل لم يكن مجرد اسم في سجل المفكرين، بل كان مشروعًا معرفيًا حيًّا، يتمدد في الوعي، ويستفز العقل، ويزرع في الأذهان قيمة السؤال، وفضيلة الشكّ المنهجي وقلق النموذج المعرفي.
كان المسيري حالة فكرية استثنائية في السياق العربي والإسلامي المعاصر، ليس فقط بالنظر إلى اتساع معارفه وتشعب اهتماماته؛ من النقد الأدبي إلى الحداثة والعلمانية ونهاية التاريخ، ومن الترجمة إلى العمل الموسوعي حول اليهود واليهودية والصهيونية وقضايا التحيز في العلوم؛ بل لما حمله من نزعة تأسيسية نادرة؛ نزعة الباحث عن المعنى ومبدع النماذج وسط حقل يحتفي بشعارات السلام والتطبيع من جهة، ومجال تنتشر فيه آفة “تسييس” الخطاب العربي واختزاليته في تفسير الظواهر مع إهمال الأبعاد المعرفية والمنهجية القادرة على تطوير خطاب إسلامي مركب ومتجدد، ينتقد المفاهيم المعلمنة والسطحية التي شُيّدت على رمال التبعية والانبهار.
توفرت في المسيري خصائص لا تكاد تجتمع لأحد، وقلما تتوفر في الكثيرين واحدة منها، أنه عقل نشأ من رحم الأمة ولم يكن نتاج فصيل أو حزب أو طائفة، بل كان عقلا حرا مستقلا مهموما بقضايا أمته وبتطوير مناهج البحث العلمي وتجديد الفكر العربي. لقد جسدت قصة المسيري مسار الباحث المهموم بشؤون العلم والمحترق بنار الأسئلة القلقة والإشكالات المركبة؛ حيث عرفت رحلته الفكرية منعطفات مفصلية وتحولات عميقة، ابتدأت بالمسيري المحافظ إلى القومي العروبي، مرورا بالانتماء إلى الإخوان المسلمين ثم تبني الفكر الماركسي لتتوج رحلته في الأخير بالارتباط بنموذج “الإسلام الحضاري” المتحرر والمنفتح، واعتماده أرضية للاجتهاد والنهضة الحضارية؛ والغريب في ذلك أن الرجل وهو يتحول إيديولوجيا لم يتحول سلوكيا وقيميا، فقد ظل شخصا مؤمنا مستقيما، لدرجة عدّ شيوعيته كانت “ماركسية على سنة الله ورسوله”.
تتمثل أهم خصائص المسيري في كونه مفكرا منهجيا بامتياز، طور النماذج التفسيرية والتحليلية سواء في أبحاثه عن الصهيونية أو العلمانية أو الانتفاضة أو الحداثة الغربية أو المرأة. ولم يكن مجرّد ناقد، بل كان صانع أدوات ومفاهيم. أعاد التفكير في “طريقة التفكير” ذاتها، وسعى لتطوير نماذج تفسيرية جديدة في مقاربة قضايا كبرى مثل الصهيونية وعلاقتها بالجماعات الوظيفية، والعلمانية الجزئية والشاملة في علاقتها بالحلولية، فأسهم بذلك في تشكيل مدرسة فكرية خاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، يمكن تسميتها اليوم بـ”المسيرية النقدية النماذجية”، وهي مدرسة تسائل المسلّمات وتفتح أفقًا لتفكيك البنى المعرفية المهيمنة، أملا في استعادة المبادرة الحضارية من خلال فكر مركب وأصيل.
أتذكّر، آخر تواصل جمعني به، وكان ذلك في الثامن عشر من أبريل 2008، قبل رحيله بأشهر قليلة، حيث رتبنا مداخلته الهاتفية في الجلسة الافتتاحية للمنتدى الفكري الثالث، الذي خُصص بالكامل لمناقشة مشروعه الفكري، ونظمته آنذاك منظمة التجديد الطلابي بكلية الحقوق في الدار البيضاء: يومان من النقاش العلمي والتفاعل النقدي بمشاركة نخبة من المفكرين والأساتذة من مختلف أنحاء المغرب، شكّلوا لحظة وفاء، ولكن أيضًا لحظة وعي بعمق ما تركه الرجل من أثر، وما ينتظرنا من مسؤولية وأمانة.
لم أكن أتصوّر أن هذا المؤتمر الفكري سيكون آخر منتدى طلابي علمي يحتفي بجهود المسيري في حياته، لقد رحل الرجل بعد شهور قليلة، وبقيت أعماله شاهدة على أصالته الإبداعية في مجال التنظير الأكاديمي والاجتهاد المنهجي والنحت الاصطلاحي والمفاهيمي. فقد خلف مشروعًا يحتاج أكثر من مجرد تخليد أو احتفاء عاطفي. ترك تراثًا يستحق أن يتحوّل إلى قاعدة لإعادة بناء التفكير النقدي في العالم الإسلامي وإعادة تشكيل العقل المسلم المعاصر.
لا نحتاج إلى القراءة المتبصرة لكتب المسيري فقط، بل إلى ورش مفتوح من التفكير يستلهم تجربته، ويعيد ترجمتها إلى برامج ومناهج واستراتيجيات معرفية وتربوية ومجتمعية. مشروعه لا ينبغي أن يُحاصر داخل نصوصه، بل يُقرأ بها ويتجاوزها، تمامًا كما أراد هو: تأسيس فضاءات علمية تُعنى بالتجديد لا بالتقليد، بالتفسير لا بالتكرار، بالنقد لا بالانبهار.
ختاما، إنّ أحد أوجه الوفاء الحقيقي للمسيري لا يكمن فقط في الحديث عنه، بل في احتضان طاقات شبابية جديدة، تشقّ طريقها في الفكر والاجتهاد، تُنجب لنا “مسيريات” جدد، يحملون شعلة التجديد من بعده، ويتقدمون بالمشروع إلى آفاق أرحب. وفي ذكرى رحيله، نُدرك أنه لم يكن مفكرًا فحسب، بل كان ضميرًا حيًّا للعقل المسلم، وواحدًا من الذين أثبتوا أن الفكر يمكن أن يكون سلاحًا، والمثقف يمكن أن يكون مُجاهدًا… بالكلمة، وبالمنهج، وبالموقف.
المصدر: العمق المغربي