على إثر عودتي من القاهرة بصفةٍ نهائية أوائل السبعينيّات من القرن الفارط، كانت جريدة “العَلم” المغربية (بغضّ النظر عن الحزب الناطق بحال لسانها، وهو حزب “الإستقلال”)، كانت هذه منارةً ثقافيةً مُشعّةً، ومنبراً رائداً للأدب، والصحافة، والسياسة، والإبداع، والفنّ والإعلام. كنا صفوةً من الكتاب الشباب نلتقي دون سابق موعد في صفحتها الثامنة الأخيرة، وفي ملحقها الثقافي الأسبوعي الجميل الذي كان من أغنى الملاحق الصحافية آنذاك ولا شكّ، وكان يشرف على هذا الملحق في إعداده والسّهر على أبوابه نخبةٌ من الأدباء والصحافيّين اللاّمعين الذين أقمتُ معهم صداقاتٍ متينةٍ، منهم: عبد الكريم غلاّب، وعبد الجبار السحيمي، ومحمد العربي المساري، ومحمد سعد العلمي، والمحجوب الصفروي، وميمون الأزماني، وسواهم.

عندما أردتُ الإسهامَ في نشر بعض مقالاتي الأدبية وقصصي، كاتبتُ رأساً رئيسَ تحرير هذه اليومية التي كانت واسعةَ الانتشار إبّانئذ، المرحومَ عبد الكريم غلاب، وبعثتُ له بنصّين أدبييْن يتضمّنان استجواباً كنت قد أجريته في القاهرة مع الأديب المصري الراحل الذائع الصّيت أنيس منصور، وقصة قصيرة تحت عنوان “تجربة قاسية”. وكنتُ أظن أنه مع زحمة انشغالاته الكثيرة المتراكمة قد لا يعير كبيرَ أهميةٍ لرسالتي، إلاّ أنه فاجأني من أريحيته ونبله واحتراماً لجدية مهنته بجوابٍ في منتهى اللطف، ضمن كارت كارتوني ناصع البياض متوسّط الحجم يحمل اسمَه ومهمّتَه في أعلى يمين الكارت، ورحّب بي فيه ترحيباً كبيراً، ووعدني بنشر ما وافيته به في قريب الأيّام، وفعل.

منذ تلك اللحظة، آسرتني أخلاقُ هذا الرّجل ومدى إخلاصه ووفائه لمهنة المتاعب “الصحافة”، فصرتُ أكتبُ بانتظامٍ في جريدة “العَلم”، لدرجة أن الصّديق العزيز المرحوم محمد العربي المساري بعد أن أصبح مسؤولاً عن هذه الصحيفة، فتح لي “بطاقةً خاصّةً في قسم الحسابات تُجمع لي فيها مكافآت نظير إسهاماتي فيها”.

عندما كثرت كتاباتي في جريدة “العَلم” خلال حقبة السبعينيات من القرن الفارط، طفق بعضُ الأصدقاء يظنّون أنني أصبحتُ استقلالياً ومع كلّ احترامي وتقديري لصداقاتي المتعددة مع غير قليل من الكتّاب والمثقفين والشخصيات المنتمية لهذا الحزب أكدتُ لهم منذ ذلك الإبّان أن ذلك لا أساس له من الصحّة، فقرّرتُ أن أتحوّل إلى جريدة “المُحرّر” التي كان يرأسها آنذاك شهيد الصحافة المغربية المرحوم عمر بنجلون. ثم سرعان ما تحوّلت “المُحرّر” فيما بعد إلى صحيفة “الاتحاد الاشتراكي” التي نشرت فيهما العديدَ من مقالاتي ودراساتي وقصصي منذ تأسيسها، وما زلت أنشر فيها بانتظامٍ إلى يومنا هذا المشهود. ومع ذلك، لم أتخلّ قطّ عن صحيفة “العَلم”.

ذكرياتٌ عابرةٌ خاطفةٌ حنينيةٌ تمرّ بالبال كلمح البصر، وتدغدغ خلايا الذاكرة التي ما فتئت تمعن في تلك الأيام الجميلة التي مضت، وانقضت، وذهبت لحال سبيلها حميدةً بأهلها، ومنهم هذا الكاتب والرّوائي والصحافي المميّز الذي سبقني إلى القاهرة منذ سنواتٍ بعيدةٍ في الثلاثينيات من القرن الفارط، والذي ترك لنا سيرتَه الذاتية وذكرياته خلال وجوده في عاصمة المعزّ لدين الله في كتابه “القاهرة تبوح بأسرارها”..! ومعلومٌ أنه خلال وجوده بأرض الكنانة، أسّس مع عددٍ من أصدقائه من الجزائر وتونس “مكتب المغرب العربي” للمطالبة باستقلال الدول المغاربية من الاحتلال الأجنبي آنذاك. كلما عادت ذكرى رحيل هذا المفكّر الكبير، تعود وتنثال هذه الذكريات والمعايشات على القلب والذاكرة والوجدان، عذبةً نديّةً كشلاّلٍ منهمر.

