“طقوس الإبداع”.. نافذة ثقافية تفتحها جريدة “العمق” لقرائها الأوفياء من أجل تقريبهم إلى عدد من المبدعين والقصاصين والشعراء والزجالين والروائيين، الذين نبحر معهم في عوالم مخاض النص. كيف يكتبون ومتى وأين؟ وما هي حالتهم وهم يبصمون على النص بعد اكتماله؟ كيف هي نفسيتهم، شعورهم وإحساسهم، قبل وبعد الولادة النهائية لإبداعاتهم؟

جريدة “العمق” تستضيف في هذا السلسلة ضمن نافذة “طقوس الإبداع” الشاعر المغربي صالح لبريني، من مواليد قرية أبزو سنة 1970م، بدأ النشر منذ تسعينيات القرن العشرين في الجرائد المجلات المغربية والعربية. صدر له العديد من الأعمال الشعرية والنقدية منها:

حانة المحو منشورات اتحاد كتاب المغرب فرع بني ملال الفقيه بن صالح 2015.
تغريبة الناي منشورات إدسيون بلوس، الدار البيضاء، 2017.
جدير بعزلة الغريب، منشورات بيت الشعر بالمغرب، 2018.
الزنجي، منشورات منتدى الفكر العربي السادس فاس، 2019. حائز على جائزة الشاعر عبد السلام بوحجر.
كورال العابرين، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2022.
أبدية كاملة النقصان، (كتاب إلكتروني) دائرة الثقافة بالشارقة، 2022.
أدغال تفقز بداخلي، دار خطوط وظلال، الأردن، 2023.
مقيمون في نزل الانتظار، دار العائدون للنشر، الأردن، 2024.
شعرية المخالفة قراءة في الشعر العربي المعاصر (نقد)، إدسيون بلوس، الدار البيضاء، 2022.

فيما يلي نص الحوار:

1 ما هو زمن الكتابة بل أزمنة الكتابة كطقس إبداعي وجودي ووجداني لديك، بمعنى آخر: في أي وقت تكتب؟ هل في الصباح أم في المساء؟

لا زمن للكتابة فهي مشرعة على أفق زمنيّ لا محدود، إن اللازمن هو المحدّد الأصل للكتابة، لا لشيء إلا لكونها تتمرّد على الذات والزمان والمكان، بل زمنها اللامحدود يفسح المجال للذات لتمارس جنونها خارج التخوم وقريبا من المجهول.

وعندما نحصر الكتابة بالزمن وفي الزمن فإننا نمارس نوعا من الحجر عليها، ونفرض عليها طقساً زمنيّا معيّنا، والكتابة ضد الطقوس والنظام، فهي كافرة بالطقوس والتقاليد والممارسات التي تحدّث عنها العديد من الأدباء والكتاب، ويمكن اعتبار الكتابة كخلْقٍ وإبداع خارج الزمن لأنها ضد الحادثة، فاللازمن هوية الكتابة الخلّاقة.

الكتابة رسْمٌ لزمن آخر، اقتحام لحرمته وانتهاك لبكارته، زمن الكتابة طرح هلامي لعلّة واحدة تكمن في السباحة ضد تيار الزمن بغية كسْر اللحظة كزمن عابر ومنقضٍ، في حين أن الكتابة سليلة الانفلات والخروج عن المألوف زمنيّا. إنها تخلق الزمن الذي تريد الانوجاد فيه، لا الزمن الذي يخنق امتدادها الوجودي والكوني.

2 هل تمارس الكتابة وأنت في قلق أنطولوجي أم انشراح نفسي؟

إن الكتابة، وأقصد الكتابة الإبداعية، لا وجود لها خارج القلق والتوتر، فعلاقتها بالقلق والشقوة أمرٌ منطقي ويمكن اعتبار القلق ملح الإبداع والخَلْق والابتكار، والقلق والشقوة يعني الوعي بالذات بحثاً عن الكينونة والوعي بأسئلة وإشكالات الواقع ورهاناته.

ويمكن اعتباره المحفّز لمقارعة الوجود والموجود بما يثير الحيرة والإدهاش فيما تطرحه الكتابة الإبداعية من عوالم متخيّلة وأفكار قد تستثير فضوله الوجداني والأنطولوجي.

وإذا كان مصدر ومبعث الإبداع القلق والشقوة فإن خلق النص الإبداعي يتحول في النهاية إلى فرح داخلي يسمو بالذات إلى مقام الصحو تنقيبا عن اللايقين، مادامت الكتابة ارتيابية ولا تستطيب اليقين بل منذورة للشكوك والمجهول.

