تستحق الأفلام التي تملك عمودا فقريا لكي تخرج من حواسيب المونتاج إلى قاعات السينما أن تقصد لتشاهد ويكتب عنها دون قراءة ما كتب عنها لكي يولد النص من المشاهدة، وليس قبلها. تستحق أن يكتب الناقد على ضوء الشواهد المادية التي يلتقطها من الفيلم، سرديا وبصريا.

سرديا، هذا فيلم يحمله ممثلان تياران إيديولوجيان. وبصريا، مكانان متباعدان. (معركة تلو أخرى 2492025 للمخرج بول توماس أندرسون) ديكابريو ضد شون بين، اليسار المتشظي ضد تحالف البوليس والليبرالية المطلقة، مكان مديني مزدحم وطريق طويل خال مخيف. هنا، يجري الحب والحرب تحت مراقبة بوب (ليوناردو ديكابريو) وستيفن (شون بين).

مثل ديكابريو مع جاك نيكسلسون وروبير دي نيرو أمام كاميرا مارتن سكرسيزي؛ لكن في أفلام كثيرة يكون ديكابريو رفقة ممثلين أقل حضورا فنيا منه، لكنه هنا في مواجهة العملاق شون بين، وهذا يحمي كاستينغ الفيلم من خلل اعتماد ممثلين من مستويات متباعدة. أدى شون بين الدور بسلاسة مذهلة وبسوداوية على حافة الجنون، يمشي كأنه خُتن للتو، قدم أداء كاريكاتوريا يكشف موقف المخرج العدواني من الشخصية. يعمل ضابطا في جهاز بوليس مخترق من قبل مافيا يمينية عرقية. ضابط يطارد شابة ثورية حامل لا تنوي تحمل التبعات. هذه محنة الثوريين القدامى في زمن انتصار الليبرالية المطلقة.. يحنون إلى زمن انطلاق الثورة الكوبية ولاهوت التحرير اللاتينوأمريكي المُحارِب وفيلم جيلو بونتوكوربو “معركة الجزائر” 1966م الذي تظهر لقطات منه.

لقد فشل التغيير السياسي، لا أمل في التغيير السلمي. لذلك، انتقل اليساريون إلى العنف المسلح. يلمع الثوريون التروتسكيون، مؤقتا، في زمن البوليس. شابة ثورية في فراش ضابط شرطة، أي عار. ضابط أبيض يخجل من علاقته مع شابة سمراء، ويعتبر ذلك كارثة في سجله الوظيفي. في لحظة المحاسبة تنكشف حقيقة: ينقرض الرفاق فجأة، ويموتون مبكرا؛ بينما يشيخ الرأسماليون ويسمَنون على مهل، في ردود الفعل الصغيرة ينكشف اليمين العرقي الذي يخفي وجهه النازي.

يقع الثوري بوب في الحب. هذا وعد إيديولوجي جذاب ورومانسي. يعزز جسد الممثل هذه الجاذبية. تضاهي وسامة ديكابريو وسامة براد بيت وآلان دولون وروبير ريدفورد. ممثلون أكثر وسامة من كل نساء الأرض (كحال الأسد واللبوءات).

تستسلم العين والكاميرا للجمال. كان جاك (ديكابريو في فيلم تيتانيك 1997 للمخرج جيمس كاميرون) ـ هو العاشق المضحي الذي أبكى البنات أوسم من حبيبته روز (كيت ويتسلي).

في فيلم “معركة تلو أخرى” لا يحتاج أداء دور بوب وسامة زائدة. قرأ المخرج وجه الممثل، وحدد التغيير الضروري. لذا، يعير ديكابريو وجهه الأرستوقراطي لتقمص دور ثوري سوقي. هنا يؤدي شخصية بئيس مشرد مطارد. شخصية راسخة في الثقافة الشعبية؛ بدءا من الملابس الواسعة، وطريقة التدخين، وتحريك مبالغ فيه للملامح وحركات وجه زائدة للتعبير عن انفعالات البيئة الشعبية… بوب ثوري طفولي تقول له ابنته “أكبر قليلا”. هذا مثال لعظمة ممثل حربائي على الشاشة.

حلت العين محل الأذن بفضل الكاميرا. لذا، “علا شأن الجسد في العصر الحديث” (جورج فيغاريلو، تاريخ الجمال، ص 343).

هنا يؤدي ديكابريو الوسيم دورا لا يطابق أناقته الأرستقراطية، تكشف وسامته ماضي النعمة التي تربى فيها. لطمس ذلك تُظهر الملابس الواسعة الممثل قصيرا، وتسهل الطاقية واللحية المستديرة محاولة جعل وجه الممثل صغيرا يحمل بؤسا؛ لأن وجوه ورؤوس أولاد النعمة تكون عادة كبيرة. يتعلم البطل التقاط سيلفي لوجهه. كل هذا يخاطب عين المشاهد.

وجه ديكابريو يُسِّر من رآه. وكالعادة في أفلامه، يمنح ليوناردو ديكابريو حياة وحيوية وجاذبية للأدوار التي يؤديها؛ لأنه ينفصل عن ذاته. وهذا ما لم يفعله النجم في أدائه لدور النجم ريك دالتون في فيلم “حدث ذات مرة في هوليود” 2019 لكوينتين تارانتينو.

