تفاعلا مع الدرس الافتتاحي الذي قدمه أستاذ التاريخ الطيب بياض بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان يوم الخميس 20 نونبر 2025 تحت عنوان “جدوى التاريخ وصنعة المؤرخ”.
أفاض واستفاض الأستاذ الـــــــــــطيب بــــــياض في درس افتتاحي قارب الساعة من الزمن بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، وهو يقارب جدوى التاريخ وصنعة المؤرخ، انتهج بياض طريقا ثنائي المسلك، سعى في الأول إلى بسط التجارب والنماذج المختلفة لتعاطي الدول مع التاريخ، أو لنقل حينما استنجدت هذه الدول بالتاريخ ووظائفه ليكون أحد أعمدتها الأيديولوجية الرئيسة. فيما فكك في المسلك الثاني عدة المؤرخ ومنهجه وأدوت صنعته.
نقترح في البداية أن تكون القراءة عبر نفس المسارين الذي اقترحهما الأستاذ المحاضر الطيب بياض
أولا: في الحاجة للتاريخ أو الدولة المؤرخة
استعرض بياض مجموعة من تجارب الدول في علاقتها بالتاريخ، وركز على نموذجين الفرنسي والأمريكي. ففي فرنسا المنكسرة والمنهزمة بعد واقعة سيدان 1870، ونهاية حكم سليل البونابرتية، ولأن المناخ السياسي مناخ الجمهورية الثالثة، فإن المعرفة التاريخية تأثرت بالسياسات الرسمية للجمهورية التي مارست نوعا من الضغط السياسي على مؤرخي هذا الفترة، فقد كانت الدولة تسهل الأبحاث بتمويلها لعدد من مؤسسات التاريخ، وبذلك سيتنامى عدد من المؤرخين الموظفين لدى الدولة خلال القرن التاسع عشر، فقد اعتبر هذا القرن قرن الوثائق السياسية بامتياز، خاصة مع تراكم الأرشيفات الخاصة بالمعاهدات والمراسلات، لقد جعلت الجمهورية الثالثة من نفسها “دولة مؤرخة”.
وسيعرج باستفاضة الأستاذ بياض على علاقة فرنسا بالتاريخ مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، حيث خلفت الحربين العالميتين والأولى والثانية وبينهما الازمة الاقتصادية لسنة 1929 عواقب مؤلمة، بل مهولة. فقد شوهت هذه الاحداث مظاهر الحضارة البشرية أبشع تشويه. وأوقفت المد الحضاري سنين عديدة. كما استنزفت كثيرا من الموارد الاقتصادية والدماء البشرية. وعلت الوجوه مسحة من الكدر والشقاء. وانفرط عقد الامن والطمأنينة، فعمت الفوضى والاضطرابات، وانتشرت البطالة والفاقة، وزادت اعداد صرعى الجوع والمجاعة. لقد كانت هذه المساغب والأزمات نموذجا لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب التي شهدتها أديم الكرة الأرضية.
خلال هذه الفترة الزمنية برز الثنائي لوسيان فيفر ومارك بلوك وكان هذا الظهور إيذانا بميلاد اتجاه جديد سمي لاحقا بمدرسة الحوليات في ارتباط بظرفيتين عالميتين، الأولى: نهاية الحرب العالمية الأولى وما ارتبط بها من إعراض الجيل الذي عاش صدمة الحرب عن كل ما يتعلق بالحياة السياسية. والثانية بأزمة 1929 التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي. مما جعل أصوات المؤرخين ترتفع آنذاك لفهم وتحليل ما يجري.
لقد بدأت الأسئلة تتوجه إلى الحقل الاقتصادي، ولا سيما إلى تاريخ حركة الأسعار، لفهم ما يجري بين انتكاسات وتراجعات وأزمات اجتماعية. بدأ الحديث عن سياسات اقتصادية في بلدان أوروبا وأمريكا، وظهرت عدة كتب في التاريخ الاقتصادي وبخاصة في تاريخ حركة الأسعار وتذبذبها. وفي هذا السياق كان العنوان الأول للمجلة: حوليات: التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لافتا للنظر. فحتى مارك بلوك وهو يبحث عن أسباب الهزيمة الغريبة سيخرج في الأخير بخلاصة مفادها أن النصر الألماني كان نصر فكريا، سطعت شمس العرق وأفلت شمس الأنوار.
اختتم الأستاذ بياض الشق الأول من الدرس الافتتاحي قراءة متفحصة لتجربة الأمريكان في البحث عن جدوى التاريخ، حيث كانت حاجة هذه الدولة إلى الوظيفة الاجتماعية للتاريخ باعتباره أداة لاحمة للشعور الجمعي الذي يحقق الشرط الأولي للحديث عن الأمة. أمة تعتمد على ذكرى نشأتها التاريخية، التي تعيش على وعد مؤسسيها.
