طقوس الاحتفال بعيد الفصح تعم إسبانيا.. ومسلمون يتوسلون “رحمة المسيح”
تعيش إسبانيا هذا الأسبوع أجواء الاحتفالات الدينية بعيد الفصح، أو ما يسمى بالأسبوع المقدس، وتتنافس الكنائس وجماعات الأخوة المسيحية (Cofradías) في تنظيم استعراضات ومواكب تحمل مُجَسَّمات ليسوع المسيح ومريم العذراء في جو من الخشوع الديني والاحتفالية.
وتتميز مدن الجنوب الإسباني (الأندلس) عن باقي مدن المناطق الأخرى باحتفالاتها وطقوس مرافقة المجسمات في جولاتها على ظهر مركبات مُزَيَّنة بالشموع ترافقها حشود المواطنين بالتراتيل والغناء والغزل في السيدة مريم العذراء بمواويل تعرف بـ”السايطة” (Saeta).
ويربط بعض الباحثين هذا المَوَّال الشهير في الأندلس بفن العَيْطَة في شمال المغرب، ويقولون إنه يحمل الكثير من عناصر الشبه من حيث الصوت والأداء، كما يمتزج بالبكاء والتعبير عن الألم لتضحيات يسوع المسيح، والغزل في جمال أمه مريم العذراء.
الاحتفالات بعيد الفصح في إسبانيا، وفي جنوبها بالخصوص، تتميز عن باقي الاحتفالات بهذا العيد في معظم الدول المسيحية، وارتبطت تاريخيا في إسبانيا بالمؤسسة العسكرية، وبالخصوص بفيلق الأجانب المعروف بـ “لاليخيون” (La legión)، ومن المفارقات أنه فيلق تأسس في بداية القرن الماضي في عهد الملك ألفونصو الثالث عشر، وكان يُعرف بفيلق المغرب لارتباط تأسيسه سنة 1920 بمشاركته في حرب الريف، وللعدد الكبير من المجندين المغاربة فيه (انظر مقالي السابق عن الجنود المسلمين في الجيش الإسباني بجريدة هسبريس شتنبر 2020).
ليس موضوعنا تاريخ هذا الفيلق المعروف بفيلق الموت وبشعاره “عاش الموت” (Viva la Muerte)، ولا علاقته بالحرب الأهلية ومجازر جيش فرانكو في حق المدنيين، ولا عدد المغاربة الذين انخرطوا فيه منذ تأسيسه، ولا مدى استمرار مشاركة المسلمين من أصول مغربية اليوم في هذا الفيلق الذي توجد أهم ثكناته بمدينتي سبتة ومليلية، وهو الموضوع الذي يستحق بحوثا ودراسات معمقة لفهم تاريخ العلاقات بين الضفتين وتعقيداتها.
الموضوع الذي أثارني وأنا أتابع احتفالات هذا العيد وهذه المناسبة المقدسة لذى المسيحيين في الجارة الإسبانية، هو مشاركة جنود هذا الفيلق العسكري من المسلمين في هذه الاحتفالات بشكل مميز في موكب خاص بالفيلق يحمل مجسما ليسوع باسم “مسيح الموت الصالح” (El Cristo de la buena muerte)، ونقلت كل القنوات هذه المشاركة بتركيز يبرز أهميتها لدى عامة الإسبان، وأجواء تنظيمها وترتيبات نقل جنود فيلق الأجانب من مدينتي سبتة ومليلية للمشاركة في احتفالات عيد الفصح بمدينة مالقا بموكب خاص، ومَرْكَبة يحملها على الأكتاف جنود مسيحيون ومسلمون متطوعون من الفيلق المذكور، على ظهر المركبة يقف مُجَسَّم ضخم من الخشب ليسوع المسيح يعود تاريخ نقشه إلى سنة 1928 بمدينة مليلية.
الترتيبات الفنية للعرض العسكري واستعراض المركبة التي تحمل مجسم يسوع المسيح في شوارع مالقا يشرف عليها ضباط من الثكنات العسكرية التابعة لفيلق الأجانب بسبتة ومليلية، وتعتبر من أهم ثكنات هذا الفيلق في إسبانيا، والمثير أكثر هو أن هذه الثكنات تعرف أكبر عدد من الجنود المسلمين المنخرطين في صفوفه، والذين يشاركون في هذه الاحتفالات والطقوس المسيحية، ويشاركون في حمل مجسم مسيح الموت الصالح، ويتبرَّكون بحمايته لهم، ويبجلونه كرمز لما يسمونه بالفيلق الباسل.
