فاطمة الصم.. أول ناسخة قضائية بالمغرب تروي عقودا من العمل دون تقاعد في الأفق (فيديو)
بهُدوء وخطوات وئيدة، تمشي بين أروقة قسم قضاء الأسرة بالقنيطرة، منهمكة بكل جوارحها في العمل. تحدّ نظرها عندما تبحث عن وثيقة بين السجلات، وتنتقل عيناها بين الأوراق والسطور كراقص على إيقاع لا يسمعه سواه. وخلال استغراقها في نسخ العقود، تلزم الصمت، كما لو أن روحها معلّقة بين السطور. هكذا تمارس الناسخة القضائية فاطمة الصم مهنتها منذ نصف قرن من الزمن، ولا تقاعد يلوح في الأفق، رغم أن عمرها شارف على السبعين عاما.
قبل قرابة 50 سنة، لم يكن يدر بخلد فاطمة أنها ستصير ناسخة في يوم من الأيام، لكن المناداة على زوجها، باعتباره جنديا احتياطيا، من أجل الالتحاق بالجيش في الصحراء المغربية سنة 1975، غير مجرى حياتها، ودفعها للعمل.
وعرف المغرب سنتي 1975 و1976 أحداثا سياسية وعسكرية كبيرة، تمثلت في المسيرة الخضراء وخروج إسبانيا من الصحراء، وتأسيس جبهة البوليساريو الانفصالية، ثم معركة “أمغالا” بين المغرب والجزائر، التي استمرت لثلاثة أيام، وأُسر خلالها المغرب 100 جندي جزائري، قبل أن ينتهي التوتر العسكري بوساطة مصرية في شخص الرئيس الأسبق حسني مبارك.
غادرت فاطمة مقاعد الدراسة عندما كانت تدرس في السنة الثالثة بالتعليم الثانوي، وتزوجت في سنة 1972 وعمرها لا يتجاوز آنذاك 17 سنة. تحكي لجريدة “العمق” أن أول اتصال لها بمهنة النساخة القضائية كان بفصل زوجها الذي كان يعمل ناسخًا.
تقول بنبرتها الهادئة إن زوجها كان يضطر أحيانًا، تحت ضغط العمل، إلى جلب بعض مهامه إلى المنزل للاشتغال عليها، فكانت فرصة لها للاطلاع عن قرب على عمل هذه الفئة من موظفي العدالة، وتعلم أبجدياتها، قبل أن يغادر زوجها هذه المهنة سنة 1975.
تحكي هذه الناسخة أن زوجها خرج من مهنة النساخة عبر بوابة الالتحاق بالجيش المغربي بالصحراء، باعتباره جندياً احتياطياً، فرشحها العدول والنساخ للقاضي رئيس المحكمة، لتخلف زوجها في هذه الوظيفة، لكونها متمكنة منها وتمارسها بشكل مؤقت وغير رسمي.
بعد اجتيازها لامتحان بالمحكمة، شرعت رسميًا في ممارسة النساخة القضائية سنة 1976 وعمرها آنذاك 21 سنة، قبل أن تتوصل بقرار وزاري سنة 1978. تحكي أنها كانت تحترم عملها منذ اليوم الأول، “كنت أشتغل بجد، وأحرر قرابة 25 رسمًا في اليوم، مع العلم أن التعويض كان لا يتجاوز 75 سنتيمًا عن كل رسم، وهو ما كان يدفعني للاجتهاد من أجل تحسين دخلي”.
وعن الحماس الذي طبع روحها خلال السنوات الأولى في عملها، تقول فاطمة الصم: “لم أجد باعتباري ناسخة حديثة عهد بالعمل أي صعوبة تذكر، كنت مصممة على التعلم ممن سبقوني، بحيث كنت أسألهم كلما التبس علي أمر، وأستشير معهم كلما واجهتني عقبة”، لكنها بعد ذلك أصبحت متمرسة وقادرة على قراءة أصعب الخطوط في الوثائق القديمة.
دخلت شابة إلى هذه المهنة وما زالت تمارسها اليوم وعمرها 69 سنة، لذلك تغيرت نظرتها لها بتغير حالتها الصحية وقدراتها الجسدية التي تتراجع يومًا بعد يوم، لذلك فقد انتبهت، تحت تأثير التعب الذي تحس به، أن هذه المهنة تحتاج إلى الكثير من التركيز، ومجهود كبير في البحث بين السجلات، والكتابة لساعات طويلة، وتدقيق النظر، والمراجعة والتأكد من صحة المعلومات.
بعد عودته من الصحراء، لم يعد زوجها لمهنة النساخة، بل صار موظفًا بالجماعة قبل أن يحصل على التقاعد، أما هي فما زالت تواصل عملها دون تقاعد يلوح في الأفق “خدمتنا هكذا دايرة، إلا ما خدمتيش ما تتخلص”، وعن التحولات التي استشعرتها طيلة مسيرتها المهنية، تقول إنها كثيرة، لكن يغلب عليها الركود، وهو ما جعل القدرة الشرائية لممتهنيها في تقهقر دائم.
طيلة هذه المسيرة، لم تحظَ فاطمة الصم إلا بتكريم رمزي وحيد من قبل وزير العدل السابق محمد بن عبد القادر في اليوم العالمي للمرأة يوم 8 مارس سنة 2020. ما زالت تحتفظ بتلك الشهادة التقديرية والدرع وصور حفل التكريم، وتحفها بعناية كبيرة.
صارت هذه المرأة اليوم جدة لستة أحفاد، وقبل ذلك أماً لبنتين وولد. تنظر إلى مسيرتها بالكثير من الفخر، لأنها استطاعت أن تعول أبناءها إلى أن صاروا كبارًا بما تذره عليها هذه المهنة، لكنها في الآن ذاته غير مطمئنة لمصيرها، نظرًا لعمل سنها من جهة، ولتوجه وزارة العدل نحو إنهاء مهنتها من جهة أخرى.
وتشعر هذه السيدة بالفخر أكثر، عند الحديث عن بداياتها في هذه المهنة، كونها أول امرأة في المغرب تقص شريط ممارسة النساء بمحاكم المغرب للنساخة القضائية، “الحمد لله أحظى باحترام العدول والقضاة وباقي زملائي، وسمعتي كانت ولازالت طيبة دائما”.
بنبرة صوت تتأرجح بين الأمل في مغادرة هذه المهنة بشكل يحفظ كرامتها، وبين القناعة بما قسم الله لها من رزق، تقول لـ”العمق”: “قضيت أيامًا جميلة بهذه المهنة، وأحتفظ بذكريات طيبة، مارستها بحب، كما كنت أتجنب طيلة مسيرتي المشاكل”، دون أن تخفي رغبتها في تقاعد يكافئ مجهود هذه السنين، قبل أن تستدرك قائلة: “الله يقبض الروح مستورة”.
المصدر: العمق المغربي