مساء الجمعة، سقطت أربعة مقذوفات على أطراف مدينة السمارة، في اعتداء جبان شنّته ميليشيات جبهة البوليساريو الانفصالية. لم تُسجّل إصابات في الأرواح أو أضرار مادية تُذكر، لكن ما كُشف بعد الجريمة كان أخطر من أثر المقذوفات ذاتها. مرة أخرى، تبيّن أن خطاب تُجّار النضال والمقاومة لا يكون دائمًا وطنيًا، وأن بعض من يرفعون الرايات البعيدة يسقطون عند أول امتحان للسيادة القريبة.
السمارة ليست مدينة هامشية في الجغرافيا أو في التاريخ. إنها مركز روحي وتاريخي، شكّلت عبر عقود ركيزة من ركائز السيادة المغربية، ومحطة بارزة في مسار مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني. على أرضها بُنيت زاوية الشيخ ماء العينين، بتزكية سلطانية من مولاي عبد العزيز، ومنها انطلق الربط العضوي بين الجنوب والدولة المركزية. من يستهدف السمارة لا يهاجم موقعًا جغرافيًا معزولًا، بل يعتدي على الذاكرة الوطنية والشرعية التاريخية للمغرب في صحرائه.
الاعتداء الأخير لم يكن تصعيدًا ذا أثر عسكري نوعي، لكن ما أثار القلق هو طبيعة المقذوفات المستعملة. تقارير أولية تحدّثت عن تشابه محتمل مع صواريخ “أراش” الإيرانية. وإذا ما تأكدت هذه المعطيات، فنحن أمام احتمال واقعي لاختراق إيراني مباشر للجبهة الانفصالية، إما عبر دعم تسليحي أو شبكة لوجستية تمر عبر جنوب الجزائر. وهو ما يطرح تساؤلًا مركزيًا: هل صارت البوليساريو ذراعًا وظيفيًا في استراتيجية إقليمية عابرة للمجال المغاربي؟
هذا ليس مجرّد تحليل، بل مسار موثّق بسلسلة من المعطيات: رسائل سياسية متبادلة بين البوليساريو وطهران، مواقف رسمية لمندوب إيران في الأمم المتحدة، ودلائل قدمها المغرب منذ 2018 حول وجود دعم وتدريب عسكري من حزب الله للجبهة الانفصالية. حينها، اختار بعض النشطاء المغاربة أن يشككوا في الدولة، لا في الطرف الخارجي. بل اتهموا المغرب بـ”الافتراء” على إيران، مطالبين بما أسموه “الأدلة المادية”.
تجاوز البعض حدود النقاش إلى ابتزاز سياسي صريح. ظهرت تصريحات استفزازية تهاجم كل من يطالب بالتعامل الجدي مع اختراقات إيران، ووصفت ذلك بأنه “دعوة استئصالية” أو “خدمة لإسرائيل”. بل إن بعضهم ذهب أبعد، معتبرًا أن التضامن مع إيران وميليشيات “حزب الله” هو امتداد لما يصفونه بـ”الموقف الشعبي ضد التطبيع”، وأن الدفاع عن السيادة المغربية أمام مخططات إيران في المنطقة المغاربية “يفتقر إلى السند”.
لكن هذه المواقف لا تعبّر عن رأي ينهل من الوطنية، بل عن مفارقة صارخة: حين يكون المعتدي من جهة تتقاطع مع انحيازاتهم الأيديولوجية، يصبح الوطن في المرتبة الثانية. السيادة تُعامل كقضية قابلة للابتزاز، ويتم اللجوء مباشرة إلى النيل من الدولة، وشتم وسائل الإعلام الوطنية، باسم “الممانعة”.
والمفارقة الأشد مرارة، أن بعض الأصوات التي تصدّرت المشهد الاحتجاجي ضد التطبيع، والتي لا تفارقها الكوفية الفلسطينية في كل ظهور، اختارت الصمت المطبق حين سقطت المقذوفات على أرض مغربية. وهي نفسها التي لا تتردّد في توزيع صكوك الوطنية والاتهامات بالخيانة يمينًا ويسارًا، وكأنها تمتلك وكالة حصرية على الانتماء.
تتحدث هذه الوجوه عن “مؤامرات صهيونية” وعن “عملاء داخليين”، وتشكّك في كل مؤسسات الدولة، وتخوّن الإعلام الوطني الذي لم يدّخر جهدًا في الانتصار لفلسطين. لكنها، في المقابل، تُلتمس لها الأعذار حين يتعلق الأمر بالاعتداء على السيادة المغربية، وتُقدّم مرافعات تبريرية تخدم الأجندة الإيرانية أو الجزائرية، أو من يدور في فلكها.
هذا النوع من الخطاب لا يخدم لا فلسطين ولا المغرب. إنه يسيء للقضية العادلة بتوظيفها في بازار المزايدات، ويُحوّل الكوفية من رمز للتحرر إلى غطاء لتبرير الانحياز المريب. ومن يهاجم مؤسسات بلده ويشكك في وحدة وطنه، لا يمكن أن يدّعي الانتماء إلى قضية عادلة في أرض غيره.
المغرب، من جهته، رد كما تفعل الدول الراسخة: برصد دقيق، وتحرك ميداني هادئ، وبدون انجرار إلى التصعيد. كما عبّرت مختلف مكونات المجتمع المغربي عن إجماع وطني صريح في التنديد بالعمل الإرهابي الجبان، والدفاع عن الوحدة الترابية دون تردد أو حسابات ضيقة.
في لحظة كهذه، لا يُقاس الموقف بحجم الصراخ، ولا بمن يرغي ويزبد عبر “اليوتيوب”، بل بوضوح الاتجاه، وصدق الالتزام. وقد أثبتت السمارة مرة أخرى أنها ليست هامشًا في الخريطة، بل قلبًا نابضًا في ضمير الوطن.
المصدر: هسبريس