عن مشاركة الجنود المسلمين في حمل المجسم الضخم لمسيح الموت الصالح، أفردت جريدة “الموندو” الإسبانية صفحة كاملة يوم الخميس 6 مارس 2023، وكذلك تداولت الخبر هذه السنة مجموعة من المنابر الإعلامية الإسبانية باهتمام.
170 من الجنود بين مسيحيين ومسلمين يشاركون هذه السنة في حمل مجسم مسيح الموت يقودهم الضابط سيرجيو دومنكيز، ويشرح هذا الأخير مشاركة الجنود المسلمين في حفل ديني مسيحي بأنها طبيعية، وأن الجنود المسلمين في الفيلق كانوا سباقين دائما ومنذ تأسيس الفيلق في بداية القرن الماضي للمشاركة في هذه الاحتفالات، يتنافسون ويفتخرون بذلك.
ضابط آخر من الجنود المسلمين المشاركين في الكتيبة التي تحمل مجسم المسيح وتصرخ بالدعاء له وتتوسل رعايته ورحمته وحمايته، صرَّح للجريدة المذكورة بأنه مسلم لا يؤمن بالمسيح كابن الله، لكنه يؤمن ببركاته وأفضاله على فيلق الموت. وصرَّح الضابط المسيحي قائد الكتيبة بأن أحد جنوده من المسلمين المشاركين في العرض قال له ذات مرة وبحماس ـ حسب تعبيره ـ “ربِّي الذي أعبده هو الله، لكن مسيح الموت الصالح يحمينا ببركاته”.
مشاركة المسلمين في طقوس دينية مسيحية، بعضها يتعارض أحيانا مع القناعات الدينية الإسلامية، تطرح العديد من الأسئلة عن الأسباب والسياقات التاريخية في العلاقة بين الضفتين، سياقات تعود في تقديري إلى ما قبل تأسيس فيلق الأجانب في المغرب، ربما تعود إلى تنصير المسلمين في الأندلس بعد سقوط حكمهم، سياقات تعود إلى مآسي الموريسكيين الذين قبلوا بالمسيحية مقابل البقاء في الوطن، وأخرى تعود للذين ضحوا بالوطن مقابل الإسلام من الأندلسيين، وبينهم من حاول الجمع بين الوطن وخليط من الأديان يُضمر جزءاً منه تارة ويبرزه تارة أخرى.
لن أحاول الجواب على هذه الأسئلة التي كما أشرتُ سابقا تتطلب بحوثا ودراسات معمقة، بقدر ما أحاول نقل غرائبية الحدث لمن يراه بعيون اليوم وخارج سياقات التاريخ وإكراهات العيش تحت سلطة المنتصر، إكراهات الانصهار والعيش الآمن، وليس بالضرورة الاندماج والانتماء في ظل التنوع والاختلاف ــ بمنطق اليوم طبعا.
هناك من سيقول إن مشاركة الجنود المسلمين في استعراض مسيح الموت الصالح تتم طواعية وبدون إكراه. لكن تقديري أن تطوع المنهزم أو الأقلية الحالمة للعيش في أمان مع الأغلبية يعطي للإنسان قدرات هائلة للتأقلم والتوحد بالمعتدي، وأعني هنا ذلك المعتدي في اللاوعي الجمعي لدى هؤلاء وغيرهم، وليس المعتدي اليوم الذي لم يعُد كذلك.
سؤال أخير يحضرني بالمناسبة، يتعلق بمدى أن تكون مثل هذه المفارقات عنصر تقارب بين الضفتين، أو عنصر تباعد ونفور، خصوصا، وفي المقابل، نتابع باهتمام وابتهاج وصول مواطنين أوروبيين مسلمين إلى مواقع المسؤولية والقرار في بلدان مسيحية أو ديانتها السائدة مسيحية، وبعضهم يؤدي القسم أمام الصليب المسيحي دون أن يكون ملزما بالتخلي عن إسلامه.
المصدر: هسبريس