3 كيف تكون وأنت تستعد لطقس المخاض، أقصد مخاض النص/ القصيدة؟

أثناء المخاض الإبداعي أعثر عني في حالة مزاجية سمتها التوتّر والقلق والانفعال الداخلي، لهذا فولادة القصيدة، في البدايات الأولى، كانت تتخلق في سياق هذا المناخ النفسي الوجداني والعقلي، إذ كنتُ أعتقد أن مخاض الإبداع شبيه بمخاض المرأة أثناء الولادة، وهو اعتقاد غير منطقي بل أعتبره وهما وافتعال للحظة الكتابة الإبداعية، فأثناء الكتابة، بالنسبة لي، أجنح صوب الفوضى والانغماس في الحياة بما تحمله من طقوس تجعل الذات الكاتبة تذوب في عوالمها ووقائعها من أجل اقتناص المدهش والعجيب وعجنه بخميرة الخيال.

أما كون الإبداع يتطلب العزلة والابتعاد عن الجلبة بالإقامة في مقامات الانعزال الكلي عن العالم أعتبر الأمر أوهاما، فالتدفق الشعوري والفكري أي التفاعل الذهني والوجداني مع اللغة يتم صياغته وفق رؤية عميقة للكتابة تتطلب الاستعداد الداخلي للتعبير عن الذات والعالَم.

4 هل تكتب النص دفعة واحدة أم متقطّعا على مراحل؟

كما سبق أن قلت إن الكتابة الإبداعية مرتبطة بما هو وجداني وعقلي وبالاستعداد الداخلي، وعليه إذا كانت العاطفة والفكر متدفقة ومنسابة فإن النص قد يولَد دفعة واحدة، في المقابل إذا كان العي العاطفي والعقلي فإن النص قد يتخلّق عبر مراحل. ومع ذلك يبقى التشذيب والتنقيح والتلقيح ضرورة لإبداع النص.

5 هل تكتب في أي مكان أم في مكان هادئ بعيد عن الفوضى رغم أن الكتابة فوضى خلّاقة؟

يجب على المبدع التخلص من هذه الأوهام التي تعود بنا إلى كتابات عمالقة الفكر والثقافة الذين تفنّنوا في تلقين الدروس للمبدعين الذين هم في بداية الطريق، وهي دروس لا جدوى منها ولا معنى لها، لكون الإبداع منفلت من الزمان والمكان.

ومن تمّ فبالنسبة لي لا أضع طبيعة المكان أثناء الكتابة، قد أكتب في مكان مليء بالفوضى والضوضاء أو في مكان محاط بالسكينة والألفة والعزلة. الأجدر، من وجهة نظري، كيفية استثمار المكان لخدمة النص المحتمل.

6 هل الكتابة مؤرقة أم خلاص من ألم ما؟

الكتابة ممارسة ذهنية وعقلية يقوم بها المبدع للتعبير عن موقفه من القضايا الذاتية والوجودية، وتكون دائما منبثقة من قلق ما منبته أرق السؤال وألم الإجابة عنه في ظل عالمٍ مثقل بما يثير القلق والأرق. ولا يمكن اعتبارها تعويضا عن نقص ما بقدر ما هي رؤية للذات والعالم.

7 كم يستغرق النص من الوقت ليتشكّل كبناء؟

حسب طبيعة الموضوع الذي يلزم المبدع بالتريث والتروّي بإعادة النظر في مسودات النص، والعمل على قراءته مرات ومرات، من خلال، عمليات الحذف والإضافة، التشذيب والعناية، ومتعلّق بالحالة النفسية والعقلية للمبدع.

8 بصفتك شاعرا. أكيد سمعت هذا الكلام الذي مفاده أننا نعيش زمن الرواية. ما رأيك فيه؟ وهل لم يعد للشعر باعتباره ديوان العرب تلك الجاذبية في زمننا؟

الكلّ يدرك ويعي أن الرواية فن إبداعي له خصوصياته الفنية والجمالية، وله القدرة على العناية بالتفاصيل ودقائق الأشياء ويتيح إمكانات هائلة للقول السردي للتعبير عن القضايا الكبرى والصغرى وفق الشكل الروائي، وهي كتاب مفتوح على تحولات العصر وعلى عالمٍ يبحث عن المعنى في زمن اللامعنى.

في المقابل الشعر كائن لغوي هويته المجاز والاستعارة، وفنّ يقول الذات والعالم باقتضاب، عدو الكليّ صديق الجزئي، احتماليّ الدلالة، قادر على صياغة العالَم في كلمات، هويته في اللغة وبها يشكّل الواقع مجزيّا وتخييليا.

ومن هذا التقابل نؤكّد على أن الرواية جنس أدبي يعيش حالة مدّ تداولا وحضورا، لكن الشعر يعرف جزرا على مستوى التلقي، ومع ذلك من الصعب أن نقول إنه تراجع بل اختار الظلال لكونه سليل الصمت والخلوة والعزلة. وتاريخ الشعر مرتبط بالنخبوية والقلقة القليلة والناردة من القراء، ويتطلب قارئا نبيها ولبيبا، وليس قارئا استهلاكيّا.