في المسار الثاني من محاضرته استعرض بياض الجانب المنهجي وهو الشق الثاني من العنوان الموسوم بــ “صنعة المؤرخ”، وحددها في خمس اعتبارات أو ضوابط عامة.
ثانيا: ضوابط ومحددات صنعة المؤرخ
الاعتبار الأول: إعادة تحديد موضوع التاريخ
استهل بياض هذا الضابط أو المحدد بمقولة لمارك بلوك “نقول أحيانا: التاريخ علم الماضي، يا له من كلام سيء، وإنه لأمر سخيف أن يكون الماضي في حد ذاته موضوعا للعلم”. بهذه الشاكلة هشم مارك بلوك الجرة فوق رؤوس الإخباريين ورواة السير ومحنطي التاريخ. ثم سرعان ما ينتقل من هدم القديم إلى تشييد الجديد، حيث أن موضوع التاريخ دائما وأبدا هو الإنـــــــسان، في هذا السياق ستحضر بياض عبارة “في الواقع تعلمنا منذ زمن طويل، من خلال شيوخنا العظماء من أمثال ميشلي دوكولانج ان ندرك أن موضوع التاريخ بطبيعته هو الانسان” او بعبارة أكثر دقة “يجب إضافة الإنسان في الزمن”. إن التاريخ بحسب العلامة ابن خلدون ليس تسلسلا للأحداث من الزمن، بل هو حركة جدلية للتطور الذي يحتل فيه الانسان المركز ويمثل محركه الأول. فالإنسان هو القوة الدافعة للتاريخ بفضل أعماله ومساعيه وعلومه وصنائعه وبتعبير ابن خلدون هي قوام “العمران البشري”.
الاعتبار الثاني: الوثيقة في ورشة المؤرخ
دشن بياض المحدد الثاني وهو يتحدث ان عدة صنعة المؤرخ عن الأثر، حيث البحثر عن السر لغاية التفسير، لكن يفسر ماذا؟ ويفسر بماذا؟ وهل يفسر الوقائع والاحداث؟ أم يفسر مضامين المادة لفهم ما جرى؟ هنا بياض يوسع من مفهوم الوثيقة ويخرجها من شرنقته الوضعانية إلى فضاء أرحب إلى الفضاء الحولياتي، حيث الوثيقة قد تكون نقيشة، أو لقى أثرية ،أو رواية مكتوبة أو شفوية، هي في نهاية المطاف شواهد المؤرخ أن يبرع في اقتناص شواهده أولا، وألا يطمئن إليها ثانيا، وهنا الأستاذ بياض يدعو الباحث إلى الانتقال من مستوى الاستماع للنص إلى مستوى استنطاقه. وليختم هذا بياض هذا الضابط بمقولة “التاريخ يكتب بالصنعة قبل ان يكتب بالوثائق”.
يلح بياض على أهمية الوثيقة ودورها في كتابة التاريخ، فبالنظر لإرث المدرسة الوضعانية، التي فصلت بين مرحلة تحليل الوثائق ومرحلة التركيب، فمارك بلوك ينحى عكس هذا تماما، فمن أجل فهم التاريخ وجب عدم الفصل بين المرحلتين، “حتى لو كانت (الوثائق) خالية من كل لبس، لا تتكلم إلا إذا أحسن المؤرخ استنطاقها. تلك هي الضرورة الأولى لكل بحث تاريخي سليم”. أما مرحلة التركيب فقد أبدع فيها المؤرخون اللاحقون عبر آليتين حسب محمد حبيدة: المونوغرافية في مرحلة أولى باعتبارها بحثا تفصيليا يرتبط بمجال جغرافي محمد وموضوع مطوق، ثم التركيب في مرحلة ثانية يشمل مجالا شاسعا.
