علماء باحثون يسبرون أغوار التطور عند الزرافات
تعتبر الزرافة بشكلها المميز ورقبتها الطويلة وجلدها المرقط نموذجا جديرا بالدراسة في مجال أبحاث التطور والارتقاء، إذ نجحت هذه الفصيلة الحيوانية على مدار آلاف السنين في التأقلم مع البيئة المحيطة بها في ظل ظروف بيئية قاسية. فيما مازال علماء الحيوان يتجادلون في ما بينهم في محاولة لفهم تاريخ تطور الزرافة.
ويعيش الزراف بشكل أساسي في مساحات السافانا الشاسعة في القارة الإفريقية، ولم تعد أعداده في العالم تتجاوز في الوقت الحالي 70 ألفا، في تراجع حاد بعد أن كانت تربو على 150 ألف زرافة في ثمانينيات القرن الماضي. ولعل هذا التراجع هو ما يجعل من المهم بالنسبة لعلماء الطبيعة والحيوان في العالم أن يتعرفوا على الاختلافات بين فصائل الزراف المختلفة، في إطار جهود الحفاظ على هذا النوع ووضع المعايير والضوابط التي تحول دون انقراضه في المستقبل.
وتقول الباحثة لورا بيرتولا، المتخصصة في علوم الحيوان بجامعة كوبنغاهن السويدية، إن العلماء مازالوا يكافحون لإيجاد الصلة بين جماعات الزراف المختلفة التي تعيش في إفريقيا. ويصنف الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة الزراف باعتباره فصيلة واحدة، غير أن بعض الدراسات تقول إن هناك نوعين أو ثلاثة أو أربعة أو حتى ستة من الزرافة.
وأضافت بيتولا في مقال أورده الموقع الإلكتروني The Conversation المعني بالأبحاث العلمية أن الجدال بشكل تصنيف أنواع الزراف ربما يبدو مسألة علمية بحتة، لكن التصنيف في حقيقة الأمر هو الذي يقود في العادة جهود الحفاظ على الأنواع، بمعنى أن التعامل مع الزراف باعتباره فصيلة واحدة قد يعطل جهود تحديد الصفات الجينية الفريدة لكل فصيلة. ومن أجل الحفاظ على التنوع البيولوجي لا بد التعرف بدقة وتحديد أوجه الشبه وأماكن التوزيع والاختلاف داخل النوع الواحد من أنواع الحيوان.
ونجحت دراسة حديثة أجريت مؤخرا في رسم خريطة جينوم للزرافة من أجل تحسين فهم العلماء للصفات الوراثية لهذا الحيوان. واستطاع العلماء تحليل الحمض النووي الكامل لتسعين زرافة تعيش في 29 موقعا في مختلف أنحاء إفريقيا، وبالتالي إعادة بناء تصور علمي لتاريخ تطور الزرافة.
وسلطت الدراسة الضوء على وجود اختلافات شاسعة بين فصائل الزراف المختلفة، بحيث يمكن تقسيم هذه الفصائل على الوجه التالي: الزرافات الشمالية، وتعيش في وسط وغرب إفريقيا، والزرافات الشبكية وتعيش في منطقة القرن الإفريقي، وزرافات الماساي، وتعيش في شرق إفريقيا، وأخيرا الزرافات الجنوبية وتعيش جنوبي القارة السمراء.
ولم يتوصل العلماء حتى الآن إلى الأصل وراء انقسام الزرافة إلى هذه الفصائل الفرعية الأربع. وأرجع البعض الأمر إلى عوامل جغرافية فاصلة مثل حدود الأنهار أو المجاري المائية، وأشار آخرون إلى وجود مساحات فاصلة بين المواقع التي تتوزع فيها هذه الفصائل. غير أن بعض العلماء استوقفهم أن ثلاثة من أنواع الزراف الأربعة الرئيسية تعيش بالفعل في أماكن متقاربة في غابات كينيا. ورغم هذا التقارب المكاني فإن فرص الاختلاط بين الفصائل الأربع عادة ما تكون ضئيلة في الحياة البرية. وعلى النقيض تبين للعلماء أن تزاوج أنواع الزراف الأربعة يحدث لدى الزرافات التي تعيش في الأسر وفي حدائق الحيوان، ما يشير إلى أن عنصرا ما مجهولا هو الذي يمنع أنواع الزرافات المختلفة من الاختلاط أو الامتزاج في البرية.
وأكدت بيتولا أن اهتمام العلماء لا ينصب فحسب على رصد أنماط التنوع لدى الحيوان في البيئة المعاصرة، بل أيضا فهم العملية التي شكلت هذه الأنماط التي يتم رصدها اليوم. ويسمح تحليل الحمض النووي الكامل بالحصول على نظرة متعمقة لتاريخ تطور الزراف بشكل عام.
وكشفت هذه البيانات عن قصة متشابكة، إذ ينظر علماء الطبيعة في العادة إلى تطور الأنواع كما لو كانت شجرة تنمو وتتفرع، على غرار نظرية عالم الطبيعة الشهير تشارلز داروين. وفي سياق هذا المفهوم فإن كل فرع أو فصيلة رئيسية يمكن أن تنقسم على امتداد التاريخ إلى فصيلتين فرعيتين. وبعد حدوث هذا الانفصال قد تعود أفراد من الفصيلتين الفرعيتين إلى التزاوج أو ما يعرف بالتدجين في ما بينها، ومن ثم قد يكون من الأجدر استخدام مصطلح “شبكة” بدلا من “شجرة التطور”، وذلك من منطلق أن الصلات الوراثية بين الأنواع والفصائل تنفصل ثم تتصل مجددا المرة تلو الأخرى. ولعل هذا هو ما حدث في حالة الزراف، بمعنى أن رابطة جينية مشتركة تجمع فصائل الزراف المختلفة، ولكن ذلك لا يمنع وجود بعض الاختلافات الوراثية بين الفصائل المختلفة للحيوان نفسه، على نحو لا يمكن توصيفه بدقة كما لو كان شجرة تطور.
ويؤكد علماء الطبيعية أن الزرافة تتعرض حاليا لما يطلق عليه اسم “الانقراض الصامت”، إذ تشير التقديرات إلى أن أعدادها تراجعت بنسبة 40% تقريبا منذ الثمانينيات. ولا بد لجهود الحفاظ على الزرافة أن تواجه هذا التراجع عن طريق حماية مناطق معيشة الزراف وضمان الاتصال بين فصائله المختلفة، وهنا تتبدى أهمية علوم الوراثة في مجال حماية الأنواع، إذ يتم استخدامها لفهم أوجه تنوع الزرافة وتوجيه جهود الحفاظ على الأنواع نحو الفصائل الأكثر تعرضا لخطر الانقراض، وذلك من أجل الحفاظ على التنوع البيولوجي على كوكب الأرض قدر المستطاع، وحتى لا يأتي وقت يفاجأ فيه العالم بانقراض فرع واحد مثلاً من أفرع شجرة عائلة الزرافة.
المصدر: هسبريس