طيف “إسكوبار الصحراء” في الجامعة.. أكاديميون يلامسون “الإثراء غير المشروع”
قدّمت الجامعة قولها في “الفساد”، من خلال يوم دراسي نظمته شعبة القانون الخاص بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط حول “تجريم الإثراء غير المشروع بالمغرب في ضوء التحولات الوطنية الراهنة”. وحاول اللقاء أن يسلط الضوء على إحدى القضايا التي “لم تنل العناية الكافية” في النقاش العمومي المغربي، رغم “الأهمية الاستراتيجية” التي تحتلها في حماية المال العام وقطع الطريق على كلّ من يطمح إلى استغلال طريق المسؤولية من أجل “الكسب الحرام”.
“نحو تجريم مغربي”
يونس أيوبي، محام بهيئة الرباط وباحث متخصص في تجريم الإثراء غير المشروع، عدّ “التجريم” من “الأولويات” التي يجب على البلدان أن تسعى إلى تبنيها من خلال تشريعاتها الداخلية، إلى جانب تنزيلها الفعلي على مستوى الممارسة، نظرا لأهمية هذه الآلية في مكافحة الفساد على المستوى الوطني أو الدولي، خصوصا أنه “لا توجد إلى غاية الآن أي آلية بديلة لهذا التجريم؛ والوسائل الأخرى من قبيل إقرار الذمة المالية لا تسمح بمتابعة أي كان على خلفية حيازته أموالا طائلة بدون أن تكون مبررة بالنسبة لمداخيله المشروعة”.
وعلى سبيل المثال، أوضح المحامي بهيئة الرباط أنه في المغرب، الذي لم يشرّع بعد التجريم، “لا يمكن متابعة أي موظف عمومي مهما بلغت ضخامة الأموال التي يمتلكها ولو أكدها في إقراره، إلى جانب عدم توفره على تبرير مشروع لمصدرها لأن الركن القانوني منتف في هذه الحالة”. وأضاف “على خلاف باقي جرائم الفساد المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، عرف تجريم الإثراء غير المشروع العديد من الإشكاليات المتعلقة بمضمون النص المجرم، نظرا للاعتقاد المتمثل في وجود قيود دستورية ذات خلفية حقوقية لدى العديد من بلدان العالم التي رفضت لأجل ذلك التنصيص في تشريعاتها على هذه الجريمة”.
القيود الدستورية، حسب المحدث ذاته، “مستمدة بدورها من الالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان، ويتعلق الأمر بالضبط بمبدأين أساسيين محددين لمدى عدالة المحاكمة: الحق في افتراض البراءة والحق في عدم تجريم الذات”. وتابع قائلا: “هذا يعني أن الأمر يستدعي مقاربة الموضوع من زاوية معايير حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، خصوصا أن هذه المعايير تعتبر في البلدان التي تنص دساتيرها على وجوب احترامها نافذة على المستوى الوطني، وتمنح وفق ذلك مركزا أسمى من القوانين الوطنية، من ذلك الدستور المغربي”.
وبعدما أوضح طبيعة الجريمة في مجموعة من القوانين العربية، قال أيوبي إن “المغرب عرف نقاشا حادا بخصوص تشريع هذا التجريم، والحكومة صادقت على نص قانوني لتجريم الإثراء غير المشروع في مشروع قانون رقم 10.16، الذي يقضي بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي، وتمت إحالته على البرلمان قبل أن يتم سحبه من مجلس النواب من طرف حكومة عزيز أخنوش سنة 2021 بحجة أن صيغة المشروع تمس بقرينة البراءة”، واصفا النقاش العمومي بشأن هذا القانون بـ”المحتشم”.
وقصد تجويد نص مشروع القانون الجنائي المجرم للإثراء غير المشروع، أشار الباحث في القانون إلى أنه بالنسبة للأشخاص المشمولين بالتجريم، يقتصر المشروع على الموظف العمومي الملزم بالتصريح الإجباري عن الممتلكات، وهو ما يعني أن فئة عريضة من الموظفين العموميين لن يشملها التجريم، إلى جانب باقي “الأشخاص الطبيعية”، ومن ضمنهم أولئك الذين عهد إليهم بتدبير مرفق عام أو تمويل من مال عام.
واسترسل قائلا: “المشروع أهمل التنصيص على مسؤولية النائب الشرعي عن الذمة المالية لمن هو نائب شرعي له وصيا، كما أنه لم يحدد موقع الزوج من الإثراء غير المشروع، بالرغم من اعتباره من المعنيين بالتصريح الإجباري بالممتلكات، مما يستدعي إدراجه بالصيغة التي لا تمس قرينة البراءة، وهي أن يكون مسؤولا بنفسه عن الإثراء المجرم الطارئ على ذمته المالية في حال كون زوجه مشمولا بالتجريم وبقانون التصريح الإجباري بالممتلكات”.