الاعتبار الثالث: صنعة المؤرخ لا تحتمل إصدار الأحكام
جدلية القاضي المؤرخ، دشن لها بياض بعارة بليغة لبول ريكور “وماذا بأمر المواجهة بين مهمة القاضي ومهمة المؤرخ؟ إن ظروف النطق بالحكم داخل محكمة قد فتح، كما رأينا، ثغرة في الجبهة المشتركة التي يحتفظ بها المؤرخ في وجه الخطأ والظلم، على القاضي أن يقضي إنها وظيفته، عليه أن ينهي، عليه أن يبت (…) كل هذا لا يقوم به المؤرخ، ولا يستطيع ان يقوم به، ولا يرغب في أن يقوم به، وإن حاول وجازف بان بنصب نفيه وحده محكمة للتاريخ، فإن ذلك سيكون على حساب الاعتراف بالطابع المؤقت لحكم يعترف بتحيزه، بل حتى بطابعه النضالي. لكن عندها فإن حكمه الجسور يخضع لنقد جماعة العاملين بكتابة التاريخ، ولنقد الجمهور المستنير، وسكون مصنفه عرضة لسيرورة لا تنتهي من المراجعات تجعل من كتابة التاريخ إعادة كتابة مستديمة. هذا الانفتاح على إعادة الكتابة هو علامة الاختلاف بين حكم تاريخي مؤقت وحكم قضائي نهائي” ذاك ما سبق أن نبه مارك بلوك بشكل أكثر صرامة، قبل أزيد من نصف قرن، ذ يرى جاك لوغوف في تقديمه لكتاب بلوك عن صنعة المؤرخ أن رفيق درب لوسيان فيفر في تأسيس كمجلة الحوليات، كان يمقت المؤرخين الذين يصدرون الأحكام عوض ان يعمدوا إلى الفهم، وهو الحريص على ترسيخ أقدام مهنتهم بشكل أعنق في الحقيقة والأخلاق، إذ الحقيقة غاية علم التاريخ والأخلاق منتهاه. ألم يكن المنصب الذي شغله جول ميشلي في كوليج دو فرانس بين 1838 و 1851 هو كرسي التاريخ والأخلاق؟
الاعتبار الرابع: صنعة المؤرخ والحاجة إلى صياغة الإشكاليات
لقد استطاع مارك بلوك ولوسيان فيفر افتكاك التاريخ من شرنقة المدرسة الوضعانية التي سيجت موضوعاتها السياسية بأبراج عالية، وجعلت من المؤرخ موظفا يختبئ خلف النصوص والوثائق، فإن طرق القضايا المرتبطة بالمجتمع وبنياته اقتضى من الشابين المتحمسين مارك بلوك ولوسيان فيفر التأسيس لفهم جديد في تناول المصادر التاريخية. لذلك قد ألحا منذ البداية على ضرورة تدخل نشيط للمؤرخ في الوثيقة، “فليس هناك ما يتحرك بذاته، لا يوجد شيء كمعطى، فكل شيء يبنى”. فبهذا الفهم، المؤرخ مطالب ببناء مواد بحثه، ووضع الوثائق في سلاسل قابلة للفهم، أي أن يضعها في سياق نظري يتماشى وطبيعة الموضوعات التي يبحث فيها. ولمن أراد سلك غير هذا الطريق فهو “لا يعرف عما يبحث وبالتالي لا يعرف ماذا يجد”.
تناول الأستاذ بياض الأدوار المهمة لمدرسة الحوليات، هذه المدرسة التي استثمرتفي التطورات المعرفية والطفرات الابستمولوجية، من أجل إنتاج خطاب معرفي جديد يقدم فهما آخر للتاريخ. هذا الجيل الذي أراد من التاريخ أن يكون إبداعًا على مستوى المهمات الجديدة، فرفعت شعار التجديد في ثلاث قضايا كبرى: موضوعات الكتابة التاريخية، ومادتها المصدرية، وخطها الزمني. فمنحت بذلك حق المواطنة للشرائح الاجتماعية “المهملة” و “المتروكة”، كما اعتمدت على أنواع جديدة من المصادر، وسلطت عليها الضوء من زوايا جديدة بنوعية التساؤلات المطروحة ونوعية القضايا المتناولة. أما التحقيب التاريخي، فقد تجاوزت الزمن القصير زمن الأفراد، إلى الزمن الطويل زمن الظاهرات الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والاقتصادية.
الاعتبار الخامس: اللغة وعاء للفكر وجسر عبور نحو المتاح
اختتم بياض محاضرته بالدعوى إلى تعلم اللغة باعتبارها أداة عبور لفهم متطلبات المرحلة، خاصة خلال هذه المرحلة التي يتزايد فيها الطلب الاجتماعي على التاريخ واقتحام حقل التاريخ لعوالم الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لأنه إذا كان الانفتاح المنتج للمؤرخ على مختلف المجالات الإنسانية يشكل احد المرتكزات لفهمه المجدد للكتابة التاريخية ومن معايير نجاحه تملكه لرصيد أدوت صنعته كفيل بمعالجته البيداغوجية ذات طابع إشكالي، فإن ذلك لا ينسينا التشديد على احد اهم أدوات صنعته ويعني به نمط الكتابة وأسلوب التعبير ولغة إيصال المعنى، فالأسلوب الادبي الشيق لا ينقص من علمية المعرفة التاريخية بل يضمن لها حفاوة الاستقبال والوقع الحسن في نفوس القراء، متسائلا بياض في سياق ما طرحه الكاتب الفرنسي إيفان جابلونكا “التوفيق بين البحث والإبداع، ابتكار أشكال جديدة لتجسيد المعرفة، تحديث العلوم الاجتماعية، هذه مقترحات متشابهة، لقد أدت مهننة المعارف منذ القرن التاسع عشر إلى التقدم على مستوى المنهج، ولكن إلى تراجع من حيث الشكل والإحساس والنشوة، قد نجيب بأن الباحث عالم متخصص بحاجة إلى زملاء وطلاب وليس إلى قراء عاديين، المشكل هو إغفال الشكل وازدراء الكتابة والتواصل تشكل عقبات في وجه المعرفة برمتها.
المصدر: العمق المغربي