بعد أن علمتُ ببالغ الحزن والأسى خبرَ رحيل المرحوم عبد الكريم غلاّب عن سنٍّ يناهز 98 عاماً (الذي كان قد ولد بمدينة فاس عام 1919، والذي غادرنا إلى دار البقاء في مثل هذه الأيام، في الرابع عشر من شهر أغسطس عام 2017)، في هذه الذكرى الثامنة لرحيله، تعود إلى الذاكرة من جديد هذه الذكريات الجميلة التي عشتها معه وإلى جانبه في حصنه الحصين بجريدة “العَلَم” التي كان مقرّها بشارع علال بن عبد الله في قلب حاضرة الرباط التي أصبحت اليوم تحمل لقباً جميلاً وهو “مدينة الأنوار”.

كتب الأديب الأريب، والإعلامي المميّز، والصحفي المتألق الصديق الأستاذ الحسين المجدوبي بحيادٍ ممنوناً، معلقاً على تدوينة لي سابقة عن جريدة “العَلم”، فقال بحنكته المعهودة ومهارته المشهودة: “جريدة العلم تعدّ مدرسةً حقيقيةً، ربما الحزبية الوحيدة التي كانت تفتح أبوابها للجميع بغضّ النظر عن الانتماء الأيديولوجي للصحفيّ أو الكاتب، بل إنها قد احتضنت أقلاماً من أقصى اليسار في وقت لم تفعل ذلك جرائد يسارية التي اشترطت الانتماء إلى الحزب. رحم الله أقلام العَلم الذين رحلوا مثل محمد العربي المساري، وعبد الجبار السحيمي، وعبد الكريم غلاب، وأطال الله في عمر الباقين، ونتمنى الاستمرارية للجريدة لتكمل قرنها الأوّل”.

ويشير الكاتب الصديق الأستاذ جمال حافظ في مقال قيّم له عن الأستاذ عبد الكريم غلاّب فيقول: “لقد ساهم غلاب (الذي بلغ عدد مؤلفاته 70 كتاباً شملت مختلف ضروب الفكر والمعرفة) في الارتقاء بالصحافة الوطنية، وهو على ما يبدو جعل جريدة “العلم” بمفردها تتمكّن على المستوى الوطني منذ تأسيسها في 11 يناير 1946، لتصبح بذلك أوّل صحيفة مغربية تصدر ملحقاً ثقافياً أسبوعياً منذ 1969. كان هذا الملحق ملتقىً للمثقفين المغاربة والمغاربيين والعرب والأجانب، علاوة على تحويله إلى فضاء للتعريف بالانتاج الفكري والثقافي والسياسي والإعلامي الوطني والعالمي”.

كان عبد الكريم غلاب أحد أقطاب الفكر والأدب والصحافة والسياسة والتاريخ في مغرب اليوم، حيث أبلى البلاءَ الحسنَ في مختلف هذه الميادين. كان من أبرز المدافعين عن القضايا الوطنية، وكان له الدور المشهود والمعهود في تاريخ الحركة الوطنية في المغرب، منذ أن كان مديراً للصحيفة المرموقة الآنفة الذّكر، جريدة “العَلم”. كما تجدر الإشارة إلى أنه كان أوّلَ رئيس لاتحاد كتّاب المغرب، كما كان نائبَ رئيس اتحاد كتّاب العرب كذلك. وتولّى المشمول برحمة الله رئاسةَ النقابة الوطنية للصحافة في الحقبة المتراوحة بين 1963 و1983، وجاءته الوزارة منقادةً إليه في الثمانينيات من القرن المنصرم.

لا يختلف النقاد داخل بلده المغرب وخارجه أن عبد الكريم غلاّب كان أديباً ألمعيّاً حصيفاً، وصحافياً لَوْذَعيّاً لامعاً عفيفاً، تاركاً لنا إرثاً أدبياً رفيعاً واسعاً في الرواية والقصة والمقالة والأدب والفكر والصحافة والدراسة والسياسة وفي تاريخ المغرب. من أعماله المعروفة: “دفنا الماضي” (الصادر سنة 1968)، و”المعلّم عليّ” (الصادر سنة 1974)، ورواية “سبعة أبواب” (الصادر عام 1965، وهي سيرته الذاتية عن تجربته في السجن)، و”عاد الزورق إلى النبع” (1988)، و”شروخ في المرايا” (سنة 1994)، و”في الثقافة والأدب” (1964)، وله كتاب “الفكر التقدمي في الأيديولوجية التعادلية” (1980). ومثلما كان لزميله في العمل الصحافي والإبداعي والحزبي، الصّديق المرحوم محمد العربي المساري، كتابٌ عن بطل الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي بعنوان “من القرية إلى الوطن”، فكذلك لغلاّب كتابٌ بعنوان “تحرير البطل” عن زعيم حرب الريف التحرّرية الماجدة محمد بن عبد الكريم الخطابي. رحم الله الفقيد العزيز وأسكنه فسيح الجنان.

كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا، كولومبيا

المصدر: هسبريس

شاركها.