كشفت مسيرة احتجاجية لسكان دواوير معزولة بجماعة فم العنصر بإقليم بني ملال، عن عمق أزمة العطش والتهميش التي تضرب مناطق شاسعة بجهة بني ملالخنيفرة، مصنفة ضمن أفقر جهات المملكة، لتضع المسؤولين مجددا أمام حقيقة فشل السياسات التنموية في الوصول إلى المغرب العميق، وتؤكد أن الحق في الماء لم يعد مطلبا، بل أصبح معركة وجودية يخوضها السكان بمسيرات طويلة أنهكت أقدامهم ولم تكسر إصرارهم.
هل يصلح الوالي ما أفسده تدبير سنوات؟
انطلقت شرارة الاحتجاج الأخيرة صباح يوم الاثنين الماضي، حين قرر العشرات من سكان دواوير إغرضان وتاوريرت وأيت وهرماش، من رجال ونساء وأطفال، أن يتركوا بيوتهم المعلقة في سفوح الجبال وقراهم المنسية، ويسيروا عشرات الكيلومترات في اتجاه مقر ولاية بني ملالخنيفرة. لم تكن مطالبهم ترفا سياسيا أو مطلبا تعجيزيا؛ كانت صرخة من أجل الحق في الحياة، قطرة ماء نظيفة تروي ظمأهم، ومسلك طرقي معبد يفك عزلتهم ويربطهم بالعالم، بعد سنوات من الانتظار والوعود التي يصفونها بـ “الكاذبة”.
ووثقت مقاطع فيديو، جرى تداولها على نطاق واسع بمنصات التواصل الاجتماعي، إصرار المحتجين وهم يرفعون شعارات بسيطة في مبناها، عميقة في معناها، تندد بـ “الإقصاء الممنهج” الذي يطال مناطقهم منذ عقود. وأكد المحتجون في شهاداتهم المصورة أن غياب الماء الصالح للشرب يجبر نساءهم وأطفالهم على قطع مسافات طويلة يوميا لجلب بضع لترات من عيون شحيحة، وأن وعورة الطريق تحول دون وصول المرضى إلى المستشفيات في الوقت المناسب، وتزيد من عزلتهم الاقتصادية والاجتماعية.
وعند وصول المسيرة إلى منطقة مودج، حاولت السلطات المحلية، مدعومة بالقوات المساعدة، منعها من مواصلة طريقها، لكن إصرار المحتجين على إيصال صوتهم دفع والي الجهة إلى الانتقال شخصيا إلى مكان وجودهم. وفي لقاء مباشر ومفتوح، استمع الوالي لمداخلات السكان التي كانت بمثابة شهادات حية عن حجم المعاناة. وبحسب مصادر “العمق”، فقد تعهد الوالي بمعالجة فورية للإشكالات المطروحة، واعدا بإيفاد لجنة تقنية في اليوم الموالي، وبرمجة مشاريع عاجلة لحفر آبار وتعبيد الطريق في أجل لا يتعدى شهرا واحدا، وهو ما كان كافيا لتعليق الشكل الاحتجاجي مؤقتا.
مأساة تتكرر
لكن قصة إغرضان ليست سوى قمة جبل الجليد في جهة تعاني بصمت. ففي عمق إقليم أزيلال، الذي لا يبعد كثيرا، تتكرر المأساة بتفاصيل أكثر قسوة. في دوار تازروفت بجماعة سيدي يعقوب، وصلت أزمة العطش إلى مستويات خانقة، حيث نضبت العين الوحيدة التي كانت تمثل شريان الحياة، ما حوّل مهمة الحصول على الماء إلى رحلة عذاب يومية.
وتفيد شهادات من المنطقة بأن ملء وعاء صغير بالماء كان يتطلب ساعات من الانتظار، أما الآن فيضطر السكان، خاصة النساء وكبار السن، إلى قطع مسافات تزيد عن ثلاثة كيلومترات عبر مسالك وعرة على ظهور الدواب لجلب ما يسد رمقهم ويسقي مواشيهم التي بدأت تنفق بسبب الجفاف. وتزداد المشكلة تعقيدا بسبب الملوحة الشديدة للمياه الجوفية، التي تجعل من خيار حفر الآبار حلا غير مجد.
وفي مفارقة صارخة تكشف عن عمق الشرخ بين أولويات المسؤولين وحاجيات المواطنين، خرج سكان دوار أيت أمغار بجماعة تباروشت، في إقليم أزيلال أيضا، في “مسيرة عطش” حاشدة في وقت سابق من السنة الجارية. سار المحتجون لمسافات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، مطالبين بالماء، في وقت كانت فيه الجهات المعنية بحل المشكل منهمكة في التحضير لتنظيم “مهرجانات البندير” وفق تعبير السكان المحليين.
وأثار هذا التزامن آنذاك موجة غضب عارمة، حيث اعتبر السكان أن من غير المقبول إنفاق الأموال العامة على الاحتفالات والطبول، بينما تصرخ دواوير بأكملها عطشا، في مشهد يلخص بمرارة حجم اللامبالاة بمعاناتهم.
تخل عن المسؤولية وتآكل الشرعية
وفي هذا السياق، اعتبر جمال بنعلا، الكاتب الإقليمي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان بأزيلال، أن معضلة العطش وندرة مياه الشرب في إقليم أزيلال تشكل انتهاكا لحقوق الإنسان الأساسية. وأوضح بنعلا أن الحصول على مياه صالحة للشرب هو حق أساسي نصت عليه العديد من المواثيق والاتفاقيات الدولية، إلا أن العديد من المناطق في الإقليم تعاني من نقص حاد في هذه المادة الحيوية، مما يؤثر بشكل كبير على حياة المواطنين ويهدد صحتهم وكرامتهم.
