في تقييم المقاربة المغربية لتدبير الشأن الديني بأوروبا (ج 1)

مؤسسات ومجالس مغربية تتزاحم على تدبير الشأن الديني!
أود أن أستهل هذه السلسلة من المقالات بالإشارة إلى أنه سبق لي وأن عالجت موضوعها، سواء في كتابي الذي صدر عام 2023، والموسوم بـ “وظيفة الإمام في السياق الأوروبي وضرورة التجديد: الحالة البلجيكية أنموذجا”، أو في لقاءات وفعاليات مختلفة. وقد ارتأيت أن أعيد نشرها مع بعض الإضافات الضرورية والتوضيحات اللازمة، لاسيما وأن الموضوع أصبح اليوم ذو راهنية خاصة في ظل النقاشات الحالية حول طبيعة المقاربة المغربية للشأن الديني لمغاربة أوروبا.
وليس الهدف من هذا، الإساءة إلى أي شخص أو التقليل من أي مؤسسة (كما قد يؤول البعض!)، بل الاشتغال المنهجي بموضوع الشأن الديني المغربي في أوروبا، وما يمت إليه بصلة، مثل قضايا المسجد والإمام والتدين والمجالس المغربية المعنية بالشأن الديني وغيرها، وذلك باعتماد مقاربة موضوعية متجردة من أي تحيز شخصي أو إيديولوجي، بغرض تقييم هذه المسألة المصيرية في الهوية الدينية لمغاربة أوروبا، بما في ذلك الأجيال الأخيرة التي ولدت في أوروبا.
وسوف أحاول جاهدا في هذا النقد التقييمي، وفي الوقت ذاته، التقويمي، الوقوف على مكامن القوة والقصور في المقاربة المغربية على حد سواء، دون تبخيس ما قدمته الدولة المغربية في هذا الصدد، وأيضا دون التغاضي عن الاختلالات التي تعتري المقاربة المغربية للشأن الديني المتعلق بمغاربة أوروبا. وآمل أن يؤخذ كلامي بعين الاعتبار، سواء من طرف الجهات المكلفة السياسية والدينية والديبلوماسية المكلفة بمغاربة أوروبا، أو من طرف وسائل الإعلام المغربية المهتمة بالحضور المغربي في الخارج، أو من طرف الباحثين ومختبرات البحث المتخصصة في قضايا الهجرة والعلاقات الدولية.
تراكم مؤسسي مغربي في تدبير الشأن الديني
لا يمكن إعطاء موضوع المسجد عامة والإمام خاصة في السياق الأوروبي والبلجيكي حقه دون التوقف عند الجهود المتميزة التي تقدمها الشريحة المغربية منذ موجات الهجرة العمالية الأولى في ستينات القرن الماضي، ولا تخلو أي مدينة صغيرة أو كبيرة يعيش فيها المغاربة بمختلف البلدان الأوروبية من مسجد يحمل اسمهم، ويعكس الطابع الثقافي والإثني للقبيلة أو المنطقة الأصلية التي ينحدرون منها. ويمكن التمييز بين نمطين من المؤسسات المغربية العاملة في السياق الأوروبي.
النمط الأول: يتعلق بالجمعيات والمساجد والمراكز والمدارس التي أسسها مغاربة على مر عقود الإقامة في أوروبا، وقد أفضى ذلك إلى تراكم مُهمّ فيما يرتبط بما هو مؤسسي وإداري ومنهجي، بالطبع لا يخلو من سلبيات وتحديات، غير أنه تراكم تصاعدي إيجابي، حيث لم يعد مغاربة أوروبا اليوم يركزون على أهمية التعليم والترشيد الديني للأجيال الأخيرة فقط، بل أصبحوا يراهنون أيضا على جودة هذا التعليم وذلك الترشيد ومخرجاته ونتائجة الإيجابية.
وقد نشأ في العقد الأخير وعي عميق بين أوساط مغاربة أوروبا بضرورة تأهيل مؤسسة المسجد والرقي بوظيفة الإمام في السياق الأوروبي العلماني والتعددي المعاصر، ليس فقط على مستوى لغة التخاطب والتواصل، بل على مستوى الخطاب الديني المعتمد أيضا.