طيف “إسكوبار الصحراء”
لم يغب طيف “إسكوبار الصحراء” عن مدرج الكلية، حيث ورد على لسان محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، الذي استشهد بملف الاتجار الدولي للمخدرات، الذي أطاح بشخصيات سياسية معروفة “في مواقع مسؤولية متقدمة وقيادات حزبية”، في إشارة إلى عبد النبي البعيوي، رئيس مجلس جهة الشرق، وسعيد الناصري، رئيس مجلس عمالة الدار البيضاء.
ولمح الغلوسي، وهو يتحدث على هامش تدخله، إلى “وجود نخبة سياسية من هذا النوع تزاوج بين المال والسلطة”، مبرزا كيف بلغت درجة الفساد “مستويات مقلقة”. وتابع قائلا: “لسنا في الوقت الحالي بحاجة إلى تجريم الإثراء غير المشروع فحسب، بل نحتاج كذلك إلى تجريم تضارب المصالح”، ذاكرا في هذا السياق رئيس الحكومة، في إشارة إلى فوز شركة تابعة له بمشروع محطة تحلية المياه بالدار البيضاء.
وهو يوضح أهمية التطرق إلى موضوع شائك مثل الكسب غير القانوني، أكد الغلوسي أن “الحديث عن القضية ليس ترفا فكريا ولا مزايدة أو شعبوية أو تصفية حسابات ما، بل نحن في الجمعية المغربية لحماية المال العام نعتبر أن هذا الورش يهم كل الفاعلين بمختلف المواقع، سواء تعلق الأمر بالفاعل الرسمي أو الفاعل المدني أو الفاعل السياسي أو الفاعل في الحقل الأكاديمي”.
كما تحدث عن “اختلاف موضوع الكسب غير القانوني عن بقية الجرائم في المجتمع التي يتسم البحث والتحري فيها بنوع من الإثبات التقليدي: الشرطة القضائية والإثبات الجنائي، إلخ”، مشيرا إلى أنه “حين يتعلق الأمر بجريمة الفساد، فهي جريمة ذات طبيعة خاصة، تتميز بطبيعة مركبة ومعقدة، من أهم خصوصياتها أن الذين يرتكبونها يطلق عليهم في علم الإجرام “أصحاب الياقات البيضاء”، أي أولئك الذين يعرفون المساطر ويعرفون الآليات ويدركون كيف يمكن أن يكون القانون في حد ذاته مدخلا أساسيا للفساد”.
وأضاف “حين نتحدث عن التجريم فنحن نتحدث عن الموظف العمومي بمعناه الجنائي وليس بمعناه الإداري، لأن المشرع في هذا المجال لا يأخذ بمعنى الموظف العمومي كما هو متعارف عليه في القانون الإداري (…)، وهناك تشريعات حاولت أن توسع التعاطي معه ولم تختصره فقط في الموظف العمومي لأن هناك أشخاصا يمكن أن يراكموا الثروة ولو أنهم ليسوا في مواقع المسؤولية العمومية مثل المقاولات التي تستحوذ على حجم كبير من الصفقات العمومية”.
“سياق دولي”
عبد الجليل عينوسي، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، أوضح أن قضايا الفساد بمختلف تمظهراته تسمى عند فقهاء القانون الجنائي “جرائم مستحدثة”، سواء تعلق الأمر بالفساد الإداري أو الفساد المالي، مشيرا إلى أنه “في هذا السياق تدخل جريمة الإثراء غير المشروع لأن إقرار هذه الجريمة يعود بدرجة أساسية إلى سنة 2003 حين أقرت الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد”.
وأبرز عينوسي في مداخلته، التي اهتمت بالسياق التاريخي والدولي، أن الإرهاصات الأولى لاستيعاب هذه المشكلة تعود إلى الحقبة الرومانية، حيث إن القانون الروماني كان يتضمن مقتضيات تجرم الاغتناء غير المشروع بالنسبة للأشخاص على حساب باقي أفراد المجتمع، مشيرا إلى ورودها كذلك في الحضارة الإسلامية التي كان لها باع طويل في تطوير وتكريس مبادئ أساسية للقانون الجنائي، حيث تم إقرار تشريع في عهد عمر بن الخطاب كان يسمى “من أين لك هذا؟”.
المصدر: هسبريس