وشدد الفاعل الحقوقي على أنه في مواجهة هذه الأزمة، يجد السكان أنفسهم مضطرين لتنظيم مسيرات احتجاجية، تعبر عن غضبهم ورفضهم للوضع الراهن، وتطالب المسؤولين بالتحرك العاجل. وفي المقابل، نجد أن المنتخبين والمسؤولين يركزون على تنظيم مهرجانات وتظاهرات ترفيهية، مما يثير استياء المواطنين ويعتبره الكثيرون هدرا للمال العام. واعتبر أن تخصيص الموارد المالية لتنظيم هذه المهرجانات بدلاً من الاستثمار في البنية التحتية المائية وتحسين خدمات المياه، يُعد انتهاكًا لالتزاماتهم تجاه المواطنين.
ودعا بنعلا في تصريح لجريدة “العمق” المنتخبين والمسؤولين إلى تحمل مسؤولياتهم الكاملة، والعمل على توفير المياه الصالحة للشرب لجميع السكان، مؤكدا أن الأولوية يجب أن تكون للخدمات الأساسية التي تحترم حقوق الإنسان وتضمن كرامة المواطنين، عبر الاستثمار في بناء خزانات مياه، وتحديث شبكات التوزيع، وضمان كفاءة استخدام الموارد المائية.
من جهته، أكد إبراهيم حشان، عضو المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أن هذه الاحتجاجات ليست تحركات عفوية أو معزولة، بل هي النتيجة الحتمية والمباشرة لفشل السياسات المائية للدولة وإخفاقها في إيجاد حلول ناجعة ومستعجلة لضمان هذا الحق الأساسي، الذي لا تقوم حياة الإنسان بدونه والذي كفلته كافة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
وقال حشان ضمن تصريح لجريدة “العمق” إن مشهد اضطرار المواطنين إلى النضال المستمر في الشوارع من أجل الحصول على أبسط مقومات العيش، هو واقع مقلق للغاية يكشف عن عمق الأزمة، ويثبت أن هذا الحق الأولي لم يعد مضمونا. واعتبر أن هذا الوضع برمته يجب أن يقرأ باعتباره مؤشرا خطيرا على تآكل الشرعية الاجتماعية للحكومة، ودليلا قاطعا على إخفاقها في الاضطلاع بواجبها الجوهري المتمثل في حماية وتأمين أبسط حقوق المواطنين.
وختم الفاعل الحقوقي تصريحه بالقول إنه عندما تعجز الحكومة عبر مسؤوليها وتعجز المجالس المنتخبة أيضا عن توفير الماء، فإنها تتخلى عن إحدى مسؤولياتها الأساسية، وتفقد جزءا كبيرا من مبرر وجودها في أعين المواطنين، مما يزعزع الثقة في قدرتها على إدارة شؤون المجتمع وتحقيق الصالح العام.
وفي السياق ذاته، كشف الفاعل الجمعوي وعضو جماعة واولى بأزيلال، عمر مجان، أن إقليم أزيلال يعاني من ندرة وشح حاد في المياه خاصة الجوفية منها مما يهدد الساكنة بالعطش في ظل ما وصفه بتجاهل بعض المؤسسات المنتخبة للأولويات التي تفرضها الأزمة.
وأوضح عمر مجان أن الفرشة المائية بالمنطقة تعرف نزيفا حادا وخصاصا مهولا، حيث اضطرت الساكنة إلى تعميق حفر الآبار بشكل كبير للوصول إلى المياه. وأكد مجان في تصريح له أن عمق الآبار في بعض المناطق الجبلية كمنطقة واولى لم يكن يتجاوز في السابق 30 إلى 40 مترا، بينما يضطر السكان حاليا إلى الحفر لعمق يصل إلى 160 و 200 متر تحت الأرض.
وسجل المصدر ذاته أن الخطاب الملكي كان واضحا في هذا الإطار وأعطى توجيهاته السامية للمسؤولين على المستوى الوطني من أجل إعطاء الأولوية للماء وضمان تزود الساكنة به، مشيرا إلى أن من بين الحلول المقترحة الشق الفلاحي من خلال تحلية مياه البحر.
وانتقد المتحدث ما اعتبره مفارقة صارخة على مستوى جماعة واولى الترابية، ففي الوقت الذي تعاني فيه الساكنة من نقص كبير في المياه وشح الآبار وجفاف العيون، لم تعطي البرامج والمشاريع المبرمجة الأولوية للماء. وندد مجان ببرمجة أمور أخرى في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، معتبرا ذلك مخالفا للتوجيهات الملكية وتوجيهات وزارة الداخلية.
وأفاد عضو جماعة واولى أنه تمت برمجة سيارات للتنقلات وأمور لتنظيم المهرجانات الثقافية، وهو ما “يحز في النفس” حسب تعبيره، خاصة بعدما تفاجأ بمصادقة السلطات الإقليمية على هذه البرمجة التي وصفها بالمخالفة لتوجيهات وزارة الداخلية والتوجيهات الملكية.
وشدد الفاعل الجمعوي على أن هذا الوضع الكارثي دفع الساكنة في العالم القروي إلى التعبير عن استيائها من خلال تنظيم مجموعة من المسيرات الاحتجاجية تنديدا بالوضع. وأبرز في هذا السياق الدور الأساسي الذي يلعبه المجتمع المدني في ضمان التزود بالماء في المناطق القروية، حيث قامت العديد من منظمات المجتمع المدني بتزويد العديد من الدواوير بالماء الصالح للشرب في غياب تام، حسب قوله، لتدخل بعض الجماعات والمؤسسات المنتخبة.
المصدر: العمق المغربي