ويلاحظ أن معظم هذه المؤسسات والمراكز “المغربية” تعمل بشكل مستقل عن السياسيات الدينية الرسمية المغربية، بالمقارنة مع مثيلاتها لاسيما التركية، التي تظل في ولاء تام، إما للدولة التركية عبر مؤسسة رئاسة الشؤون الإسلامية التركية “ديانت”، وإما في تبعية للمنظمات التركية الأصلية، مثل ميلي كوروز والسليمانية والخدمة.
النمط الثاني: يتحدد في المؤسسات المغربية الرسمية المكلفة بمغاربة أوروبا والعالم. ويتعلق الأمر بثلاث مؤسسات معتمدة تتخصص كل واحدة منها في مجال معين حسب الظواهر والمراسيم المؤسسة والمنظمة لها. وتعتبر مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج أقدمها تاريخيا حيث تأسست عام 1990 من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، وهي تشتغل بقضايا الهجرة المغربية من خلال مختلف البرامج التربوية والثقافية والاجتماعية والقانونية والتنموية. أما مجلس الجالية المغربية بالخارج فذو طابع استشاري يضطلع بوظائف الإحاطة بإشكالات الهجرة واستشرافها والمساهمة في تنمية العلاقات بين المغرب وحكومات ومجتمعات بلدان إقامة المهاجرين المغاربة. في حين تتحدد مهمة المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة في وضع إطار مرجعي ديني لمغاربة أوروبا وتحقيق الأمن الروحي وتحفيز الحوار.
مؤسسات ومجالس مغربية تتزاحم على تدبير الشأن الديني!
ما يسترعي النظر هو أن المؤسسات الثلاث المذكورة أعلاه تتقاطع في اهتمامها بالشأن الديني المغربي في أوروبا. ورغم أن لكل واحدة منها إطارها القانوني الواضح، إلا أنها تتزاحم فيما بينها لتمثيل الشأن الديني المغربي في أوروبا، أو على الأقل لحيازة موطئ لها في الجغرافية الدينية لمغاربة أوروبا. ولا يقتصر عملُها على الوعظ التقليدي فقط، بل يتجاوزه إلى تنظيم التكوين المستمر والبحث الأكاديمي والندوات الدولية.
وعادة ما يخلق هذا التقاطع الوظيفي نوعا من اللبس واللاوضوح، لأنه بدل أن تركز كل مؤسسة على المهام التي يخولها لها القانون المغربي، فإنها تحاول الإسهام أيضا في مقاربة الشأن الديني سواء عقب كل مستجد يطرأ على مغاربة أوروبا ويمس الجانب الديني بشكل أو بآخر، أو عبر شتى المبادرات التي يتمثل أغلبها في الندوات المكرورة والتكوينات الشكلية واللقاءات النظرية، والتي قلما تمسّ الإشكالات القانونية والفقهية والسياسية والاجتماعية والهوياتية التي يتخبط فيها مغاربة أوروبا عامة، ومؤسسة المسجد بما فيها وضعية الإمام خاصة.
وتجدر الإشارة إلى أن تجربة المغرب في تدبير الشأن الديني وتكوين الأئمة ونشر الإسلام المعتدل بدأت تسترعي الاهتمام من بعض الدوائر السياسية الأوروبية. وقد تعزز هذا المجال الحيوي بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، الذي تم تدشينه في 27 مارس 2015. وقد طلبت دول مثل مالي وتونس وفرنسا من المغرب توفير التدريب لأئمتها، كما أبدت بلجيكا اهتمامًا بهذا الأمر. يذهب الباحث الدكتور محمد حصحاص إلى أن الأنموذج المغربي يعمل على إضفاء الطابع المؤسسي على التدريب الديني للأئمة لتجنب احتمال أن يصبح أداة في أيدي الحركات السياسية التي قد تؤدي إلى التطرف أو تظهر معارضة سياسية، وهو أنموذج يروق للمؤسسات الأوروبية. ثم يمثلُ حصحاص لذلك بالمجلس الأوروبي للعلماء المغاربة، الذي تبنى هذا الأنموذج منذ 2010، عبر تنظيم ندوات علمية حول القضايا الدينية وتقديم التدريب والإرشاد للأئمة في جميع أنحاء أوروبا الغربية. (ينظر: The European Imam, A Nationalized Religious Authority, p. 8788)
ونوافق الباحث حصحاص إلى حد كبير فيما يتعلق ببعض الأنشطة “العلمية” التي تنظمها المؤسسات المغربية المعنية بالشأن الديني لمغاربة أوروبا، بما فيها المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة، لكن في الوقت نفسه نشير إلى أن هذه الأنشطة والفعاليات النظرية والشكلية، على كثرتها وتنوعها، لم تنتقل بالمقاربة المغربية إلى أوساط مغاربة أوروبا، سواء في مساجدهم ومراكزهم وجمعياتهم التي تعدّ بالآلاف أو عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي التي تشكل الوسيلة الأساس للوصول إلى أجيال الهجرة الأخيرة.