وهنا الفرق بين الرواية والشعر. ومع ذلك فزمن الرواية صناعة إعلامية رأسمالية في حين أن الشعر خلْق وبحث أبديّ عن الجمال والجليل. ولا فرق بينهما إلا في الأذهان القاصرة.

9 هل الجوائز تصنع المبدع إذا كانت موضوعية تقوم على الاستحقاق والاعتراف وليس على المحاباة؟

أعترف بأن الجوائز سواء كانت ذات موضوعية أو تقوم على المحاباة وهذا هو واقعنا الثقافي في العالم العربي، إذ لا يقرأ المتن الإبداعي بقدر ما يتم التحقيق في هوية ومواقف صاحب المتن، وفي هذا ضاع الإبداع والمبدع، لهذا فمن المستحيل أن تصنع الجوائز المبدع، بقدر ما تحسّن وضعه الاجتماعي وتقتل فيه روح الإبداع الخلاق، وتأمل غالبية الذين حصدوا على الجوائز وخصوصا في زمننا هذا قد خبا وهجهم الإبداعي وأصابهم عي الكتابة الوازنة والعميقة.

بل يمكن القول إن المبدع والناقد اليوم لا يبدع ولا ينقد بدافع الإضافة والإسهام في تطور الثقافة والفكر العربي؛ وإنما من أجل الحصول على الجوائز، فضاع الإبداع ذي الهوية اللامادية إلى إبداع صنيع رأسمالية الثقافة الهجينة والسطحية.

10 هل بقي للشعر معنى في زمن الحروب واللامعنى؟

يمرّ العالَم، في هذه اللحظة العصيبة من تاريخ الإنسانية، من انعطافة خطيرة وذلك في ظلّ ما يجري من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني بغزة أمام صمت العالم الغربي والارتكاسة الحضارية مما أدى إلى انهيار بورصة القيم، وهيمنة اللامعنى، وطغيان الاستبداد بوجوهه المتعدّدة والمختلفة إضافة إلى تواطئ الأنظمة العربية المتخاذلة والعميلة، كل هذا جعل الإبداع الإنساني أمام محكّ هذه التراجيديا الإنسانية لشعب أعزل نتشبث بأرضه ومؤمن بعقيدته وحضارته.

ومع ذلك فالشعر مازال قادرا إلى جانب فنون القول الأخرى للتعبير عن هذه التغريبة الفلسطينية وكذا القضايا الإنسانية، إلا أن هذه الفنون محاصرة ومغيبة بفعل هيمنة السوشيا ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي التي يعمل المتحكمون فيها إلى خنقها وفتح المجال للضحالة والتفاهة.

11 ماذا تقرأ الآن وفي أي فصل تكون نهما في القراءة؟

لا أضع الفصول نصب عيني واهتمامي بخصوص القراءة، لأن القراءة غير مرتبطة بالمؤسسة، فهي مؤسسة قائمة الذات متحرّرة من قيود ما إداريّ طيلة حياة المبدع، لهذا أقرأ بشكل اعتيادي، والتفرغ لقراءة الكتب التي أهملتها خلال سنوات خلت بتجديد الصلة معها.

12 ماذا تعني لك هذه الكلمات:

أبزو: مقام الصرخة الأولى وجودا وكتابة، فيه أيقنت أني منذور للصبر والمقاومة، وعلمني كيف أنتصر على الجهل والخنوع والعبودية، ومنحني القدرة على التحدي والاستمرار في الحياة

بني ملال: الفضاء الذي احتضن شغبي وشغفي الطفولي والإبداعي، وهو مقام له فضل عليّ.

القصيدة: بدونها لا يمكن للعالم أن يستمر، هي ضوء الروح والغيمة التي تسكن الخيال.

الحب: الرصاصة التي لا تقتل بقدر ما تحيي.

المرأة: الكون الذي يحتاج منا كشفه واكتشافه بالحب.

13 ماذا تعني لك هذه الأسماء:

محمود درويش: شاعر استثنائي وعبقري زمانه، متنبي القرن العشرين

عبد الكريم الطبال: سادن القصيدة المغربية المعاصرة، وحارس شفشاون القصيدة الزرقاء.

عبد الله راجع: الشاعر التروبادوري الذي حمل ثقل القصيدة المغربية ورحل مبكرا تاركا إياها في عزلتها الأبدية.

14 أنت كشاعر، هل لوالديك أسماء شاعرية؟

أبي محمد شاعر لا يحمل رسالة ترك ظلّه تحت شجرة العائلة ومات شابّاً.

أمي لالة فطومة بنت لكبير الغبالوية أمهر شاعرة في الحياة والوجود، لولاها لكنت في عداد الحمقى والمشردين.

شكرا لهما لأنهما الشاعران الاستثنائيان في وجودي.

وفي الختام أشكر موقع والأديب القاص والإعلامي رشيد الكامل على هذه الكوة التي فتحتم لي للتواصل معكم ومع القراء.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.