عدا هذا، انفصل ديكابريو عن نفسه وتغلغل في ذهنية الثوري المهدد بالانقراض وشخّصها وجسمها لأنه ممثل يصوغ ويكثف ويلخص أداءه كما طلب بيتر بروك. يتحدث الممثل بملامحه أكثر من لسانه. كيف؟ ينجح الممثل في الأداء حين يفهم الفكرة الكامنة وراء الحكاية. لماذا؟ لأن “هناك عملية تغلغل سيكولوجية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال إدارة جيدة للممثلين وبواسطة ممثلين من الدرجة الأولى”، حسب غارسيا ماركيز. لقد تغلغل ديكابريو في روح شخص مرعوب يتظاهر بالشجاعة، ثوري يفكر في طفلته أكثر من الثورة… تتعطل الثورة الطامحة إلى التغيير حين تحل محلها الأبوة المهووسة بالأمان.

يحاول بوب المرعوب حماية ابنته، وتجري مطاردات في فضاءات مرقعة فيها الكثير من الشبابيك الحديدية يتزاحم فيها مهاجرون لاتين بوجوه منهكة معبرة يطبقون بعض الحلول السحرية لمشاكلهم. حلول للتعايش مع حياة مرقعة تعقدها الصلاحيات الزائدة للشرطة التي تعسكرتْ.

لم تندثر المكارثية من أمريكا، ولا من باقي دول العالم. في كل مكان هناك رعب من قوى اليسار وخطابها مهما كانت صغيرة وهامشية. وهذا حاضر في الشاطئ الشرقي والغربي من أمريكا؛ في نيويورك ولوس أنجلس. وينبع العداء لليسار من الغرب الأمريكي الأوسط.

في الفيلم لمسة موسوعية تهدده بالتشتت في نصفه الأول؛ لكن تم تجميع كل الخيوط في الساعة الأخيرة بدقة، فقلّ الضجيج والزحام لتجري تصفية الحساب بهدوء. في سياقة السيارة والعين على الخلف في المرآة هناك استعارة قوية لعلاقة الماضي والحاضر كطريق مُلتوٍ على سلسلة هضاب فيها منخفضات ومرتفعات ومنعرجات تصعّب النجاة منها. صار المكان مولّدا للتشويق وفرصة لابتكار كادر سينمائي حيوي وصورة سينمائية عميقة.

إن “معركة طبقية تلو أخرى” فيلم يُصنف ضمن سينما المؤلف، ويخرج إلى القاعات السينمائية. فيلم يحل المعادلة التفاضلية لإشكالية: هل السينما فن أم تجارة وصناعة.

يظهر الحس التجريبي لدى المخرج المؤلف في فيلمه القصير (ANIMA 2019 ). قدم بول توماس أندرسون كوريغرافيا سوريالية معاصرة في فيلم قصير من مخرج مكرّس. صوّر رقصات تحكي بجمال الحركة وروتينيتها محنة التنقل اليومي في المدينة الكبيرة والإنهاك الذي تسببه… رقص تعبيري سوريالي يقدم كعلاج للملل والتعب في الرحلات اليومية الطويلة وسائل النقل العمومي..

كم مرة رأيتم ركاب الترامواي ينامون أو يتناومون؟

أجساد ميكانيكية… تتدحرج في الخواء… سفر طويل وحرمان من النوم… لأناس كادحين عاديين في تجريب مفهوم يلتقط اللحظة. هذا مشهد يومي هاجمته كاميرا المخرج لكي تمنحه أبعادا جمالية وإنسانية حين يحل التواصل محل عزلة المسافرين يوميا.

إن “معركة طبقية تلو أخرى” فيلم لمخرج مسيّس ولد في حي الأستوديوهات في لوس أنجلس يقتبس رواية عن حياة أسرة متمردة لتمجيد الماضي الثوري لولاية كاليفورنيا ولأمريكا (Vineland للكاتب Thomas Pynchon). فيلم بلمسة بوليسية عنيفة، هذه هي الطريقة للعيش في عالم “معركة تلو الأخرى”. عنوان حربي يلائم المرحلة. ضابط مختل يطارد ثوريا سابقا مشردا في زمن هيمنة البوليس ورجال الأعمال اليمينيين الذين يعتبرون الماضي الثوري عارا لأمريكا الرأسمالية.

فيلم عن اللحظة التاريخية التي يعيشها المهاجرون… فيلم فيه مطاردة طويلة يفتح فيها البطل كاتالوغ شخصيات متباينة.

اقتبس الفيلم من رواية تدور أحداثها في زمن الرئيس دونالد ريغان، وهو النسخة الأنيقة من دونالد ترامب… يحكي المخرج وقائع وقعت في زمن طويل، لديه حفرة زمنية تمتد خمس عشرة سنة. ملأها بالوجوه نفسها مع مفارقة أن الثوار زادوا بؤسا والأغنياء ازدادوا ثراء ونفوذا. حسابيا، يمتلك 10 في المائة من الأمريكيين 93 في المائة من ثروة سوق الأسهم، وقد زادت ثرواتهم بنسبة 54 في المائة منذ 2020.

المصدر: هسبريس

شاركها.