ثم إن أنموذج التدين المغربي المتسامح لا يتراوح مكانه، لأنه رغم مرور عقود طويلة من استقرار المغاربة في أوروبا، فلا تزال مؤسساتهم الدينية تعاني الكثير، من سوء التدبير الاستراتيجي، وغياب التمويل القارّ، وغياب التنسيق الفعال، وزحف الإيديولوجيات الدينية الخارجية. ولا يمكن تنزيل ذلك التدين المغربي النموذجي في ظل هذه الوضعية الصعبة، التي ينبغي أن تصحح وتجدد وتؤهل أولا. ولعل الضحية الأهم في هذه المعادلة المختلة هو الإمام، الذي ينبغي أن يكون عاملا فاعلا في الشأن الديني، لا مجرد عنصر سالب توجهه أوامر المسؤولين داخل مؤسسة المسجد وخارجها.
وحتى لا نحيد عما تقتضيه الموضوعية البحثية سوف نُعرف في المقالات اللاحقة بكل مجلس أو مؤسسة بشكل مقتضب، ثم نقدم أمثلة من بعض الأنشطة المتعلقة بالشأن الديني ومؤسسة المسجد ووظيفة الإمام التي نظمتها وتنظمها هذه المؤسسات المغربية الرسمية، على أن نختم كل مقالة بمناقشة نقدية موضوعية لطبيعة تعاطي هذه المؤسسات مع الشأن الديني المغربي في السياق الأوروبي تركيزا على موضوعات المسجد والإمام والتدين. ونعتمد في هذا الصدد نوعا من النقد التقويمي الموضوعي من منطلق بحثي صرف، وذلك بغرض الخروج من هذا البحث بنتائج واقعية وعملية حول المقاربة المغربية الرسمية لتنظيم الشأن الديني لدى مغاربة أوروبا.
بالإضافة إلى ذلك، سوف نتناول المبادرة الملكية المتعلقة بإحداث “المؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج”، وننظر في طبيعة هذا المشروع الذي يبدو “واعدا”، لاسيما وأنه يرمي إلى تصحيح المسار الطويل الذي قطعته مختلف المؤسسات والمجالس المكلفة بمغاربة أوروبا والعالم دون تحقيق الأهداف المسطرة في القوانين التأسيسية لها. وأكثر من ذلك، لم تكن في مستوى تطلعات مغاربة الخارج عامة، والأجيال المغربية الأخيرة خاصة. لذلك، نأمل أن تنجح المؤسسة المحمدية في تجميع الجهود المشتتة والصلاحيات المتفرقة وتوجيهها لخدمة مغاربة أوروبا والعالم بالدرجة الأولى، لا خدمة الأجندات الحزبية والسياسية والمصالح الشخصية. وفي الوقت نفسه، نأمل أن تعمل هذه المؤسسة على ترشيد الميزانيات الهائلة التي تُنفق على مجالس ومؤسسات وجمعيات لا تقدم شيئا يُذكر للمغاربة سواء في الداخل أو في الخارج.
يُتبع..
*أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية لدى جامعة لوفان في بلجيكا، ورئيس مركز اجتهاد للدراسات والتكوين في بلجيكا
المصدر: العمق المغربي